ديوان » في شطح الغياب « الصادر عن دار » تحديات ثقافية « بالإسكندرية عام 2004 م للشاعر والمسرحي الكبير مهدي بندق، هو أحدث إصداراته الشعرية، وهو يعد الديوان الشعري السابع له في مسيرته الإبداعية الحافلة التي بلغت أربعة وعشرين مؤلفاَ ما بين شعر ومسرح شعري ونثري ومصنفات نقدية، والديوان صادر بالقطع الصغير في تسعين صفحة تقريباَ متضمناَ بين دفتيه الزرقاوين اللون ستةَ قصائد فقط، تشغل القصيدتان الأوليان نصف صفحات الديوان تقريباًَ وهما قصيدتا: « أنا آخر الهنود الحمر « و « قيامة عماد الدين النسيمي «، بينما تشغل القصائد الأربع التاليات النصف الآخر من صفحات الديوان، وهي علي الترتيب: « برهان العكس علي فقه الطاعة «، « آخر آل سفيان «، « استقالة من ديوان البشر « ثم القصيدة الأخيرة عنوان الديوان « في شطح الغياب « 0 سمات وملامح يصدر مهدي بندق لديوانه بمقدمة علي صفحة غلافة الخلفية يتطلع فيها بشغف إلي عودة التاريخ الإنساني إلي كتابة الشعر وقراءتة ؛ وهو في تصوره أمر لايتحقق إلا بنضال مستمر سعيا لمجتمع انساني حقيقي تكون فية الحرية مطلبا وغاية . أما الاهداء فهو يحمل لفتة تقدير وإكبار مفعمة بمشاعر الوفاء والود والإخلاص إلي السيدة زوجته التي يصفها الإهداء بأنها « قصيدة الشعر والبراءة «، فالتصدير والإهداء إذن يطمحان لاحتضان أفقين يقعان بينهما: أولهما: أفق يتحرق شوقاَ إلي عالم إنساني مسالم يتعاطي الشعر زاداَ وأسلوب حياة وثانيهما:أفق يتجسد فيه الشعر مثالا شخصانيا حميما للوفاء والبراءة . ولما كان السعي لصياغة هذا الواقع/ الحلم علي المستويين: الشخصي والإنساني غايةَ عزيزة، سلعتها غالية والسعي إليها حافل بالصراع محفوف بالمخاطر والتضحيات، لذا فإن قصائد الديوان تأتي حاملة للملامح العامة لاستراتيجية الخطاب الشعري عند مهدي بندق فهي ذات طبيعة درامية نافرة، متحدية، ونبراتها حادة قاطعة، تأبي السكون وتنفر من التدجين، لا تستنيم للمقايضات، ولا تقبل بحلول الوسط: لم أضع مصحفاَ فوق رمحي الدمشقي قط . بيد أن الزمان الدميم . ساربي ليسار الشطط . الذي دار ثم بلحم اليمين اختلط . وأنا قد تبينت في محنتي . أن شر الأمور الوسط. 1 ومثل هذا الموقف وتلك القناعة، شكلتها قصائد مشحونة بخطاب ضدي نقضي، أداته كلمة متمردة مثيرة للحراك في واقع تعفن ركودا وخنوعا، وغايته السامية، أن يثوب عالمنا المجنون إلي رشده، ويرتد البشر إلي إنسانيتهم ... إنها القصيدة التي « تقوض المعاني « الزائفة أو: لعلها القصيدة الجارحة الجريحة . بها تقام للثوي المآتم . فما لكم تحتسون قهوة الفضيحة . والميتون أنتمو . والقادمون للعزاء يضحكون أنتمو . وإنني لآخر المودعين باكيا . رضيت أن تضمني لصدرها جهنم. 2 درامية الروح وعودة للطبيعة الغالبة علي أعمال مهدي بندق الشعرية، حيث يبدو الديوان بصفة عامة أشبه بالمتتاليات من اللوحات الدرامية أو المشاهد الحوارية ذات النبرات المتصاعدة توترآ، أخرجها الشاعر قصائد تبدو ظاهريا ذاتية الاستقلال ولكل لوحة / قصيدة، عنوان ومدخل تمهيدي، إلا أن وحدة الموقف / التمرد، وواحدية الغاية / التغيير، تنحوان بالديوان الي تركيبة البناء العضوي العام ذي الجو النفسي الواحد 0 في أول قصائدالديوان، ( أنا آخر الهنود الحمر ) يستنطق الشاعر هذة الشخصية ذات الاسم الدال بضمير الأنا المتكلم في تيار من البوح، يحركه الشاعر لرصد مآس وجرائم تجري في عالمنا، يرصدها في حضورها الآتي بجدالياتها المصطرعة ويصوغ هذه المثاليات وتلك المآسي المتكثرة بحركية الفعل المضارع وديمومته، مما يجعل من القصيدة مونولوجا غنائيا دراميا حافلا، وفي هذا الإطار أيضا يصوغ الشاعر قصيدتي: « برهان العكس علي فقة الطاعة « و» آخر آل سفيان»، وتنبع درامية هذه القصائد من مداخلها ومواطن انطلاقها، حيث تبدأ بلحظة متأزمة ترددها « أنا المغايرة « للشاعر وعلي سبيل المثال ففي التمهيد للقصيدة الأولي، تبدأ التوطئة لها بقوله: لعلها القصيدة التي تقوض المعاني . يخطها الضدي للرضي . الشاعر، الموظف الرسمي . خلب النسا، مسامر السلطان . محصل الجوائز أما قصيدتا « قيامة عماد الدين النسيمي « و « آخر آل سفيان « فتنتميان إلي الديالوجات الدرامية الخالصة التي تتعدد فيها الانتقالات الحوارية المحالة لضمائر وشخوص متجادلة، فنسمع تردد مواقعها كالآتي: «كان يبحث»،»قلت» «يقولون لي» « قال قائلهم» « تدانت تقول»، « توعدني بالجحيم «، « ينصحونك فلا تنصح « ............ إلخ . وفي » آخر آل سفيان « ينتقل الحوار ما بين صوت الأنا الفنية المغايرة متمثلا في شخص « هاشمي « يردده من الغيب- وبين كل من: سفيان بن أمية، وابن المقصوص « شيخ صوفي «، و « صاحب الشرطة «، و « معاوية بن يزيد « الخليفة المستقيل . عرفانية الرؤية وإذ يتسع المدي الجغرافي المفروض بمثالب وتناقضات إرث تاريخي استبدادي طويل، هذا المدي الذي تمارس فيه التجربة فعاليتها، وتسلط عليه أنوارها الكاشفة، كان لا بد من منظور للرؤية أشد اتساعا، وميدان لسجال المواجهة أكثر رحابة، حيث ترتحل القصيدة في تضاريس عوالمه متحررة، وتجول في دروبه طليقة، ساعية لتعديل معالمه وإعادة صياغة ملامحه، وذلك يزلزله الباليات من معطياته، وتمزيق » عناكب مسلماته «، وتقويم المعوج من حقائقه المغلوطة، ومثل هذه الرؤي وتلك الحركية الطليقة للقصيدة، ربما حدت بتجربة الديوان أن تسلك نهجآ معرفيآ صوفيآ يتم صهرها وإنتاجها عبره، سواء علي المستوي الذاتي: تعبيرا عن اعتمالات النفس، وتأملات الفكر، وشروخات الروح، أو علي مستويي التلقي، الجمعي والإنساني إثارةَ للوعي وخطابا للتواصل بينها وبين مستقبلها ومتلقيها: وهأنذا: أسافر في أقاليم الغرابة والسفاهات أكرر كل ما قيلا وقد أستل من خمطي قتاد الآه أحييكم------ مساء القهر يا أشباه أنا قمت من الأموات مرات ومرات وأنتم مثلما كنتم بكهف المرة الأولي تغطون وتتردد كائنات العالم الصوفي ودواله في الديوان ويكثر استخدام مفردات حقوله المعجمية والمعرفية ونشعر بسريان هذا الحنط العرفاني في جسد الديوان منذ العتبة / العنوان حتي آخر قصائده ويتضح ذلك بصفة أبرز في القصيدة المفتتح « أنا آخر الهنود الحمر «، والقصيدة المنتهي « في شطح الغياب « حيث نصيخ السمع لبعض أعلام الصوفية ورموزهم من أهل المعرفة والتمرد أمثال فريد الدين العطار، الحلاج، أبي سعيد السيراني، أبي يزيد البسطامي، ونمتطي مع الشاعر « عيساء المعرفة « نعاين « المقامات « و « الأحوال « و « الما بين بين «، ونتذوق مع تجربته »الري« ونعاني « الظمأ « ونرقب حلوله في شخصياته وهي تمارس تمردها بين حالات المحو والثبات، الحضور والغياب، ماضين عبر دروبه « سالكين « شعابه مرتدين « خرقة « التصوف، محتسين سلافته: وها أنا في خرقتي أسير لا أبالي أمضي بلا خريطة أو آلة اتصال لا رغبةَ تعيدني لجنة الخراج ولا جحيمآ بتقنيه ناقة ارتحالي وفي قصيدة « قيامة عماد الدين النسيمي « وهي قصيدة درامية متعددة الأصوات، يتكئ الشاعر فيها علي تقنية « القيامة والبعث « يعيد بها للحياة هذا الشاعر الأذربيجاني الأصل العربي النشأة الذي مات مصلوبآ علي باب مدينة حلب عام 1417 م، وهي تقنية ذات تراث تاريخي وديني وأسطوري شديد الاتساع متعدد الغني والثراء . آفاق الارتحال ويتجلي هذا التحول والارتحال علي مستويات ثلاثة: الفردي الذاتي، الجمعي القومي، الإنساني العام 1- ويأتي المستوي الأول مهموما بتناقضات الواقع وزينته وأحيانا لا معقوليته، في مثل قوله: هنا في الروامس أعمي يجهز سيارةَ للسباق وهذا أصم يرخص أولا يرخص للموصلي وفيروز بينما يرتب للشعر أبقل قن بالرواق وللذئب شاة تحاسبه في لجان النفاق وللنخل كي يتسلق ظهرا تقوس للركبتين بمنحدر من تلال السنين وللدار- كي تتشوق لصا يجئ بعصبته الأربعين وحين يقول أيضا: عناكب المسلمات في سرداب الدماغ لا تستقيل، إنما تقايل الرميم في دارنا بصيب الأصباغ فننتشي بزهوة من زائف الصبا ونشرب التمويه شرب الهيم وفي فراش الوهم والفراغ نضاجع الموتي من الحريم نساءنا المروعات مثلنا آه لنا نسيلنا العزيم 2- المستوي الجمعي القومي: ويكاد يبسطه الشاعر في قصائد الديوان كلها مشيرا إلي أوجاعنا المتناثرة جراحا وأوراما علي امتداد الجسد العربي: مبتلآ سألت عن أخوالي سلافه الإكرام والقري ومنبع الجلال فقيل إن دجلة الذي يوضئ النجوم والنخيل والأعناب أهريق في معتقل الرمال وهاجر الفرات خلسةَ كي لا يبول في قفاه الوالي والنيل ذاك السيد المهاب قد صار كبش العيد في الحبال يبيعه الرعاة للقصاب وتناول بقاعنا الضائعة المنهوبة قدرآ أكبر من اهتمامه خاصةَ بغداد ضامآ لها مع أخواتها الضائعات في الماضي، معمقآ لمآسينا ناكئآ جراحنا لعلنا نستشعر وخز الألم: ساعة الفلس يقف المرء علي طلل بسيجارته ويبكي يتذكر غرناطة وهو ينفث الدخان ما ضره لو جلس وتذكر الجولان ! ويلاحظ توظيفه لمقولة أبي نواس الشهيرة توظيفا مغايرا، ناقللا إياها من أصلها في الماضي « تمردا فنيا « إلي الحاضر حيث تحولت إلي « إدانة قومية « عامة، ورغم اختلاف منطلق كل من المقولتين إلا أن كلتيهما تشتركان في غاية واحدة وهي الهجاء الشديد اللاذع سخريةَ وتهكما . علي المستوي الإنساني يرفض الشاعر شريعة الغاب وقانون البقاء للأقوي الذي ما انفكت تفعله وتتعامل به قوي البغي والطغيان خاصة في تجليتها العولمية الدولارية المعاصرة، وهو إذ يستقيل من « ديوان البشر « رافضا مجتمعا لا ينصرف قبل أن يفضح شعارات العولمين الكاذبة التي يسبون بها الضحايا ويخدرون بها خراف الذبح حتي يسلس قيادهم وتلين عريكتهم إن كان لهم ثمة عريكة . لست بحرآ يمد ببحر الكلام الذي ليس ينفد الكلام السلام المسرة فالأراجيف أنياب قرش بقلبي تفتت عظم الشموس ولحم النفوس وشلو الجمد زخمآ وزخمآ !! هكذا يرتحل الشاعر ويجول بعوالم المعاناة ومناطق الزيف والبهتان متصديآ لها، ثائرآ علي منطقها كاشفآ خداع شعاراتها وذلك علي مستوياتها: الفردية والعامة والإنسانية، فكان كمن يسير علي القتاد والأشواك تحوطه وتحاصره شمولية من الألم تطبق عليه وعلينا خانقة لوجودنا الإنساني جميعا .