الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    «واشنطن».. البنتاجون يقيل رئيس وكالة استخبارات الدفاع    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    ملف يلا كورة.. خطة انتخابات الأهلي.. رسائل الزمالك.. واعتماد لجنة الحكام    طائرات الإحتلال تستهدف المنازل في حي الزيتون بقطاع غزة    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    مصرع طالب صعقًا بالكهرباء أثناء توصيله ميكروفون مسجد بقنا    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    رحيل الفنانة المعتزلة سهير مجدي.. فيفي عبده تنعي صديقتها وذكريات الفن تعود للواجهة    حنان سليمان: كفاية دموع.. نفسي في الكوميدي| حوار    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    أبطال فيلم "وتر واحد" يشاركون ويجز تألقه على مسرح العلمين    «الشمس هتغيب قبل المغرب».. كسوف الشمس الكلي يظهر في سماء 9 دول بهذا التوقيت    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    «عايز أشكره».. آسر ياسين يصعد على المسرح خلال حفل ويجز بمهرجان العلمين.. ما القصة؟    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    في مباراته ال 185.. إصابة حكم باريس سان جيرمان وأنجيه    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    العملاق مدحت صالح يبدأ حفله بمهرجان القلعة بأغنية "زى ما هى حبها"    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    أول تعليق من النني بعد فوز الجزيرة على الشارقة بالدوري الإماراتي    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بارباروسا

قارب وحيد‏,‏ ألف صدفة يسكبها البحر في أذن ظل عابر‏,‏ يتحرك بلانكو من خلف الأشجار منحدرا‏,‏ قدمه وقدم الزمن سواء‏,‏ أنفاسه تتلاحق‏,‏ تلفح نسمات الليل جسده‏,‏ المستور بقميص ممزق
ونصف سروال‏,‏ يرتطم الهواء البارد بصدره‏,‏ تغوص قدماه في الرمال‏,‏ ينخلع حذاؤه فلا يبالي‏,‏ يختبئ خلف قارب‏,‏ الماء يبلل قدميه‏,‏ بالكاد يراقب جنديين متجهين بعيدا‏,‏ يغيبان في الظلام‏,‏ يعقد بلانكو العزم علي خطوته الأخيرة‏,‏ يدفع القارب صوب الماء‏,‏ تنفر عروقه‏,‏ يلهث تعبا
هيا‏...‏ هيا‏...‏
يجفف العرق عن عينيه‏,‏ أخيرا يتأرجح القارب علي صفحة البحر‏,‏ يأبي الالتفات خشية أن يراه أحد‏,‏ يسبح وحبل القارب في فمه‏,‏ الشاطئ يغيب ويظهر علي اهتزاز الموج‏,‏ يقفز الي باطن القارب‏,‏ يجدف وجسده يرتجف من البلل‏,‏ يصرعه التعب في حلبة واسعة للوهن‏.‏
توقظه شمس منذ متي لم ير الشمس لم يشعر بوخز لسعاتها في جلده‏,‏ الماء حوله في كل صوب‏,‏ أين؟ والي أين يا بلانكو؟
سيكتشف زياد هروبه‏,‏ سيقرأ الرسالة من بلانكو الي زعيم الثوار‏:..‏ هربت بحثا عن ماري
سفينة تلوح في الأفق‏,‏ يجدف بعيدا عنها‏,‏ تخور قواه‏,‏ لابد أنها لهم‏,‏ جاءوا لأجلي‏,‏ تقترب السفينة‏,‏ يلقي بنفسه الي المياه‏.‏
زياد وآخرون يرهفون السمع لبلانكو المستلقي علي بطنه‏,‏ يد تمسح علي جروح ظهره بمطهر‏,‏ يحكي مغمض العينين‏.‏
قالوا‏..‏ أياما وتخرج‏.‏
حجرة معتمة‏,‏ ضوء شمعة‏,‏ صوت وحيد‏,‏ مع مرور الزمن‏,‏ يتمدد التعب بخيوطه في كل جسدي‏,‏ ألف سؤال‏,‏ تطرق به رأسي‏,‏ أفيق لأجد نفسي بين آخرين‏,‏ جلبة ترتد في الجدران الصماء كعملة عتيقة‏.‏
تحركوا‏..‏ تحركوا‏..‏
نسير في دهليز ممتد ومتعرج‏,‏ امتص الدهليز من الجنود الظلمة والرطوبة‏,‏ نهبط درجا الي طابق سفلي‏,‏ رائحة ارضيه تخبرنا‏,‏ أنها لم تر الشمس يوما‏,‏ ننزوي في مقبرة واحدة‏,‏ رطبة تصول الحشرات فيها والجرذان‏,‏ العرق محتجز في قمصاننا وعرينا علي السواء‏,‏ أحذيتنا تبللها مياه راكدة‏.‏
تلكزنا أياد‏,‏ من الظلام كحيات سوداء تنهش وتعود لجحرها‏,‏ يدفعوننا بقسوة الي مكان أوسع‏,‏ بعد وقت ثقيل يفكون العصابات عن العيون‏,‏ بالكاد نبصر‏:‏ قنديلا باهت الضوء‏,‏ الصراخ من حولنا لا يتوقف‏,‏ الجنود يضعون علي رءوسهم خوذات كأنهم يحاربون في معركة طاحنة‏,‏ يسحلون واحدا الي جلاد‏,‏ وآخر يضعونه في دولاب من الحديد السميك به أسلحة ثم يغلقونه ببطء ولذة‏,‏ ينفلت الصراخ متقطعا وأحيانا متصلا وأحيانا صرخة قوية بعدها صمت يجف له الحلق‏,‏ ثم يواصلون عملهم‏,‏ تنساب الدماء علي وجه الدولاب في خيوط مديدة‏,‏ ثم تنتهي بقطرات‏,‏ تكون بركا لزجة وحمراء تخوض فيها الجرذران‏,‏ يجرجرونني ثم يعلقونني‏,‏ يمزق أحدهم قميصي‏,‏ تتقدم جثة هائلة في يدها سوط من جلد معقود علي الرصاص‏,‏ من الضربة الأولي صرخت وصورتا ابنتي وزوجتي تأرجحتا أمام عيني‏,‏ مع الضربة الثانية دارت بي الأرض‏,‏ وغابت العيون المبتسمة‏,‏ الأصفاد تجرح أطرافي‏,‏ دمائي تسيل دافئة‏,‏ ضربة ثالثة أفقد بعدها الوعي‏,‏ وأفيق علي جروح لا أذكر متي حصلت‏..‏ رائحة نتنة تزكم أنفي‏,‏ يجرجرونني الي كومة من الأجساد ينبعث منها أنين خافت‏,‏ بين الوعي وعدمه أري علي ضوء مشاعل معلقة في الأركان عضاضة لحم تعض نهدي امرأة‏..‏ حذاء حديدي شديد الاحمرار‏,‏ يحملونه بساق من حديد طويلة‏,‏ يدسون فيه قدما رجل‏,‏ أشم رائحة احتراق لحمه مخلوطا بصراخ هائل‏.‏
‏......‏ أفاق علي سطح السفينة
ياريس عروج‏..‏ ياريس‏.‏
يطل وجه عروج علي بلانكو‏,‏ ندبات كثيرة علي الوجه والجزء الظاهر من الصدر‏,‏ كفه اليمني ليس فيها سوي ثلاثة أصابع‏.‏
أنت هارب؟
يسترد وعيه للحظة‏,‏ يتحسس حزاما حول وسطه مرددا
ماري‏.....‏ ماري‏.....‏
ينظر للوجوه المحيطة به‏,‏ جسده المنهك يقشعر قليلا‏,‏ يرخي جفنيه كأنما يستسلم للموت‏.‏
‏000000‏
يهمس الطبيب
ليس أمامك إلا العفو من الكرسي الرسولي‏.‏
في الزنزانة تخضبت وجنتا بلانكو بالدموع شاكرا الله علي نجاته من عقوبة الكفر الصريح‏,‏ اتهم بذنب هو نفسه يجهله فكانت العقوبة مصادرة كل أملاكه والحبس العام‏.‏
كان العام ثقيل السير‏,‏ عابس الوجه‏,‏ موسيقاه أنين مسجونين وصراخ‏,‏ للبيت رائحة تسكن صدره‏,‏ يحلم أن يشم هذه الرائحة مرة أخري‏,‏ يرجع لابنته وزوجته‏.‏
قبل أن تمتد يده لفتح الباب يقبضون عليه مرة أخري‏,‏ فزع
ماذا حدث؟ أين زوجتي وماري؟
زج الجنود به الي نفس الزنزانة‏,‏ تحدث قس
خرجت خطأ يا بلانكو
تذكر قول الطبيب
ليس أمامك إلا العفو من الكرسي الرسولي
يرشو الجنود لإحضار شمعة وصحيفة وريشة ومحبرة‏,‏ بأنامله المرتعشة يكتب العفو‏,‏ تفوح من الشمع المنصهر نفس رائحة العفن‏.‏
تحدث القس الجالس خلف مكتبه
انت تعرف يا بلانكو أن الديوان المقدس لا يقبض علي أحد دون أدلة كافية‏,‏ إننا نطارد الكفر والزيغ وذلك للمحافظة علي سلامة العقيدة الكاثوليكية ونقائها‏.‏
يقلب القس أوراقا بين يديه
أنت قدمت طعنا بطريق الاستئناف أمام السوبريما
يزفر القس ويردف
للأسف رفض‏,‏ ثم قدمت التماسا بالعفو من الكرسي الرسولي‏,‏ ألا تعرف كم سيكلفك هذا العفو؟
سأقدم كل ما أملك
للأسف صودرت كل املاكك
يقشعر بدن بلانكو من صرير الريشة فوق الصحيفة
‏***‏
في قمرة الريس عروج‏,‏ نظر الريس لأخيه الأصغر إلياس
الأسبان أقوي اسطول في البحر
أجاب الياس
أن تسمع عن العذاب غير أن تراه‏,‏ الاندفاع وراء العواطف‏,‏ قد يوقعنا في عواقب وخيمة
عبس إلياس قليلا‏,‏ ساد صمت طويل‏,‏ عروج يقلب الأمر في رأسه
‏***‏
تتوقف السفينة بعيدا عن شاطئ مدينة بلنسية‏,‏ يستقل بلانكو وعروج ثلاثة بحارة قاربا إلي الشاطيء ليلا‏,‏ تحركوا إلي البحر حتي تسمعوا إشارتي‏,‏ يسيرون إلي الجبل عبر طريق وعر‏,‏ حتي بداية مدق يؤدي إلي احد الجبال‏,‏ يستوقفهم رجل‏,‏ يرد بلانكو‏.‏
أنا بلانكو‏..‏ بلانكو‏..‏
يقترب الرجل في حذر حاملا في يده اليمني شعلة‏,‏ يحدق في وجه بلانكو
لماذا عدت؟
قالها الرجل وهو يفسح الطريق لهما‏,‏ يندهش زياد لعودة بلانكو‏,‏ في خيمة قائد الثوار‏,‏ علي ضوء المصباح القابع علي منضدة خشبية‏,‏ يروي بلانكو ما جري‏,‏ يرحب زياد بالريس عروج
لدي بعض الصغار والعجائز‏,‏ لا يتجاوزون العشرين فردا‏,‏ في قرية قريبة سيصطحبك بلانكو وعدد قليل من الرجال إليها‏,‏ لا تقلق فهي آمنة‏..‏
تساءل عروج
هل يتعاون معك أحد؟
علي فترات متباعدة الريس سنان‏..‏ الريس صالح‏..‏ الريس أيدن
بسط عروج يده لزياد
وعروج أيضا
مع تباشير اليوم التالي تغادر السفينة شاطئ الأندلس‏,‏ لم يتوقف بلانكو عن الحكي‏,‏ يحكي لكل الرجال وفي الليل يستلقي علي ظهره‏.‏ لم يتوقف عن الحكي‏,‏ حكي لكل الرجال‏,‏ في الليل استلقي علي ظهره محدقا في القمر وظل يحكي حتي وهو نائم كان يحكي‏,‏ وهو يخبط الماء بأصابعه المقطوعة كان يحكي‏,‏ ينظر لصورة ماري ويحكي‏..,‏ يقول امنحوني عودا يحرك أصابعه ويحكي‏.‏
‏***‏
‏(2)‏
دقت يد الباب وكل من فيه يشرب من كأس النوم ما يكفي للصباح‏,‏ غادر خير الدين بأعوامه الثمانية عشرة فراشه متثاقلا‏,‏ يتناول ثيابه‏,‏ يهبط إلي الطابق السفلي من الدار وهو يرتدي المعطف‏,‏ هابطا علي بصيص ضوء خافت من المصابيح المعلقة علي مسافات متباعدة‏,‏ لم تكف اليد إلا علي صوته متسائلا عن الطارق‏,‏ الذي أجاب
عروج في الحانة
قفز خير الدين باقي الدرج ثم زعق بكل صوته
أبي عاد عروج‏,‏ سأذهب إليه
ارتفع صرير الباب والشيخ يعقوب أعوامه الثمانين يفرك عينيه‏,‏ سار إلي نافذة حجرته‏,‏ يبصر أصغر ابنائه‏,‏ يجري في عمق الشارع المظلم إلي آخر مناديا علي أكبر اخوته عروج‏..‏ عروج‏..‏ عروج غير مبال بزخات المطر المتساقط‏,‏ متجنبا الحفر المختبئة تحت تجمعات المياه‏,‏ يدلف من شارع إلي آخر‏.‏
عروج علمه المبارزة بالسيف‏,‏ أول من ركب معه البحر‏,‏ إلي مصر والشام واستانبول وتونس‏,‏ حتي العام الماضي‏,‏ استدعاه
يمكنك أن تبحر وحدك‏,‏ سأهبك سفينة والأخري ستكون لي أنا وإلياس‏.‏
فكر أن يسأل أخاه
لماذا لم تهب إلياس سفينة وأبقي معك؟
ابتلع سؤاله‏,‏ استعد لرحلته الأولي‏,‏ كانت حبيبة تتلألأ علي الشاطئ بجسدها الممشوق‏,‏ وشعرها الأسود مسترسلا‏,‏ يداعبه الهواء‏,‏ لوحت مبتسمة‏,‏ صوت عروج يخترق لحظات العشق
أتحب أن يأتي معك إلياس؟ أم تأتي معي؟
تساءل بماذا يجيب؟ سكت للحظات ثم أجاب
وإلياس
أكمل عروج
إلياس حنون‏,‏ رقيق المشاعر أم أنت قائد
لحظتها علم أنه كان تحت عيني الريس عروج‏.‏
رائحة اليود ممتزجة برائحة السمك وعرق الرجال في الميناء تصل إليه قبل صخب الأمواج الذي يزداد كلما سار صوب الميناء‏,‏ بالقرب منها توجد ثلاث حانات متفرقة‏,‏ يقف ليلتقط أنفاسه‏,‏ يجفف العرق المتصبب علي وجهه‏,‏ قطرات المطر تحجب الرؤية‏,‏ يمسح وجهه مرتين‏,‏ يواصل الجري في محاذاة الشاطئ‏,‏ أضواء شاحبة تسللت من نوافذ كالحة‏,‏ يرسم ابتسامة علي وجهه‏,‏ عيناه حددتا موقع حانة ألبرتو‏,‏ أمام بابها تمثال لرجل روماني علي يمينه مصباح وعلي يساره مصباح‏,‏ ضلفتا الباب ملتصقتان‏,‏ يدفعهما داخلا في ممر لا يجاوز نصف المتر‏,‏ خشب الأرضية يئن خافتا‏,‏ كل من في الحانة يلتفون في دائرة أسفل القنديل المعلق في وسط السقف‏,‏ يرهفون السمع لصوت خافت‏,‏ يخطو بحذر خشية أن ينفرط عقد الجالسين‏,‏ تلتفت إليه‏(‏ جومانة‏)‏ تلك المرأة التي يعرفها أهل الجزيرة‏,‏ تتمتع ببدانة مفرطة‏,‏ وعينين واسعتين‏,‏ فإذا تملكها الغضب يزداد اتسعهما‏,‏ تنظر إليه نظرة عتاب ولوم‏,‏ ينزع المعطف المبتل عن جسده‏,‏ الزجاجات والأكواب متناثرة علي المناضد‏,‏ البعض يجلسون بالقرب من الدائرة‏,‏ يرهفون السمع‏,‏ عيناه تبحثان عن عروج‏,‏ سؤال يطن في رأسه
لماذا كل هذا الصمت؟
ثم سؤال آخر
أين صخب العائدين؟ وغناء جومانة بصوتها القوي وعزف زوجها ألبرتو يلتصق بالدائرة‏,‏ الوجوه نصفها مضيء والآخر معتم‏,‏ تفسح له الأجساد مكانا‏,‏ الكل يحملق في رجل تجاوز الأربعين‏,‏ يرتشف الآن جرعات من الماء‏,‏ عظام الوجه بارزة‏,‏ نحيل الجسد‏,‏ طويل القامة‏,‏ بجوارة عروج وإلياس‏,‏ اردف بلانكو حديثة بصوت آت من بعيد‏.‏
يطوف المنادون علي بغالهم المدن‏,‏ يقرعون الطبول من مدينة إلي أخري ومن قرية إلي أخري‏,‏ يعلنون قرارا وراء آخر
محظور البيع لشخص من أصل عربي
محظور الاحتفاظ بأي مخطوط أو كتاب
محظور امتلاك سلاح أو حمله
محظور إيواء أو حماية المخربين
يتدخلون في كل شيء‏,‏ حتي حياكة الثياب‏,‏ اعتدت علي المحظورات وتجنبتها خوفا علي ابنتي الوحيدة وزوجتي‏,‏ رجعت في منتصف النهار ليأخذني القشتاليون إلي التحقيق‏..‏
عينا بلانكو تحدقان في شيء ما‏,‏ ربما الجالسون هناك في ركن بعيد‏,‏ علي منضدتهم شمعة انصهرت تقريبا‏,‏ يستترون بالظلام‏,‏ يصغون إليه‏,‏ يجفف وجهه من العرق أردف
لا تسألونني كيف قفزت مع رجل آخر من عربة تجرها الخيول إلي الغابة‏,‏ دلفنا من مكان إلي ثان وثالث‏,‏ حذرني الرجل
سيتربصون ببيوتنا‏..‏ تعال معي‏..‏
بكيت وأنا أنظر لكفي‏...‏ سرقوا اصبعين‏..‏ متي‏....‏؟ لاأعرف‏,‏ ربما وهم يضعون حول رأس رجل إكليلا من الحديد بمسامير حادة ناتئة من الداخل يدور بلولب حتي ينغرس المسمار في الرأس فتخرج آهته حادة‏,‏ عيناه تتشبثان بوجهي تتوسلان إغاثة‏,‏ ربما وهم يستلون لسان امرأة فتندفع الدماء من فمها لأخرس‏,..‏ عشت مع الثوار شهورا‏,‏ لاأفكر إلا في زوجتي وماري‏,‏ حتي جاءني رجل زوجتك ماتت من التعذيب‏.‏ ابنتك لايعرف أحد عنها شيئا ربما بيعت وربما في أحد السجون وربما‏.‏
يفك بلانكو من خصره حزاما أسود‏,‏ يبسطه علي المنضدة‏,‏ ويخرج منه رقعة من الجلد ملفوفة برباط أسود‏,‏ يفك الرباط بحرص شديد‏,‏ في داخل الرقعة صورة رسمت بالرصاص لفتاة رقيقة الملامح‏,‏ يشير إليها‏.‏
هذه ابنتي اسمها ماري‏..‏ احفظوا شكلها‏..‏ ماري بلانكو‏..‏ إذا رأيتموها في أي مكان أخبروني‏,‏ سأبقي معكم هنا في الجزيرة‏...‏ اسألوا أصدقاءكم في الموانئ الأخري‏,‏ سأرسم لكم صورا لمن يطلب ليسأل عنها في أي مكان‏.‏
توقف عن الحكي‏,‏ الوجوه يتريها الحزن‏,‏ يحمدون الله في سرائرهم أن الظلام يواري انتكاس الرءوس‏,‏ تبدل جمانة قدح الماء بآخر‏,‏ يجرعه الرجل دفعة واحدة‏,‏ يبتسم شاكرا‏,‏ يتكئ علي ساعد عروج‏,‏ الذي انبعث صوته أول مرة‏.‏
طابت ليلتكم يارجال‏.‏
يعانق خير الدين عروجا ثم إلياس
خطواتهم ساكتة‏,‏ صخب الموج يخفت تدريجيا كلما اتجهوا إلي دار يعقوب‏,‏ بضع خطوات ويقفون ليلتقط بلانكو أنفاسه ثم يواصلون السير من جديدة‏.‏
كانت الحركة والصخب يملآن دار يعقوب فرحا بعودة عروج‏,‏ من النافذة عرف من في البيت أن هناك شيئا ما‏,‏ سألت سهيلة زوجها إسحاق عن الشخص الرابع‏,‏ هز كتفه متجاهلا‏,‏ نزلت الدرج‏,‏ تنادي علي الجارية‏,‏ التي انهمكت في إعداد الطعام‏,‏ يعانقون الأب‏,‏ بهمسة عتاب قال يعقوب‏.‏
تأخرت هذه المرة ياعروج
يحتضن إلياس أخاه إسحاق‏,‏ يشاركهم بلانكو العشاء‏,‏ علي أضواء الشموع‏,‏ يحكي عروج كثيرا وكثيرا‏,‏ الجارية تملأ الصحاف كلما فرغت‏,‏ يرحب يعقوب بالضيف كلما أمكن‏,‏ استأذن الضيف‏.‏
إنني في حاجة إلي النوم
اصطحبه عروج إلي الطابق العلوي‏,‏ تمدد بلانكو علي الفراش
آآآآه‏,‏ منذ زمن بعيد لم استلق علي فراش ياريس عروج
نم ولاتقلق أبدا
بين غطيط نومه تنبعث آهات‏,‏ كلمات متقطعة‏,‏ بين وقت وآخر يرتجف الجسد‏,‏ يهبط عروج إلي الطابق السفلي‏.‏
بينما النوم يريح جسد بلانكو الواهن‏,‏ كان إلياس يقص عليه قصة بلانكو كلمة‏..‏ كلمة‏,‏ فترتسم الكلمات بحروفها علي صفحة الليل العديد من صور العذاب‏,‏ وهم علي هذا البعد المكاني يسمعون الصراخ المتواصل‏,‏ صرير السلاسل‏,‏ حركة الأصفاد‏,‏ أنين الأبواب الصدئة‏,‏ خطوات القشتاليين‏,‏ يدكون الأرض بأرجلهم‏,‏ خلف الجدران الغليظة لزنزانات تحت الأرض يقف حراس يقظون يذهبون ويعودون‏,‏ يلتفتون يمينا ويسارا‏,‏ يحدقون في كل شيء حتي الأسلحة التي بين أيديهم ومع هذا وصل إلي هذه الجزيرة بكاء الموريسكيين ورائحة موتهم‏.‏
تحدث إلياس‏.‏
شيئان يتقنهما بلانكو الحكي والرسم‏,‏ حتي جوانب السفينة تزينت بصور ماري
تساءل إسحاق
ياخضير أنت تعرف عددا من اللغات‏,‏ قل لي ماذا تعني موريسكيون؟
هو لفظ قشتالي يعني النصاري الجدد أو الصغار‏.‏
غادر عروج الدار دون أن ينتظر أي تعليق أو ورد‏,‏ واصل السير في الطرقات إلي دار العصافير‏,‏ هذا اللفظ أطلقه البحارة علي بيت للغواني‏,‏ يقترب البيت من الميناء وفي مأمن العواصف‏,‏يسير عروج في بهو واسع خافت الضوء‏,‏ تنطلق من خلف الحجرات الموصدة ضحكات خليعة‏,‏ تعترض صاحبة البيت سيرة بثوبها‏,‏ الذي يخبره أن هناك من ينتظرها في الداخل‏.‏
جئت لتبحث عنه
أين هو؟
تشير بيدها إلي حجرة بعينها
إنه هناك
تردد عروج بعض الشيء‏,‏ أردفت
آه‏,‏ وحيدا لاتقلق
يتجه للحجرة‏,‏ يدفع الباب‏,‏ يعتدل يسي مندهشا
الريس عروج‏!!‏
كان يسي نصف عار‏,‏ وقف محملقا في الريس‏.‏
لاتغادر السفينة دون إذن مني‏.‏
أوصد عروج الباب‏,‏ دون انتظار إجابة من يسي‏,‏ الذي جلس علي الفراش مذهولا عروج‏..‏ عروج بنفسه جاء إلي‏,‏ يتحدث بغلظة كأنه يملكني‏...‏ الرحلة الأخيرة لم أخرج فيها معه عمدا‏,‏ ماذا يقصد بهذا الحضور؟ الاستخفاف‏,‏ دنو المواجهة‏..‏
عاد عروج إلي البيت وعقد العائلة ينفرط‏,‏ استأذن إسحاق ودلف غرفته‏,‏ في الفراش تتمدد سهيلة بثوب خفيف يلملم جسدها القصير‏,‏ كما يحيط شعرها الأشقر بوجهها‏,‏ تخفف من ثيابه قائلا‏.‏
أن تسمعي قصصا عن المويسكيين شيء وأن تسمعي منهم شيء آخر‏.‏
يقولون إن أسوأ مافعله الملك عبدالله بن محمد هو تنازله عن غرناطة‏.‏
قالت أمه عائشة له بعد توقيعه علي التنازل ورحيله من الأندلسس‏..‏ فلتبك كالنساء علي ملك لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال‏...‏
سمعت من أبيك أن هناك أرضا جديدة اكتشفها رجل يدعي‏...‏ يدعي‏.‏
آه تقصدين كريستوفر كولومبس‏(‏ يبتسم‏)‏ سمعنا أنه وصل إلي الأندلسي مكبلا بالأصفاد وسيغادرها إلي الأرض الجديدة‏.‏
أتعرف أين هي‏...‏؟
لم يفكر أحد إلي الآن في الإبحار إليها‏..‏
تقبل شفتيه‏..‏ تهمس بصوت خافت
أوحشتني
يمس شعرها الطويل المنساب علي جانبي وجهها
وأنت
ربما لم تمنحها الحياة أولادا من هذا الرجل‏,‏ الذي تنعم بين ساعديه‏,‏ عيناه تخبرها بذلك الحب الذي لايهدأ أو يخبو يوما‏,‏ فجذوره هناك في أيام الصبا‏,‏ قبلته الأولي هناك فوق كومة القش قال أحبك‏..‏ أحبك‏..‏ قالها بعد القبلة‏,‏ التي لها نفس مذاق القبلات التي يغمرها بها الآن‏.‏
من رواية جديدة تصدر قريبا عن دار أرابيسك في القاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.