لست أدري السر فيما جري .. فجأة اكتشفت أني أعمل بالحقل الثقافي منذ خمسين عاما .. بالضبط منذ ديسمبر عام 1962 حيث التحقت بشركة مصر للتمثيل والسينما ( استديو مصر ) احدي شركات بنك مصر التي أسسها خالد الذكر طلعت حرب رائد النهضة الإقتصادية المصرية في القرن العشرين ، كانت خطابات التعيين تصل إلينا في المنازل دون أن نعلم عنها شيئا .. كانت البنوك والشركات الكبري ترسل إلي خريجي الكليات والمدارس الفنية طالبة أسماءالعشرين الأوائل وعناوينهم ، وسرعان ما ترسل إليهم رجاء بالحضور لاستلام العمل ، وأعتذر عن إثارة هذا الموضوع الآن فليس من شك أنه ربما يزعج شباب اليوم الذين يعانون من البطالة .. كان هذا دأب الدولة في الخمسينيات والستينيات وما أدراك ما الخمسينيات والستينيات. وصلتني العديد من الخطابات فأهملتها جميعا حتي دق الباب خطاب من استديومصر فقبلت علي الفور وسافرت من بنها إلي الهرم لاستلام العمل ، طلب مني مدير الحسابات الجلوس علي مكتبي .. كان كبيرا وقديما تبدوعلي ملامحه آيات الإهمال ، ولمح المدير علي وجهي بعض الامتعاض ، فقال لي :إنه مكتب عماد حمدي ولم يجلس عليه أحد منذ تركه وانشغل بالتمثيل .. عندئذ انفرجت أسارير وجهي فأنا من محبي هذا الفنان ، وأسرعت بالجلوس عازما علي أن أجعل منه مكتبا أنيقا يحسدني عليه رئيس مجلس الإدارة شخصيا وكان موسي حقي شقيق كاتبنا الكبير يحيي حقي، ولما لمس المدير أني رضيت ناولني في وجهي وسمعي علي الفور بنبأ صادم وهو أننا في هذه الأيام نعمل ليل نهار لننجز الميزانية التي لم تتم حتي الآن ، وهكذا عدت إلي بيتنا في بنها حوالي الساعة الرابعة صباحا ، وتوالت الأيام علي هذا النحو إلي أن اقترح عليّ صديق من عمال البلاتوه وهو المشرف علي حجرات الممثلين أن أنام في حجرة من حجراتهم ، فكنت أختار في كل ليلة حجرة لممثلة شهيرة بدلا من سفري إلي بنها ولم يطل هذا الوضع اللذيذ فقد والدي بسرعة استئجار شقة فوجدت في لحظات شقة ثلاث غرف في عمارة جديدة في أول شارع البحرالأعظم وتطل علي النيل وكوبري عباس وعلي يميني وأنا في الشرفة سينما شهرزاد وكانت الأجرة غالية قليلا فقد كانت ستة جنيهات وبالمناسبة كان المرتب يكفيني ويفيض . كنت أتميز بذاكرة رقمية أذهلت كل العاملين ، حيث أستطيع محاسبة منتجي السينما دون أن أرجع إلي أي أوراق بحيث أذكرالمبالغ وأرقام الفواتير ونوع الخدمات والمبالغ المسددة وأرقام الشيكات التي تسلمناها والرصيد المطلوب سداده كما كنت أجمع الكشف الواحد من أرصدة العملاءوالموردين في ثلاث ثوان بينما كان زملائي يستخدمون الآلات الحاسبة لجمع رقمين ، وهذا ما تسبب بعد ذلك في نقلي بناء علي طلب الكاتب الكبير سعد الدين وهبة للعمل مراقبا ماليا وإداريا للأفلام بعد أن تحولت الشركة إلي قطاع عام أي أنني أتولي العمل بدلا من الشركة في متابعة الأفلام التي ينفذها القطاع الخاص للدولة ، ومن المواقف التي تطلبت مني ابتكارا أن بعض الممثلات كن يعطلن التصوير ويغبن دون سابق إشارة مدعيات المرض ثم يطلبن تغيير العقد ومضاعفة الأجر، وكان المخرجون لا يجدون غضاضة في أن يقولوا لنا : اعطوهن ما يردن لا نريد التوقف .. خسارة الإلغاء أكبر بكثير من قيمة المدفوع لهن ، لكني لم أقبل الرضوخ ومضيت ألهب فكري إلي أن توصلت إلي فكرة.. كلفت الريجيسير ( مورد الكومبارس ) أن يحضر لي خمسة يشبهن تماما يسرا مثلا فيسرع الرجل بعد ساعات قليلة بإحضار عشرة وليس خمسة وأطلب من المخرج الاستفادة بأفضلهن ولو من البروفيل أوبالظهر ، ولما يتأملهن يوافق علي ذلك مؤكدا علي أن الأمر لا يجب أن يستمر فأقسم له أنه لن يطول أكثر من ثلاثة أيام، وفي اليوم التالي أفاجأ بالممثلة حاضرة وتقول:جاهزة يا أستاذ .حيث تكون احدي صديقاتها أو واحد من زملائها الممثلين قد أخبرها أن فلان الفلاني (يقصدني) فعل كذا وكيت .. اعتبربعض المسئولين والفنانين أني قمت بثورة في تلك الفترة . من ثم انتقلت للعمل مديرا لمكتب رئيس مجلس الإدارة الكاتب الكبير عبد الحميد جودة السحار والدكتورعبدالرزاق حسن . كنت منذ عام 1961 أغادر بنها صباح كل جمعة إلي القاهرة لحضور صالون العقاد الذي التقيت فيه بزكي نجيب محمود وصلاح طاهر وعبد الرحمن صدقي والعوضي الوكيل وروحية القليني وأنيس منصور وكثير من الأساتذة والأعلام .. كنت في حضرتهم أكاد أعيش كل عصور الأدب إضافة للفلسفة والتاريخ والعلم ..تلفني لحظات نادرة حيث تطير عصافير الفكروالمعرفة والمعلومات في شتي المجالات من حولي وأنا أجتهد كي ألتقط منها ما أستطيع وأعبئ عقلي وخيالي إلي أن مات المفكر الكبير صاحب الصالون في مارس 1964، لكنني كنت مع الوقت قد أدركت أن الشعر الذي أكتبه منذ سنوات قليلة لا قيمة له خاصة بعد لقائي ببيرم التونسي وصلاح جاهين ،وانتقلت عام 1963 إلي كتابة القصة بعد أن تأثرت بمشهد الجنود المصريين العائدين من اليمن فكتبت قصة الفوج القادم وأثني عليها عدد من الكتاب، وكتبت عدة قصص بعد ذلك ،لكن أول قصة نشرت في المساء عام1966 كانت حلم في الظهيرة ،وفي نفس العام نشر لي أول مقال في مجلة الفكر المعاصر.. كان للدكتور مندورالذي التقيت به أوائل عام 1964 الفضل الأول في إضاءة طريقي وتأكيده علي أني خلقت للقصة حيث أنني حسب قوله- صاحب روح حكاءة وثمة إحساس بالناس والنفس الإنسانية ، لكنك يجب أن تترك طه حسين ومحمود تيمور وتنتقل إلي يوسف إدريس ويحيي حقي ،وكانت رؤية سديدة للغاية فقد كنت عاشقا لهما ، وما أن أقبلت علي إدريس وأعدت قراءة يحيي حقي حتي أدركت علي الفور أن هذه هي الكتابة التي أريد. وبعد سنة تقدمت لمسابقة نادي القصة فحصلت علي المركز الرابع بعد أن كان حظي المركز التاسع قبل عامين، وبعد عامين أحرزت المركزالثاني في الإسكندرية والأول علي الجامعات وكذلك مسابقة وزارة الشباب ، في منتصف الستينيات كان من أصدقائي في تلك الفترة أسامة أنور عكاشة ووفاء وجدي وفاروق جويدة وعنتر مصطفي ومحمد صدقي وعبدالفتاح الجمل وأحمد عتمان ومصطفي محرم ورجاء النقاش وجلال العشري وفؤاد دواره وعبد الله خيرت وإبراهيم عيسي والفنان الضيف أحمد الذي كان متقدما علي في قسم الفلسفة ، علي أنني لا أستطيع أن أنسي أساتذتي الأعلام في قسم الفلسفة وعلم النفس أمثال زكي نجيب محمود وأحمد فؤاد الأهواني وتوفيق الطويل وعثمان أمين وزكريا إبراهيم وإبراهيم بيومي مدكور ومصطفي سويف ( مد الله في عمره) ، وقد كنت عازما علي دخول قسم اللغة العربية لكن في اللحظة الأخيرة قررت فجأة أن ألتحق بالفلسفة ، ومع نجاحي فيها بتفوق عكفت علي وضع رسالة الماجستير قبل أن تسجل رسميا في موضوع الإنسان بين الجبر والاختيار لكن الدكتور زكريا إبراهيم قاومني بشدة واقترح عليّ الدكتور إبراهيم مدكور وكان رئيسا للمجمع اللغوي أن أسجل في موضوع فلسفة الجمال في القرآن فأشرق النور بقلبي وانصرفت أجمع المادة وأبدأ الكتابة لولا أن فوزي المتتالي بالجوائزالأدبية في القصة القصيرة جعلني أشعر أن الفلسفة ليست طريقي وأنني ضعيف تجاه الأدب وإن لم تفارقني الفلسفة ، خاصة إني عندما كنت أنوي التسجيل في موضوع الإنسان بين الجبر والاختيار كنت أعتزم التحيزلحرية الإنسان ، وحدث في حياتي في تلك الفترة عدة أحداث تثبت أن الإنسان مجبر إلي حد كبير علي الأقل في الكليات والثوابت . ومن أسوأ تلك الحوادث الصادمة الاجتياح الإسرائيلي لسيناء في عام 1967 الذي زلزلني بشدة وهدد أحلامي لمصر التي كانت تكبر كل يوم مع عبد الناصر الرجل الذي استطاع أن يحقق كثيرا من الأماني للشعب المصري وللعروبة والدول المستعمرة ، لكنه لم يحسن التخطيط ولم يحسن قراءة المعطيات التي فرضت نفسها علي الساحة بصورة واضحة لا يجب أن يغفل عنها أمثال الرئيس ، فهذا الجزء يجب أن نسأله عنه ونظل نسأل ، لكن أمريكا الاستعمارية لعبت دورا أساسيا وتآمريا فقد أرسل جونسون إلي الروس يطلب منهم أن ينصحوا حليفهم بعدم البدء بالعدوان حتي تمر المسألة بسلام ، وفي المقابل دعا إسرائيل أن تبدأ الحرب وقت تشاء فقد أمن لها الطريق ، كما أن هناك مسئولية عربية فقد تكالبت وسائل الإعلام علي عبد الناصر تتهمه بالتقاعس عن نصرة السوريين الذين تهددهم إسرائيل وقددخلت أراضيهم بالفعل ، وتبين بعد ذلك عدم صحة هذه التهديدات. لكن وسائل الإعلام استمرت تضغط إلي حد قولها :إنه في الحقيقة خائف وليس بقدركلماته .. المهم أنني لم أستطع بعد الحرب أن أصمت أو ألوذ بالسكات والرضا بالقدر، فقد ركبتني الهموم ، ووجدت أن القصة القصيرة لن تعبر عن اللحظة التاريخية التعسة فكتبت أولي رواياتي أشجان عن أسرة في السويس عاشت ويلات الحرب وما بعدها والتهجيروالتشرد واختفاء ولدها جابر الذي تعول عليه كثيرا لرأب الصدع بالنسبة لمشكلاتها. كان ذلك بين عامي 68،1969 ، وأصر صديقي الراحل حمدان جعفرالذي كان زميلي في قسم الفلسفة أن تكون أشجان باكورة أعماله في دار النشر التي سيؤسسها خلال شهور ثم اختفي الرجل عشر سنوات والرواية معه وأنا أكاد أجن فلم يكن عندي صورة بسبب وعده لي بسرعة الطبع إلي أن يستخرج الترخيص ويستأجر المقر ، عرفت بعد ذلك أنه سافر إلي السعودية كي يجمع مالا ، ولما عاد كانت بالفعل باكورة أعماله التي تأخرت عن موعد نشرها عشرسنوات