إذا كان للمكان دور في تحديد ملامح الحياة في أبعادها المختلفة فان المكان في منطقة القناة جسد تاريخاً ناصعاً للنضال والمقاومة في السويس وبور سعيد والإسماعيلية امتدادا للعمق الحدودي في سيناء . ويتجسد دور المكان من خلال البشر الذين يقيمون فيه حيث تقوم علاقة تفاعلية متصلة تجعل المكان نابضاً طوال الوقت بما يصنعه هؤلاء البشر من تواصل مع المكان حيث يصير رمزا معنويا يؤصل في كيانهم القيمة ويشعل في مشاعرهم الأحاسيس الوطنية التي تتحول في الشدائد والأزمات إلي منظومة نضالية تصنع عبر علاقتها بالمكان تاريخاً حيا علي الأرض تتشكل به أفكار وثقافة وملامح الناس . في هذا الإطار عاش الشاعر البورسعيدي ( محمد عبد القادر ) فجاءت تجربته انعكاساً وجدانياً لهذا التشكيل الجميل من المعاناة والصبر وتحمل الصعاب ومجابهة الحياة بمفردات نضالية تتماهي مع منظومة النضال التي جابهت الاستعمار والحروب والتي تداعت أسلحتها الفتاكة علي الناس ... الخ . ظل المكان نابضاً بالحياة عبر إرادات تتعامل مع التحولات بما يتلاءم مع ضرورة استمرارها وهو ما بدا جلياً في قصيدة ( محمد عبد القادر ) في ديوانه ( طرح البحر ) ، إذ تبدو الحياة علي لسان القصيدة وكأنها صوت هؤلاء البشر الذين ينتمي إليهم الشاعر انتماء تجلت حقيقته بامتداد قصائد الديوان ، كما أن المنهج الذي قامت عليه الرؤية الشعرية تجلي في قصيدة ( حدود ) التي جاءت في عمق الديوان حيث حدد الشاعر ... الشعر كان الهدوم وكان غموس الدفا الشعر علمني أعوم واديّا .. متكتّفه البحر كان قبلتي والرمل كان ميضه مديت حروف كلمتي لقلوعك البيضا . ص 84 ومن البداية ويؤكد العنوان ( طرح البحر ) علي رؤية تأصيلية للقصيدة إذ إن الطرح لا يتم إلا عبر حقب طويلة وهو في الدلالة الشعرية يعكس الإنجاز التاريخي والسياسي والثقافي والديموغرافي الذي تشكلت به شخصية الإنسان والمكان ، ثم جرت بين دفتي الديوان القيم التي ميزت وشكلت الملامح التأثيرية للمكان عبر تجارب البشر -والنضال المستمر ، المقاومة ، التشبث بالمكان تعظيم العلاقة به - عبر تقديم جمالياته وتاريخه النضالي ليظل ذاكرة حية تنبض بكل المعاني الوطنية التي تشكل تجارب الأجيال . ويتجلي النضال عبر مسيرة الأجيال من أول قصيدة تحت عنوان ( اللقاء ) إذ يستعيد الشاعر الزمان الصعب الذي حفرت فيه القناة وكيف أن المصري الذي حفرها كان مسخراً ومقهوراً علي ذلك من حاكم غريب ومستعمر يحكم قبضته علي مقدرات الوطن ، فضحي المصري بحياته حتي صارت القناة شرياناً يسهم في إعلاء الحضارة الإنسانية والتي ما تزال تهدد أحفاده بقوتها الباطشة ... السخرة .. صخرة .. فوق صدورنا من بدايات التعارف لانتهايات التآلف . ص 10 تمتد الذكريات الأليمة في قصيدة ( الميلاد ) فيرصد الشاعر الأبعاد القاسية للظلم والإجحاف والاستغلال والاهانة التي تحملها المصري طويلاً عبر أجيال ، وقد مزج الشاعر ( محمد عبد القادر ) فيما بين الغنائية المحملة بالحكم الشعبية والمقولات التي تعكس جماليات اللغة اليومية .. آخر المتمة .. بعد المرمة خِلصت قنالي وبسعر غالي عاشوا اللي عاشوا .. ماتوا اللي ماتوا قالوا القناة هي الأمارة عليت يا جدي أوّل إشارة قالوا التجارة هي الحضارة هاللوا الشراقوه .. جونا المنازلة صارت مودّه .. والدنيا .. عُزله جات كوبانية افحر يا جدي يا مِدرة هاتي يا مِدرة ودي . ص 14 وتتجلي الرؤية الشعرية بالمنزع التأصيلي الذي يراه الشاعر في تقوية العلاقات الإنسانية بين أبناء المجتمع في هذا المكان النابض وبين أبناء الوطن في الداخل ، حيث تمثل هذه العلاقة عبر المصاهرة والنشاطات الحياتية أساس الوجود الإنساني وتقوية حقيقة لدعائم الحياة بالمكان في مواجهة كل محاولات التمزيق والاجتثاث للإنسان وكل عناصر الحياة .. وتتألق الاستعادة الشعرية للذكريات بحالة - ونس حميمية تؤكد التأصيل من منظور الإبداع الشعري ، إذ إن الروح الشعبية التي تحمل ملامح القصيدة تتصل بمؤسس المدرسة (بيرم التونسي ) وتستنهض من شموخ الزعيم ( فؤاد حداد ) الذي فاحت عطوره بالعبق الذي جمع صلاح جاهين وهو ما عكسته قصيدة ( السبوع ) وهي علي طولها ترتبط سطورها الكاشفة ببعضها البعض ، لكننا هنا نتوقف مع دعوة التأصيل والتمسك بالهوية .. ما تيجي يا عمي نكون بمبوطية نسيب الجزيرة ونغطس شوية نشوف الملاحة ونركب فلايك ونصنع جوابي ونغزل شبابيك ونبدأ نلاغي .. نكلم نشاور نبادل نتاجر ونفتح مناور مدام لانجليزي مقفل علينا وهيئة فرنسا بتتسلي بينا وأسهُم بلدنا شفطها الخديوي يا كُتر الغلابة في وسط الرشاوي . ص 20 وتمثل التنشئة أهم عناصر التأصيل في رؤية الشاعر فجاءت في قصيدة تحت عنوان ( الرّباية ) ، وهي تعني في الثقافة الشعبية التربية ولا تكون إلا في إطار الهوية المصرية العريقة مهما كانت الغوايات التي يعكسها البريق الذي تتخايل به تحولات الحياة مصري أنا .. وتوب الصدق بارتاحلُه ويرتاحلي عمري هنا وقلبي إن دق باسمع له ويفتحلي صحيفة عمرنا كله وياما البحر سَّوحلي رباية عمر ما تبطل وحب الشط متأصل في جد الجد وولاده شبابيك غزل متوصل . ص 26 وهكذا يتشكل النضال الحقيقي والصمود وإعلاء إرادة التمسك بالحياة عبر الأجيال كما أوردها الشاعر في قصيدة ( سلسال ) والتي تنمو الرجولة والشهامة في عروقها ما بقي المكان ينبض بأصحابه وهو ما تألق في الجدارية التي حملتها سطور قصيدة ( صياد بحر الجميل ) والتي كتبت في يناير عام 1976 وهي من القصائد الجميلة حيث رسمت من خلال شخصية الصياد صورة نابضة للحياة من خلال الإنسان .. في ساعة ليلنا ما تشُقه خيوط الفجر وتكبر يحس العزم بيزُقّه يصلي الصبح ويشمر عشان ينفض تراب نومُه ويستقبل حساب يومُه كما الوارد علي الجنة ما هو إحنا شطنا فردوس لا يوم كسل ولا استني . ص 44 ولا تمضي القصائد في هذا الإطار علي وتيرة واحدة ، فهذه الرؤية المهمومة بالتأصيل والتشبث بالهوية وتحمل بين جنبيها تفاؤلاً عميقاً هي نفسها التي عاشت حالة المد والجذر في علاقتها ببحر الواقع . فالإنسان الذي حارب وقدم كل ما يملكه حتي الحياة من أجل استعادة الأرض والكرامة والثقة في النفس في حرب أكتوبر 1973 يكتشف أنه خارج المشهد وقد لفت الغربة حوله سياجاً من الأحزان ويعيش حياة الضياع فكانت قصيدة ( الوسام ) عام 1976 تعبيراً صادقاً عن الحالة التي انتهي إليها الإنسان الذي حقق النصر لوطنه ... ما تقلبيش المواجع أنا جَيّ أشوفك وراجع حلمي القديم اللي واقع منك ف ساعة وداعي رجعت المُّه بدراعي واخبي فيه انطباعي ما تأخريش ارتحالِي ونخبي همك في حالي من مُدّه فاكر سؤالي مين اللي غير كلامك وخللي كل اهتمامك تَعزّي عنّي احترامك وأنا اللي حارب وجالك يخط اسمه في رمالك ما خدش غير الضياع . ص 96 ويتعاظم الحزن لحد المرارة بعد هذا التحول الاستهلاكي الذي جرف المجتمع فأنساه قيمه الأساسية وأعماه عن استدراك ما ارتكبه من إهمال تجاه الإنسان الذي رفع رايته الوطنية في العالمين ، حيث انقض الطفيليون واللصوص مع ثمرة النصر وأقاموا دولتهم التي لا تتسع للذين حملوا الوطن في قلوبهم وزادوا عنه بأرواحهم فكانت قصيدة ( وصيتي ... للبحر ) عام 1980 أبلغ تعبير عما انتهي إليه حال الوطن في علاقته مع أبنائه .. وتفرد هذه الصورة الداكنة ظلالها علي بقية القصائد حيث تحمل الواقع بالسطحية والزيف وتجاوز في بهرجته كل الخطوط والمحاذير التي جردت الإنسان وألقت به خارج المشهد ، لذا تحول كل هذا إلي ما اسماه الشاعر عام 1980 بالطبل الأجوف في قصيدة تحت هذا العنوان حيث يقول .. باشتكيلك ... من وقوف النيل وضمور النخيل وانتحب ف البكا لما يبقي الليل تحته مسطور الكلام ومعبعبة تحت الحزام بطون العشق والايام تمر .. مَرّ الكرام فلا الماضي .. بيطبع ف الوجوه معني ولا اليوم دا بيفتح ودنه يسمعنا ولسه الطبلة تجمعنا ونفخك فينا فرقعنا . ص 118 ولأن الأصالة هي جوهر شعرية ( محمد عبد القادر ) فلم تستطيع الذات التي تربت في حضنها رغم كل هذا الذي تواجهه أن تتنصل من هويتها ومن دورها وواجبها ، لأنها مثل السمك إن غادر البحر مات لذلك أبانت قصيدة ( طقطوقة ) التي كتبت عام 1985 عن نبالة هذه الذات وأن غضبها الصادق هو الذي دفع ثورة الحب لآن تتجلي في مصارحة لا يغيب عنها الصدق ولا تغرب عنها شمس التفاني في حب هذا الوطن .. ابدريني ع البيبان في الأماسي والشفق عمري .. مع كل الأحاين أتفق .. في أي ميعاد .. تشقي صخور العتمة وتعيشي .. وأنا سيفك وأقدم قلبي ملحاية علي رغيفك .. ينام الحلم ف عيوني علي ترابك .. وأدق بكفتين الرؤيا أعتابك .. وأشوفك من جبال الغربة .. ريح أبيض . ص 126 هكذا بين الجسارة والحزن والغضب والنبل يتشكل العالم الشعري عند واحد من أصدق وأنقي الأصوات التي تنتمي لمدرسة العفوية الوطنية في تعبيرها عن الجموع التي تتفاني في حب الوطن ، وهكذا ومن المكان النابض والذي يحمل تاريخاً حيا للنضال واستمرار المقاومة نبضت القصيدة في طرح البحر .