بينما نعيش في مشهد ضبابي وملتبس، ولا نجد سبيلا للخروج من ذلك المشهد سوي العودة لقراءة أعمال الرموز وتاريخهم المشرف في الدفاع عن الحريات وعن الحق في العيش في حياة كريمة، نلوذ بهم ونطلع علي سيرهم وكتبهم، لأنها تذوب في عشق هذا الوطن، الذين ضحوا من أجله: سجنوا.. شردوا.. حرموا من نعمة العيش في آمان، ورغم ذلك تمسكوا بنضالهم السلمي، وفي غرس مفاهيم الكرامة والعزة والشجاعة في نفوس تلاميذهم وقرائهم، كل هذه المعاني هي التي رسمت ملامح شخصية المفكر الكبير محمد عودة الذي أطلق عليه لقب »غاندي الثقافة العربية«، بما تحمله شخصية غاندي من دلالات الثورة السلمية، حب الوطن والدفاع عنه، حتي تحول الشخص لأسطورة ملهمة للعالم كله، هكذا غاندي، وهكذا محمد عودة. حكي لي مثقف كبير دور المفكر محمد عودة دورا في تنشئته الثقافية وغرس القيم الإيجابية في نفسه، وكيف كان يحتضن الشباب ويسعي إلي أن يكونوا بجانبه، وكيف علمهم النقاش الحر والمسئولية الوطنية، وعدم بيع الضمير، فقد لخص لي هذا المثقف عودة بجملة واحدة: »كان أشرف الناس«، لم يسع للحظة لأية مكاسب شخصية، عاش طوال حياته في شقة من شقق وزارة الأوقاف بالدقي، حتي مات بعد صراع مع المرض عام 6002 هذا ما تكون لديّ من صورة لهذا المثقف الكبير صاحب الكتب الهامة في مسيرة الثقافة المصرية والعربية: »عرابي المفتري عليه«، » ميلاد ثورة«، » فاروق«، »ليبراليون وشموليون«، »الصين والوعي المفقود«، فهو صاحب ثقافة وإلمام كبير بعدد من اللغات الأجنبية. لكن ما السبب في الكتابة عنه الآن؟، السبب هو اللامعقولية التي انتابتني عندما أطلعت يوم الأثنين الماضي علي حلقة جديدة من مذكرات الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، التي ينشرها بجريدة الصباح، فوجدت عنوان هذه الحلقة: »المفكر الكبير محمد عودة باعني لمباحث أمن الدولة وحسن أبو باشا«، العنوان جعلني أقرأ الصفحة متلهفا لعل في العنوان مبالغة، لكن وجدت في المضمون تفاصيل للواقعة مرده أن محمد عودة حضر لحوش قدم، واستمع لقصيدة من الشاعر الكبير بعنوان »التحالف« وبعد فترة تم القبض علي نجم وتولي التحقيق معه اللواء حسن أبو باشا نائب رئيس المباحث العامة وقتها، وواجهه بالقصيدة، ليفاجأ علي حد قول نجم: »وحين أمسكت بالورقة تأكدت أنها هي نفس الورقة التي كتبتها في حوش قدم، وأن هذا هو خطي.. ثم أفقت علي هذا المشهد، أنا ملقي علي ظهري، وأحد المخبرين يمسك برجلي ويرفعهما، ومخبر آخر يضرب علي كفوف قدميا. أكيد هذه الرواية حدثت لشاعرنا الكبير، وكان مفكرنا محمد عودة مازال حيا، لا أعلم هل واجهه بها، وماذا قال الأخير، أو علي الأقل في حدود معلوماتي لا أعلم أن أحمد فؤاد نجم قد ذكرها قبل وفاة عودة، وإذا كان قد أختزنها طوال السنوات الطويلة الماضية لماذا يذكرها الآن، وصاحبها بين يدي الله، لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولكن أعتقد ان تاريخه ومواقفه تجعلنا نصر علي أن عودة هو »غاندي الثقافة العربية«.