هذا الكتاب ثمرة عشر سنوات من الاغتراب، البدني دائما والنفسي في أحيان كثيرة، منها ست سنوات (1990-1996) بجامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان، وأربع سنوات (2002- 2006) بجامعة الإمارات بمدينة الإمارات بمدينة العين بإمارة أبوظبي، ومن الواضح أن الفترة الأولي كانت أسعد كثيرا من سابقتها. يندرج الكتاب في باب أدب الرحلات الفكري وهو لون نادر في ثقافتنا لم يقع منه غير كتاب عبدالرحمن بدوي »الحور والنور« ومسرحه سويسرا وغيرها، وكتاب زكي نجيب محمود »أيام في أمريكا«. والكتاب مزيج من الأدب والفلسفة، فالمؤلف مهتم بالأدب اهتماما إيجابيا كما يبدو من مقالاته عن حسن طلب وجمال الغيطاني وغيرهما، ومن جهوده في هذا الصدد مقاله عن النظرات الفلسفية لدي الناقد الراحل الدكتور عز الدين إسماعيل علي صفحات مجلة »إبداع«. وحرر في عام 1999 كتابا عنوانه "ماهية الشعر: قراءات في شعر حسن طلب«. ولكن ليت الدكتور سعيد استوصي بشيء من التواضع قبل أن يطلق علي الكتاب هذا العنوان الهيدجري الفخيم العريض فلا هو بهيدجر ولا صاحب الدكتور طلب بهولدرلن، وإنما نحن جميعا علي باب الله لانرقي إلي مقام أولئك الأفذاذ أو علي حد قول ابن الرومي: وعزيز بلوغ هاتيك جدا تلك عليا مراتب الأنبياء يخبرنا المؤلف أنه أفاد من أسلوب الحكي الأدبي عند جمال الغيطاني في سلسلة كتبه المسماة »دفاتر التدوين« والتي تظهر علي أجزاء. وفي حديثه عن صيد الأسماك من أعالي البحار يذكرنا بعجوز همنجواي الذي يطارد سمكة المارلين العملاقة في إصرار ويشدها إلي جانب قاربه حتي بعد أن تلتهمها أسماك القرش ويعود بها هيكلا عظميا وسلسلة فقارية مجردة. أما الخلفية الفلسفية فواضحة في كل شيء: في العقل التحليلي الذي يحاول لم شتات الجزئيات وردها إلي مباديء عامة، وفي تقصي الأسباب الكامنة وراء الظواهر، وفي معجم الكاتب اللفظي ذاته، نقرأ مثلا في ص 26: »تشع من بينها تلك الومضات الفسفورية المتلاحقة التي تضيء مع كل موجة من أمواج البحر الخصب العفي وتنطفيء بعد تراجعها، لتعود مع موجة أخري في نوع من العود الأبدي». والعود الأبدي، كما هو معروف، مبدأ نتشوي، وتتردد عبر صفحات الكتاب أسماء فلاسفة قدامي ومحدثين: هوسرل، كانط، شوبنهور (الذي نقل الدكتور سعيد إلي العربية الجزء الأول من رائعته »العالم إرادة وتمثلا«، هيدجر، هيجل، جادامر، ديكارت، سارتر، ميرلو بونتي الذي أسعدني أن يردف المؤلف اسمه بصفة »العظيم« فهو مفكر ثاقب الفكر عظيم حقا أعتقد أنه - من بعض الزوايا - لايقل امتيازا عن سارتر وإن حجبته عن الأعين شهرة سارتر الطاغية وغزارة إنتاجه وحضوره المهيمن علي الثقافة الفرنسية في فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها. والكتاب زاخر بلمحات جميلة، تنم عن حس المؤلف الأدبي ورهافته الذوقية، منها مثلا هذه اللقطة: »مكثنا طويلا في أحد المواقع حتي لاح لنا غزال يتهادي متمخترا.. أطلق صلاح الطويل طلقته الأولي من بندقيته الخرطوشية، فأصاب الغزال في إحدي ساقيه الأماميتين، حتي إنه تسمر في مكانه لايقوي علي الحراك. تهيأ من المتوقع أن يقضي علي الغزال... تعود صلاح الطويل علي القسوة، حتي ظننت أنه لم يعد يعبأ بالعواطف أو المشاعر، ولم يعد يفرق بين صيد سمك القرش وصيد الغزال! ولكني وجدت صلاح الطويل في تلك اللحظة علي غير ما عهدته.. تسمر هو الآخر في مكانه ولم يقو علي إطلاق طلقته الثانية الحاسمة.. تأملت المشهد وعرفت السبب، لقد تسمر الغزال في مكانه، واتجه ببصره ناحيتنا، ونظر إلينا وكأنه يعاتبنا ويتساءل: لماذا؟ ثم رأينا في عينه دمعة، لا أنسي تلك النظرة ولا تلك الدمعة» (ص 51- 52). ويضيف المؤلف، كأنما علي سبيل التضاد، ولا عجب فبضدها تتميز الأشياء، كما يضع المصور اللون الأسود في خلفية لوحته ليبرز اللون الأحمر في مقدمتها. »لاتعرف الأسماك تلك النظرة ولا تلك الدمعة، نظرتها واحدة لاتتغير، تبدو وكأنها تتجه إلي اللاشيء. وفضلا عن ذلك فإن الأسماك، حتي إن كانت من نفس النوع، لاتتورع عن أن تأكل بعضها بعضا، ولذلك فإننا لانتعاطف مع الأسماك مثلما نتعاطف مع كثير من الحيوانات» (ص 52). من الجوانب الشائعة في الكتاب، بالنسبة لأي شخص مر بخبرة الاغتراب بعيدا عن الوطن والأهل، جانب الأخلاقيات الجنسية ونسبيتها واختلافها باختلاف الزمان والمكان، أو كما قال بسكال: إن ما هو صواب علي هذا الجانب من جبال البرانس خطأ علي الجانب الآخر من الجبال ذاتها. إن الدكتور سعيد، بنفاذ بصيرة وحس أخلاقي، يكتب عن ال موكز المدينة بدبي وما يموج من بشر وسلع فيقول: »تلك المراكز التجارية الأنيقة المترفة التي تعرض كل بضائع الدنيا أمام ناظريك، ومع بضائع الدنيا تعرض أمام ناظريك كل البشر من سائر البقاع الذين يتجولون في تلك المراكز بغرض الشراء وأشياء أخري: نسوة من كل حدب وصوب ومن كل جنس ولون، جائلات رائحات غاديات، لافرق بينهن وتلك السلع المعروضة التي يتطلعن إليها أو يشترينها، سلع تشتري سلعا، بشر كالسلع، نسوة يرفلن في أبهي الأزياء وأغلاها ثمنا، ثياب تكشف أكثر مما تستر، ولاتكاد أحيانا تستر شيئا يذكر، نسوة لسن كسائر النساء، أجسام بضة ممشوقة ومشعة داعية، حاضة علي الفتنة والاغراء، كأنهن ملكات جمال أو عارضات أزياء أتين من كل البقاع لأجل البغاء، والأسعار تتفاوت بحسب الأعراق والأجناس وأشياء أخري، يندهش المرء أو الشخص الحقيقي عندما يلقي به في غمار هذا المشهد، ولابد أن يتساءل، هل أنا في بلد عربي إسلامي؟ أين هم هؤلاء العرب المسلمون؟ بل أين هم المواطنون أصلا، إنهم قلة في هذا المشهد حتي إنك لاتكاد تراهم، إنهم فرادي ضائعون وسط هذا الزحام، تري الواحد منهم يلهث وراء واحدة من تلك النسوة بغرض المتعة العابرة أو الطويلة نسبيا خلال الزواج الموقوت ولكنه في الوقت ذاته يمارس نوعا من القمع علي زوجته أو أخته!« (ص 64 - 65). يذكرني هذا الخيط، خيط الغواية الجنسية المرتبطة بالمال والترف، بمجموعة مقالات تحمل عنوان »بعثة تعليمية« بقلم الأستاذ - فيما بعد الدكتور- كامل سعفان نشرت منجّمة - خلال عامي 1965 و 1966 وذلك في مجلة »الأدب» التي كان يصدرها الأستاذ أمين الخولي وكنت من كتابها وأنا طالب جامعي، يروي سعفان تجربة اشتغاله بالتدريس في المملكة العربية السعودية، وأنه طلب إليه أن يأخذ في السيارة التي ستقله عبر الصحراء إلي مدينة أخري، مع السائق السعودي، سيدتين مصريتين عاملتين هناك، إحداهما طبيبة - دختورة كما ينطقونها- والعربة ضيقة تنحشر فيها الأجساد، والحر لاهب قائظ يثير الغرائز. وأورد هنا وصف كامل سعفان لهذا الموقف: » في منتصف الطريق أعلنت السيارة احتجاجها علي (الدختورة) التي خلعت ثيابها كلها بين رجلين في جوف الصحراء.. وأقول خلعت ثيابها، لأنها لم تترك حركة امرأة عارية إلا فعلتها وعبرت عنها تعبيرا صادقا.. وعلي حين لم أنطق طوال الطريق بكلمة مخافة أن يشكل مني السائق تاريخا أسود بما يضيفه خياله المحروم، وحتي لا أزداد تورطا في تبذل هذه المرأة التي ازدهاها أن تصنع مني تجربة جديدة للافتراس، دون أن تنشب مخلبا، ورغم شعوري بالرضي من عبثها بالسائق عبثا يقترب من المراودة عن نفسها علي طريقة (إياك أعني ما سمعي ياجارة) فإني كنت علي يقين من أني وقعت في شباك لاترحم، وأن الموقف قد يتطور تطورا يجعل منا مأساة إنسانية عاهرة. فلما اضطر السائق إلي أن يعمل شيئا حتي لانحترق في وقدة الشمس إذا طال بنا الوقوف نزلت (الدختورة) إلي جواره، تعرض أنوثتها الفاجرة، وهي تدف العربة، أو تخلص عجلاتها من الرمال، أو تنزع من عشب الصحراء لتزود السائق بركيزة أمام العجلات.. ونزلت الأخري لتضع حركات (الدختورة) في إطار دافق الحمرة.. عرض رخيص ولحم مبتذل أصابني بالتقزز.. وأخذت الصورة أمامي شكلها القبيح، فامتلأت بالغضب.. خيل إلي أني أخون وطني، وأنا أشهد هذه المهزلة.. ولكن كيف لي بقوة شمشون تنزعني من مقعدي؟! ولم يكن بوسعي أن أحكي للزملاء عما حدث، حتي لا أصبح مادة فكاهة طوال الطريق، ولم أكن بقادر علي كتمانه، ولا تزال صور الأنثي تملأ عيني، وصوتها يغرق أذني، ورائحة الشعراء تلهب مشاعري..(مجلة الأدب، يونيه 1965، ص 188). هذه خبرات حقيقية مر بها كثير من المصريين العاملين ببلاد عربية، والحمد لله أنه قد كان لدينا كتاب شجعان يصورونها بصدق وصراحة (انظر أيضا بعض قصص لسليمان فياض وجمال الغيطاني وعبدالسلام العمري تتناول خبرات مشابهة). ويورد الدكتور سعيد قول زميله أستاذ الفلسفة الراحل الدكتور محمود رجب إن التدريس في الخليج أشبه باستمناء ذهني لايوجد فيه تفاعل بين طرفين وإنما هو إفراز أو حديث من طرف واحد دون متلق. يتصل أيضا بهذا البعد الإيروطيقي- ولكن علي نحو أكثر ذهنية وأشد تجريدا - ميل بعض المفكرين والأدباء إلي إضفاء طابع شبقي علي عنصر الماء بوضعه الأصل الذي خرجت منه جرثومة الحياة الأولي، وفيه انقسمت الخلية لتتعقد وتتشعب، والماء - كالنار والتراب والهواء- من عناصر الكون الأولية التي حدثنا عنها فلاسفة ما قبل سقراط وفلاسفة محدثون كباشلار. إن سارتر، مثلا، في مقدمة كتبها لمختارات من الشعر الأفريقي الزنجي يقول إن الشاعر الأفريقي يضفي علي عناصر الطبيعة - من تلال وجبال وأنهار- طابعا جنسيا، أو - بتعبير سارتر - يمنح الطبيعة عضوا تناسليا. وعلي نحو مشابه نجد الدكتور سعيد هنا يستخدم مجازات جنسية في حديثه عن النيل فيقول: »مازال النيل في بعض هذه المناطق يعلن عن وجوده الأول الصريح عندما شق الجبال والجلاميد، فتجد سيل النهر ملتصقا بالجبل شاهدا علي اختراقه، وتجد الجبل هو الآخر قائما في مواجهته متحديا بجلاميده المتساقطة عبر الزمن حتي يتهادي تدريجيا في طريقه نحو منصبه، وتضعف قوته وعنفوانه أو تتبعثر خصوبته في فروع الدلتا وكأنه يبلغ وطره هناك. وكان هذا هو حال النيل دائما، لولا السد العالي.. ذلك الاجراء الجراحي في جس الفياض الذي قلل من ثورته وهياجه، وحاول إخصائه (كذا) ص 33. يذكرني هذا بسطور من أقصوصة يحيي حقي »الفراش الشاعر» (1961) - وهي عندي أعظم ما جري به قلمه. يقول حقي: »طلع علي الفني يوم من أيام الخريف، استكان فيه النيل بعد هيجان وانقلب ذوب عنابه المنحدر من الجبال البعيدة إلي سمرة وطينة داكنة متموجة كجلد السمك، فرغ من لقاح الأرض ودخل حجرة ليحتمي فيه طول الشتاء، ولما فقد فحولته أصبح لاشيء مثله يوحي بالقشعريرة وظلمة الأعماق والثقل العظيم، وتزينت الحقول بعد جفافها وعريها بوشاح من النوار تجود برحيقه علي النحل والحيوان«. ولنلاحظ أن هذه الجملة الأخيرة - »تزينت الحقول بعد جفافها وعريها« - بها صدي من بلاغة القرآن الكريم إذ تصف الأرض وقد أخذت زخرفها وازينت، كما ان فيها صدي من وصف ابن الرومي للأرض في فصل الربيع: تزينت بعد حياء وخفر تزين الأنثي تصدت للذكر أدع هذا لأنتقل إلي مآخذي علي الكتاب، وهي في الواقع ليست بالقليلة، منها ما يتناول جزئيات صغيرة ومنها ما هو أعم نطاقا يتصل بالتصور الكامن وراء المحاولة ذاتها وبأسلوب الأداء التعبيري. ها هي ذي ملاحظاتي دون ترتيب: ص 11: يعدد المؤلف المطربين الذين يعجب بهم فيذكر أم كلثوم وأسمهان وليلي مراد وعبدالوهاب وعبدالغني السيد وعبدالحليم وعبدالوهاب الدوكالي وناظم الغزالي وقنديل وفريد وفيروز وفايزة. وقد تمنيت لو أضاف إليهم وإليهن نجاة الصغيرة فهي.. في ذاتفتي الشخصية - من أجمل الأصوات العربية خاصة في قصائدها النزارية: أيظن/ ماذا أقول له/ أسألك الرحيلا، علي أنه من الحق أن أضيف أن الدكتور سعيد يذكرها فيما بعد في ص 122. ص 12: يذكر المؤلف من الأعمال التي تناولت الخليج خماسية الروائي السعودي عبدالرحمن منيف »مدن الملح« وقصيدة السياب غريب علي الخليج» وهي: »الخليج« بلام التعريف وليست »خليج» فقط كما يذكرها الدكتور سعيد، وهو طبعا ليس مطالبا بالاستقصاء ولكني أضيف - علي سبيل التذكرة فقط - أن هناك أعمالا أخري كثيرة، بأقلام كتاب مصريين وعرب وخليجيين وغيرهم، تناولت هذه البقعة الجغرافية وأبعادها الروحية أذكر منها روايات »لا أحد» لسليمان فياض، »الخليج» لمحمد جبريل، »البلدة الأخري» لابراهيم عبدالمجيد، »الطيور» لعماد الغزالي، وجدير بالذكر أن هناك مقالة عنوانها »غرباء علي الخليج» بقلم السيدة - الآن الدكتورة - زينب العسال في المقارنة بين هذه الروايات الأربع في كتابها المسمي »تقاسيم نقدية» (2001). أنتقل إلي ملحوظة أخري، في ص 15 يقول المؤلف. »اطلعت علي هذا المجال الأخير من الناحية النظرية من خلال عمل لباحث ليبي متخصص في الجغرافيا، أحيل إليّ عمله لأحكمه أنا المتخصص في الفلسفة! ولكني أكبرت من أحال إلي هذا البحث بغرض تحكيمه، لأنه لو أحيل إلي متخصص في الجغرافيا من الجهلاء، وما أكثرهم في جامعاتنا، لحكم برفضه باعتباره بحثا لايفي بشروط البحث العلمي التجريبي والاحصائي، وما شابه ذلك». إلي مَنْ مَنْ أساتذة الجغرافيا، تحديداً، يفوق الدكتور سعيد سهمه هنا؟ ها هنا نبرة عدائية لم يكن لها داع أوصلة بالسياق، بديهي طبعا ان قسم الجغرافيا به جهلاء (نسبيا) ولكن ثمة أيضا جهلاء (نسبيا) في كل أقسام الكلية، وكلنا، مهما حمل من العلم - جاهل بدرجة أو بأخري (أنا شخصيا جاهل بالرياضيات والحاسوب والقانون وكل لغات العالم عدا الانجليزية). فمن الخير أن نستوصي بالتواضع، أو علي الأقل أن نقول مع المعري: ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتي ظن أني جاهل ويذكرني هذا بأن الكاتب المسرحي الإليزابيتي بن جونسون - وكان من أعلم أدباء عصره باللاتينية واليونانية - وصف معاصره شكسبير بأنه كان صاحب لاتينية قليلة ويونانية أقل .وقد تلقف كثيرون منه هذه المقولة للادعاء بأن شكسبير كان جاهلا، ولكن الدكتور لويس عوض في بعض كتاباته علق علي ذلك بقوله إنه أشبه بأن يقول أحد أساتذة الجامعة عن أستاذ زميل له، بينهما غيرة أو منافسة أو إحن، إنه حمار لايفقه شيئا. والغالب ان هذا الأستاذ الآخر ليس حمارا - وإلا ما عين أساسا في هيئة التدريس، أو هكذا نفترض - ولكنه قد يكون، وقد لايكون، أدني من زميله في العلم درجة أو درجات، هذه كلها صراعات بين أهل المهنة الواحدة، وأنا أدعو الدكتور سعيد إلي أن يعيد النظر في عبارة »الجهلاء وما أكثرهم في جامعاتنا» فهي تشي بنوع من التعالي غير المستحب. ص 16 يقول المؤلف »المبدعون الحقيقيون لاينشغلون بوصف وتحليل إبداعهم وإنما يتركون هذه المهمة لغيرهم» وهذا تعميم يغفل الاستثناءات، وهي في الواقع ليست بالاستثناءات القليلة. وسأضرب بعض أمثلة لكتاب عكفوا، كأنما بنوع من الاستبطان ذاتي الانعكاس، علي أعمالهم يتأملون كيف تكونت داخلهم وكيف خرج هذا الجنين المظلم - داخل العقل الخالق - إلي نور الوجود. إن القاص الشاعر الناقد الأمريكي إدجار آلا بو - في القرن التاسع عشر - له مقالة عنوانها »فلسفة الانشاء» The Philosoply of Compositon يصف فيها كيف كتب قصيدته المسماة »الغراب» The Raven وهي قصيدة ترجمها الدكتور محمد مندور إلي العربية، كما ترجمها فيما بعد الدكتور صبري حافظ، والروائي الأمريكي المولد الإنجليزي الجنسية هنري جيمز كتب مقدمات لعدد من رواياته جمعت فيما بعد فيما يعرف باسم طبعة نيويورك، يصف فيها المشاكل التقنية التي واجهته وكيف حاول التغلب عليها، وفيها أشياء من قبيل: كيف يصور ولايقرر، وجهة النظر في الرواية وهل تروي علي لسان مؤلف عالم بكل شيء أم فوزع علي عدد من وجهات النظر المختلفة، هل يستخدم ضمير الغائب أم ضمير المتكلم في السرد، إلي آخره.. وللشاعر الويلزي ديلان توماس مقال عن تجربته في فن الشعر ترجمة أحمد عمر شاهين في كتاب عنوانه »عن جنون إزرا باوند وآخرين» (2001) لمجموعة من الكتاب. والروائية البريطانية المعاصرة درويس لسنج - الفائزة بجائزة نوبل للأدب في عام 2007 - لها مقدمة لروايتها المسماة »المفكرة الذهبية» تروي فيها كيف كتبت الرواية، وهي مترجمة بقلم أحمد عمر شاهين في كتاب عنوانه »الرواية اليوم» من إعداد وتقديم مالكلولم براد بري، وقد صدرت ترجمته في مكتبة الأسرة عام 2005، ويحيي حقي في كتابه »خطوات في النقد» ترجم صفحات من رواية الأديب الروسي باسترناك »دكتور زيفاجو» يصف فيها الشاعر يوري معاناته في نظم قصيدة وحيرته في اختيار الكلمات والبحر والقافية والصور وهناك كتاب عنوانه »الرؤية الإبداعية ومجموعة مقالات لعدد من الكتاب» أشرف علي جمعها هاسكل بلوك وهيرمان سالنجر، وترجمة أسعد حليم، وصدر في سلسلة الألف كتاب عام 1966، وفيه عدة مقالات بأقلام أدباء عن خبراتهم الذاتية في الانشاء: أندريه جيد يكتب عن روايته - »السيمفونية الريفية»، برخت يكتب عن مسرحيته »الأم شجاعة»، دورنمات يكتب عن مسرحيته »الأم شجاعة»، »زيارة السيدة العجوز» وقبل هؤلاء جميعا الشاعر الرمزي الفرنسي العظيم بول ڤاليري يكتب مقاله عن إنشائه رائعته »المقبرة البحرية» التي عرفنا طه حسين بها علي صفحات مجلة »الكاتب المصري» في أواخر أربعينيات القرن الماضي. وبحق قيل عن ڤاليري إنه كان أشد الأدباء استبطانا بصنعته وانكفاء علي عالمه الداخلي وإنه كان أكثر اهتماما بالعمليات العقلية التي تأدت به إلي صنع القصيدة منه بالقصيدة، أو النتاج الختامي - ذاتها. ولكن لماذا نذهب بعيدا؟ هناك في أدبنا العربي، قديما وحديثا، أمثلة تدحض دعوي الدكتور سعيد أن المبدعين الحقيقيين لاينشغلون بوصف إبداعهم وتحليله، هناك قصيدة للشاعر الأموي عدي بن الرقاع يصف فيها معاناته في نظم الشعر فيقول: وقصيدة قد بت أجمع بينها حتي أقوم ميلها وسنادها نظر المثقف في كعوب قناته حتي يقيم، ثقافه منآدها (السناد: مصطلح عروضي يشير إلي عيب من عيوب الروي المثقف: الذي يشحذ الرماح والسيوف ويقومها. قناته: رمحه. منآدها: معوجها، التِقاف: هو كير النار الذي يسوي بالرمح). وقد وجه صديقي الشاعر والناقد الدكتور عبداللطيف عبدالحليم (أبوهمام)، الأستاذ بكلية دار العلوم، انتباهي إلي قصائد أخري يصف فيها الشاعر معاناته في النظم منها، قصيدة لابن الرومي، وقصيدة القوس للشماخ وقد علق عليها أبوهمام بقصيدة من نظمه الشخصي، ونونية عن أحمد شوقي لعلي الجارم ترد في كتاب أبي همام المسمي »حديث الشعر». ثم هناك كتب لعلي أحمد باكثير وعبدالحميد جودة السحار عن تجاربهما الشخصية في كتابة المسرحية والقصة، وهي في الأصل محاضرات حاضرا بها طلبة المعهد العالي للدراسات العربية ثم صدرت في كتب، وللقاص يوسف الشاروني مقالة عنوانها »ملاحظات علي قصص من مجموعتي »العشاق الخمسة» و »رسالة إلي امرأة» ترد في كتابه »دراسات في الرواية والقصة القصيرة» (1967)، والخلاصة اني أرجو فقط أن يضيف المؤلف كلمة »عادة» أو »عموما» إلي قوله »المبدعون الحقيقيون لاينشغلون بوصف وتحليل أعمالهم»، والأفضل أن يشير إلي وجود استثناءات كهذه التي عددتها. ص 51: يقول المؤلف: »لم أجد متعة علي الاطلاق في صيد الحمام، ولم أقو علي صيده.. ذلك الكائن الرقيق الذي لا يأكل بعضه بعضا، وإنما يغازل بعضه بعضا». لست أريد أن أنتقص من رقة الحمام، فأنا أشاطر الدكتور سعيد حبه له، ولكني أجد في قوله هذا عاطفية مسرفة (سنتمنتالية) تتجاهل الجانب الآخر من الحمام، كما يتجاهل المتحدثون عن رقة المرأة وحنانها وعطائها ما قد يكون فيها من قسوة وأنانية ووحشية لاتقل عن قسوة الرجال وقد تزيد. فرقة الحمام نسبية، تتوقف عند حد معين، ولكنه وراء هذا الحد لايتورع عن الافتراس من أجل البقاء، وقد صدق أبوالعلاء القائل: ظلم الحمامة في الدنيا وإن حسبت في الصالحات كظلم البازي والصقر إنها فقط مسألة درجات في الوحشية والافتراس، وليست اختلافا نوعيا. أكتفي بهذا - وقد أطلت - لأقول إن الكتاب ذو مذاق متميز، فيه نضارة في الرؤية والتعبير، وهو يخرج بنا عن الحدود الضيقة التي يتحرك فيها أغلب كتابنا. وقد أتاح لنا أن نري زاوية من جانب الفنان في مؤلفه بعد أن تعودنا علي رؤية جانب المفكر الفلسفي فيه، وتجاور هذين الجانبين فيه إثراء لكل منهما وإثراء لفكرنا وأدبنا.