تجرّأنا ذات يوم، بعد سنوات من تعاطينا ببسالة وشغف مهنة النّشر، وأنشأنا في جناح دار الجديد، خلال انعقاد واحد من معارض الكتاب في بيروت، قبراً للقارئ العربي كتبنا علي شاهده بريشة الخطّاط الصديق علي عاصي: "القارئ العربي... حتّي يُثبت العكس ". أيّامها تجمهر النّاس حول اللحد الافتراضي وكل من مرّ علي هذا المكان المزدحم وافقنا رأينا بأن القراءة تلك التي تخاطب حريّة المواطن المستهلك، غير الخاضعة لإملاءات الأمميات والجهاديات والفضائح والترويج، لم تزل إلي حدّ بعيد وفي أحسن الأحوال بمنزلة ضيف الشرف من أمّة اقرأ. علي النقيض مما تقدّم وجلّنا يتمتع وبدرجات متفاوتة برغد لحظتنا الإلكترونيّة العارمة، بشاشاتها التلفونيّة والكومبيوتريّة والتلفزيونيّة يلاحظ من زار القاهرة في الآونة الأخيرة أن المكتبات الصالونية الأنيقة، كالديوان وكتب خان، قد وجدت لنفسها ملاذات آمنة وسط التبدّل العمراني؛ وقد سارت علي خطاها أفرع مكتبات الشروق المتناسلة علي وتيرة نشطة، والمختارة لنفسها نواصي المدينة الإستراتيجيّة. أمّا شركة فيرجن العالميّة وهي في الأساس شركة طيران خاصّة تخوض، ولأسباب ملغّزة، غمار الكتب فقد اختارت لنفسها واحداً من أجمل مباني بيروت التاريخيّة، مبني الأوبرا بقبّته المميّزة، وافتتحت علي سطح المكتبة مقهًي، سرعان ما أقفل بسبب ما عاشه لبنان من أوضاع مأساوية فيه اجتمع السمّار للدردشة حول كأس وكتاب. جوار هذه الطّفرة الهادفة إلي ربط الكتاب بسوقه المفترضة وبما اعتري الاستهلاك الثقافي الترفيهي من موض شديدة الالتصاق بآليّات الترويج، نعت الصّحف في الأشهر الأخيرة إقفال مكتبات تاريخيّة أليفة في كلّ من دمشقوبيروت والجزائر. فمكتبة رأس بيروت، لصاحبتها فاديا جحا صديقة القرّاء الدؤوبين، قد اجتثّتها من موقعها رهانات عقارية تزن مليارات الدولارات. نلاحظ إذاً أنّ التخبّط، أكان أخلاقياً، تكنولوجيّاً، فكريّاً أو عمرانيّاً، سيّد لا بل سلطان، وأن صيف وشتاء المقروء والمكتوب يتصارعان بضراوة أمام أنظارنا. عليه، وعلي صخرة قناعتنا بالكتاب الحرّ المستصرخ قرّاءه، تفتتح دار الجديد مكتبتها المنمنمة في شارع إميل إدّه، علي مقربة من مقرّ جريدة السّفير، وهي تحلم أن يصير الحيّ كلّه سوقاً للوراقة والورّاقين الفعليين والافتراضيين، كي نتفكّر معاً، ناشرين وكتّاباً وقرّاءً، في مآلاتنا ومآلات العالم . كقارئة مثابرة عارفة بشعاب توزيع الكتب في لبنان، يربكني أن لا أجد في مدينتي، مدينة الجامعات والمدارس والمعاهد، ما أقرأ عنه من كتب صادرة في العواصم المجاورة. فما ينتج في الشام والقاهرة وبغداد والجزائر والإمارات في الآونة الأخيرة لا يصل إلا بعد إلحاح ولجّ إلي دكاكين الوراقة، هذا إذا وصل! فالاتجار بالكتب ونقلها بالطائرات قد لا يستحقّ برأي شيوخ هذه المهنة العناء. هذا ما أسمعه منذ سنوات حين أسأل عن كتب يخطر لي أن أقتنيها، فأرغم علي مهاتفة أو مكاتبة صديق أو صديقة في الشام أو القاهرة للحصول علي نسخة يتيمة مما أتحرّقه من ثمرات الأقلام والمطابع. فماذا لو لم أكن محتاجة إلي نسخة واحدة بل إلي نسخ بها أشارك من أقدّر وأحبّ شغفي هذا؟ كيف السبيل إلي تحويل حاجاتي إلي عدوي؟ هذا ما ستسعي مكتبة الجديد إلي بثّه في مدينة لن تستردّ ألقها بفنادقها وملاهيها ومؤتمراتها الرنّانة بل بتشييد جسور كتابية اجتهدت أنانيّاتنا وصغائرنا وجملة من السياسات الكئيبة علي تدميرها. صحيح أن الخرق واسع وعميق، إلا أن مكتبتنا المتواضعة الراتقة للمسافات والأمزجة ستحاول جهدها كي تتوفّر كتب الضرورة والإرادة لكلّ راغب باقتنائها. بسذاجة وإصرار سيزيفيين، سنحمل صخرتنا، كتبنا وأفكارنا ونرابط في مكتبتنا متترّسين بما أنتجته دار الجديد، وما سوف تنتجه هي والدور والكتّاب الأصدقاء من كتب، مدهش ومفجع أن لا يبوّئها طالبو العلم والسؤدد صدور مكتباتهم... لا أوهام في كواليس مكتبتنا ولا من يحزنون، مجرّد رحبة علنية للدفاع عن هواجسنا الأقليّة.