قصة قصيرة

دخانُ منزوعُ الجِلْد.

الجِلْدُ لا يمكنهُ البتة أن يكُونَ خالداً،والديدان الساكنة في القبرِ؛لم تولَدَ هناك،فقط هيَ جلْد البشري،تتفسخَ،وتتحولْ ،فيما يعني:أن البشريَ تجمعاً وإحتشاداً للديدان،وفي النهاية:الإسمَ الحركي للدودةِ:حشَرة،كذلكَ الإنسان،تماماً،وأكثرْ..
..خيط دخان يزْحَف،يتراقَصَ في مسيرِتهِ،أُفقياً يسري،لايشبه الدُخان المعروف سلَفاً،يصعد منهُ خيط رفيع؛ بنهايتهِ عينانِ مذعورتان،مثبتتانِ بحوافرَ تشبهَ أظافِرَ،رأساَ مذبوحاً..مصلوباً داخِلَ هالة دائرية،ثمةَ سائل بلون أصفَرْ؛ينزلِقَ من العين اليسري،ببطء يسِيحْ،متعرِجاً يمشي،يسقطَ فوقَ حذاء معلَّق علي السقف،يحرِكهُ حثيثَ رياح،يرتطِمَ بحائطَ السجن المتآكِل؛مليئاً بنقوش،تواريخَ مكتوبة بخطِ راعش،ذكرياتِ آخرين عبروا،أمنية مكتوبة بِدَم،وآلام مساجينَ مسحوقين.يرتدَّ الحذاء من ارتطامه،ساقاً آدمية دخانية..براحة قدمٍ مبتورة تطفو،يدَانِ مفتوحتَان؛وأصابعَ تخرجَ من ثقوبِ الحائطِ،وتشيرَ نحوَ الباب.
والتفتوا جميعاً،مفزوعينَ،صوبَ البابْ
يقفَ الجنديَ بوجه شاحِب ،خائفاً،ولاشيء يطفو فوقَ وجههِ غير خوف،مذهولاً،ومسمراً،يحدِقَ من وراء سياج الباب الحديدي،بابَ الزنزانة،عيناهُ تكاد تسقطان،لم تسقطان،ما سقطَ فزاعته،عصاته،وصحيفة مدسوسة بين إبطيه،رأسُ المهندِس المذعوم يُطِل من الصحيفة،ملفوفاً بعمامة بيضاء مرَقَشة،وفوقهُ مينْ شيتْ فيهِ يبَّشعَ بالجنوبيين،ليسَ لشيء،فقط لأن ابنهُ قُتِلَ في الحرب.ويتحركَ الريح،والجسد الدخاني لا يبارِحَ مكانه،هذهِ المرة يزداد وضوحه،خيطان دخانيانِ ينشطران؛لجهتينِ معكوستين،يلتقيان،يرسُمان شيئا منتفخاً،بطن إنسانْ،عارٍ،وجناحينِ بحوافهِ الطرفية،مليئينِ بالريش،كريش الحمامة،بمنتصفِ الرأس آثار شروخ قديمة،فتحةً دائرية،يتسللَ منها ضوء؛تتخللهُ علامات حمراء قاتِمة،دونَ أن تعَّتِمَ الضوءَ المنسرِب.
يصرخَ الجنديَ:ثابِت،أثبتْ،ثابيييتْ،مصوِباً بُندقيتهُ تجاه موسي عفرَتة؛
في حينَ أنهُ لا يعِرهُ اهتماماً،جالساً،ومغطٍ رأسهُ بخرقة متسِخة،منغمساً في قراءتهُ السرية،أصابعهُ تداعبَ سِبحةً طويلة،ليست مستديرة،قالَ ذاتَ مرة أنها منسوجة من خصيةِ عنز صغير،ويحدِقَ داخلَ إناء مفلطحْ نصف مليء بماء،يتفُلَ داخلَهُ،والجسدَ الدخاني يرتفعَ لأعلي،..،لأعلي يرتفِعَ،يتفُلَ،يرتفعَ لأعلي كلما تفَلَ داخلَ الماء،ثم يرفعَ يديهِ وكأنهُ يُمسكَ حبلاً يتدلي،من السماء،من القيامة،من أي مكانٍ لا يُرَي،ينظرَ لأماكنَ وزوايا داخلَ السجن،يتحدَّثَ بصوتٍ راجفاًالحياةُ كأنْ تمشي حافياً،عاريةً قدَمَاكْ؛علي أوغادِ من شظايا زجاجٍ متكسِّرْ،..،أو كأنْ تحمِلَ رئتينِ محشُّوتَينِ بالدمامِلْ...
ويتحرَّكُ الريح،والجسد الدخاني يرتفعَ لأعلي،يتحرَّك،وموسي عفرتة يغمضَ عينيهِ،يغوص بعيداً،ماسكاً حبلهُ المعلَّقَ في الغيب،يتحركَّ الريح،والجسدَ الدخاني يزدادَ وضوحاً،آدمياً كاملاً يتلبسهُ دُخان،عارياً،لا ملمَسَ لهُ،ومسلوخاً،عندما تحدِقَ جيداً تري فيهِ وجهَ موسي،رُغمَ أنه لا يزالَ جالساً،ينظر لأسفل،في الماء،يتراءي شاحباً،داكِناً،متعباً ومعذباً،وعيناه،ذاتَ العينينِ مذعورتان،ثمة عاصفة هوجاء تتقدَم نحوه،في جلستهِ،تزحفَ،تحتويهِ،ترتفعَ لأعلي،لأعلي تحلِقَ،تستدير وتستدير،تطلِقَ هديراً،تتوقفَ بمحاذاة إناءَ الماءْ،قُرَابة السقفِ تندمِجَ مع الجسد الدخاني،أو بالأحري موسي عفرتة الدخاني،صمتٌ،هدوءً و رعبْ،شيئاً فشيئاً تختفي العاصفة،تنسربَ عبرَ مسامات الحائط،وموسي عفرَتة ما زالَ معلَقاً قُربَ السقف الأسمنتي؛بجسدهِ الدخاني المرعِبْ.
الجُنديَ الحارِسَ واقفاً،خائباً،بُهِتَ من الفَزع،يرتجفَ كمن تلبستهُ روحاً مترعةً بالشرِ،مثلهُمْ،ومن هول المشهَد يتعرَّق ويهمهمَ ..وتسقُطَ البُندُقِية،ولا محالة،يسقُطَ الجنديَ،حاملها..،والجندي الآخَرْ؛الجالِسَ فوقَ مقعد حدِيد،سمِيناً،ضخماً ولعيناً،فمَهُ منتفخاً ؛محشُوداً بسَّفة تمباكْسمِعتُ من الزائرين أن سِعرَ التمباك إرتفعَ!!رائحتهُ تشبهَ الجيفةِ والبيض النييء،رافعاً قدميهِ فوقَ طاولة خشبية،خرائطَ علي حذائهِ.البُووت.آثار قذارة مخلوطة بماء،ذجاجة مليئة بأعقابِ سجائر،أوساجِراتْكما يحلُو تسميتهاوذباب ميِّتْ يطفو داخل الزجاجة،السؤال القافِزَ للذهن:ماجعَلَ هذا الذُبابَ يموت هنا،دونَ أي مكان آخرْ؟!!..،وقُرابة الذجاجة صحيفتهُم ذات اللون الأصفَرْ،صحيفةِ المهندسَ المزعوم،يُطلَ مرة أخري،بينَ الأوراق،بجوارهِ عناوينَ بخطوطْ بارزة:..إزدياد اللاجئينْ بالإقليم الشرقي،سَحْق متمردين،هُروبَ الشباب من الوطنْ،وميلادِ خمسينَ طفلاً بِحُفرة ودفنهُم.،.؛والجسدَ الدخانيَ،جسدَ موسي،يتمايل في السقفِ،هادئاً،
مبتسما،ومتأرجِحاً،ينظرَ الجُندي،يفزَع،يطلِقَ ريحاً متعفناً،وللخوفِ طقوسه،مثانتَهُ تفتَحَ نوافِذها،بولهُ يبللَ البنطالِ،وغيرهُ،يقِفَ بكامِلَ الخوف،قلْبهُ رافساً،مهروِلاً،يكاد صدْرهُ يهشِّمَ العظمِ والهيكلِ،ينكمِشَ وجههُ الصارمَ،عيناهُ تتجهَ تلقائياً صوبَ موسي عفْرتة الدخاني،المعلَّق،يُمسِكَ بيدهِ عصاتهُ،وبالأخري يصوِّبَ بندقِية،يصرُخَ ككلَ جندي..أثبِت،ثابِت،ثابييييت،ثاااا....،يضغطَ علي الزناد،صوتهَا يملأ المكان كله،واحدة تلوَ الأخري،تعْبُرَ الرصاصات البوابة الحديدية،بوابة الزنزانة،تخترقَ جسدَْ عفرتة الدخاني،تدخُلَ وتخرجَ،تدخل وتخرجَ من الجهة الخلفية،كان الدُخان يتفرعَ،يتمددَ،ويتماوَج،في الجهة الخلفية تستقرُ الرصاصات علي الحائط،صرخَ الجندي،وقعَ علي الأرض،لُعاب غزير يخرُج من فمهِ،وسائل أسود يسيلَ من كل فتحة يمكنَ أن توجدَ في جسَدِ البشري.
الحرية :لا تمنح،وإنما يتم إنتزاعها.....جيمس آرثر بالدوين.
يحرِّكَ الجسد الدُخاني ريشهُ،جناحيهِ،كريشَ الحمامة،ببطء،تتحرَّكَ عيناهِ المبتسمتان،المذعورتان،الهادئتان،المحدِقتان لكل جهة،يحرِّكَ الريشَ،والريشَ يتحركَّ،يرتفِعَ،ينخفض،يستوي في السقف،وعبْرَ النافذة ثمةَ جندي يستلقي علي بطنهِ،رافعاً قدميهِ لأعلي،واحداً يرتدي زيَاً مصنوعاً من الدَمورية يطرقعَ ظهرهُ،كأنثي تماماً،ينظرَ إليه،وبذاتَ النافِذة يتسرَبَ جسد موسي عفرتة الدخاني،يتحرك،يستديرَ،يتعثَرَ،متعرِجاً هذا الدُخان،يعبُرَ النافذة،وبخروج آخرَ خيط للدُخانْ يسقُطَ جِلْداً بشرياً،متقشِّراً،ومتقرِّحاً،بقيَ الجِلْدَ؛لكنَّ موسي عفرتة:قدْ تعلَّمَ الطيرانْ،فطارْ.
السودان