لو لم أكن شيوعيا لآمنت بالطريقة.. ولاحترقت حروفي في المجاهدة, لأجمع النفري المشرد في لغة التمرد وكارل ماركس والحلاج وابن عربي والكوميونة في العشاء الأخير لمولد البيومي في الراهب. لو لم أكن شاعرا لاحترفت لغة الصمت والإشارات وطقوس السمع وأنا أصغي لماركس, وهو يتوهج في شطحة الصوفي الجدلي بحثا عن الإنسان, فوق صليب المعني, وهو يجثو علي ركبتيه ليخرج النص البشري من تحت سنابك خيل التأويلات والقراءات العقيم.. آه لو لم أكن لكنني كنت الذي كان فرت مني سنوات كاملة من أسفار العمر وإصحاحات الأحلام ولم يبق لدي سوي الشعر طريقا وطريقة وجسرا رواغا بين الظن والحقيقة يصمت ماركس في دولابي إذ أتطوح فوق الورق الأبيض يصمت في الذكر الشاعر إذ يصحو الدرويش يتجلي الرب رحيما فالله حبيب الشعراء ويفر الشيخ من المأدبة فالشرع خصيم الشعر ويبقي الإنسان ضعيفا وأظل وحيدا بالغرفة لأطارد ظل السرطان وهو ينهش في رئتي أو أرقب ظلي وأنا أتطوح كالراهب في الراهب حتي آخر شعراء الميدان قبل أسابيع قليلة أجري الشاعر الكبير حلمي سالم عملية جراحية لاستئصال ورم سرطاني أصاب رئته هذا الحوار ليس احتفاء فقط بشفاء الشاعر, بل محاولة لتحريض علي استكمال الشفاء بكتابة تجهز علي السرطان تماما.. ت حلمي سالم.. سلامتك. كيف كانت تجربتك هذه المرة مع المرض بعد تجربة جلطة المخ في2005 ؟ { عشت تجربة المرض عندما أصبت بجلطة في المخ, ورصدتها في ديوان سميته مدائح جلطة المخ صدر عن دار الهلال في العام.2005 والواضح لي أن تجربة المرض مغرية بالكتابة, سواء كانت التجربة ذاتية مثلما حدث معي ومثلما حدث مع بدر شاكر السياب الذي صور مرضه, وأمل دنقل الذي كتب عن مرضه في ديوان أوراق الغرفة رقم8, وهناك من يكتب عن المرض من دون أن يخوض التجربة, وقد كنت من هذا النمط من الشعراء, حيث كتبت عن مرض أمي وأبي, وعن مرض ابن عمي الذي مات بالسرطان.. المرض تجربة شعرية. ت ما الشعري في المرض والوجع؟ { لا أقصد بالشعرية هنا المعني الرومانتيكي في الكلمة بل اعني بها المعني الدرامي المأساوي الذي يكشف المفارقات الإنسانية في تحدي المرض. في المرض تسقط الأقنعة ويظهر الانسان بضعفه وربما بإنسانيته. هذا الانسان الذي يتوحش ويهدم بلدانا ويشعل حروبا ويتآمر علي الجميع, يصبح أمام المرض عاجزا كهربة بالية لا حيلة له في نفسه, وضعفه يكشفه أمام نفسه فيكشف نفسه ويتخلص من هيلمان الاستبداد, ومن أن يظن أنه كلي القدرة- إذا استعرنا تعبير الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور. وهذا الإحساس يقودك إلي خطوة أخري أو سؤال آخر: ماذا تفعل إذا كانت لديك عقائد دنيوية بحتة وواجهت المرض, هل تصر علي عقائدك أم تبحث عن عقائد دينية أخروية تمنحك الأمان والطمأنينة فيما تبقي لك من عمر, وفيما أنت مقبل عليه من موت ومن حياة اخري بعد الموت.. وهل ستجد في هذا الاختبار جسرا بين قناعاتك الدنيوية والقناعات الدينية؟ ماذا فعل حلمي سالم للإجابة علي مثل هذه الأسئلة؟ { هل تحاول اصطيادي.. بل أستجيب للعبة الحوار ضحك حلمي سالم بوهن قبل أن يجيب: لدي حل لهذه الإشكالية منذ زمن طويل حتي قبل أن أصاب بجلطة المخ. فانا صنعت لنفسي صيغة ارتضيها وأرضي بنتيجتها وان كنت اشعر انها ستكون صحيحة.. وهي أني في منزلة بين المنزلتين. ماذا تعني بذلك؟ { اعني انني آخذ الجوهر من العقائد الدنيوية والجوهر من العقائد الدينية, ولا أعتبر ان عقائدي الدنيوية بعيدة تماما عن العقائد الدينية إذ أري بها نوعا من الإيمان, خاصة وأن العقائد لا تبرر لي الكذب والخديعة والفساد والفسوق. أنا بعقائدي أنفس عما تريده العقائد الدينية وأري أنني اذهب الي هدي الدين- جوهر الدين- من طريق آخر, فالأمر بالنسبة لي ليس شكلا او طقسا بل هو غاية وهدف. نعود الي المقارنة بين جلطة المخ والسرطان؟ كيف عرفت بالمرض هذه المرة؟ { أنا سعيد الحظ لان اكتشاف السرطان تم مبكرا, اي في مراحله الاولي, واكتشافه بسرعة جعل من علاجه واستئصاله سريعا, او هكذا الامر حتي الان.. ماذا تقصد لجملتك الاخيرة؟ { تجربة الإصابة بالسرطان جعلتني قريبا من الموت اكثر من تجربة جلطة المخ. ففي التجربة الاولي كان لدي يقين أني ساتجاوز المحنة لان الشفاء من الجلطة يرجع في جزء كبير منه الي الإرادة والروح المعنوية التي يمكنها ان تخفف من آثارها. ولذلك كنت علي يقين من تجاوز الألم. لكن الإصابة هذه المرة بالسرطان لا تصلح معها مسالة الإرادة والروح المعنوية. ولكن اذا جاءتك صدفة جعلتك تكتشف المرض بسرعة وفي توقيت مثالي يجعلك استأثرت قبل ان يدخل في تحد معك, لانك لن تنجح في هذا التحدي, هنا تصبح المسالة إرادة ربنا. في جلطة المخ كتبت وانا لا ازال تحت العلاج. وعندما حدث هذا عرفت انني شفيت لأنني ارتفعت فوق الحالة( عندما تمرض وتدخل المستشفي للعلاج تصبح حالة) وصرت انظر اليها باستقلال.. أخذ ما فيها من شعر واكتب, لكن هذه المرة لم اكتب بعد ولم يأتني وضع الاستقلال عن الحالة لترويضها شعرا وذلك علي الرغم من ان الاطباء اكدوا لي ان الخطر زال وان الورم كان مثاليا ان صح التعبير, فهو ورم صغير ومحدود وتم اكتشافه مبكرا, ومركزه علي جنب في الرئة وتم استئصاله كليا. ما الذي يخيفك يا حلمي؟ { لدي هاجس ميتافيزيقي ان السرطان ما ان يعرف طريقه الي الجسد البشري فانه يلبد فيه ولا يخرج أبدا. وربما لو استطعت الكتابة لارتحت من هذا الهاجس الصوفي محترف حصارات هو.. صاحب خرقة في الشعر لا تخطئها العين.. فما الذي يدفع يساريا الي يمين اليمين؟ هل هو الشعر جسر الرؤي وبوابة للتواؤم؟! سالت حلمي سالم لماذا يبرز التصوف( الجمال اللغوي والانساني) في قصيدتك وكأنك تكمل مسيرة المتصوفة- كيف بدات علاقتك بالصوفية ولماذا استمرت؟ { في البدء كانت القرية.. هناك عدة عوامل أسهمت في ابراز هذا الملمح في شعري اولها الحياة بقرية الراهب مركز شبين الكوم في محافظة المتوفية. وصحيح ان القرية تنسب الي شيخ صوفي ولكن هذا ليس السبب الرئيسي وراء اهتمامي بالتصوف, بل يرجع ذلك الي تنظيم مولد سنوي للطريقة البيومية, وهي احدي الطرق الصوفية. وكان ابي رحمه الله يستقبل شيخ الطريقة ومريديه في بيتنا, وكنت اجلس معهم وأشارك في حلقات الذكر وكان ذلك أمرا ساحرا واسرا بالنسبة لي في طفولتي. العامل الثاني وراء اهتمامي بالتصوف هو ثقافتي التي اكتسبتها في مراحل الدراسة الجامعية, عندما نضجت واطلعت علي التجربة الصوفية الاسلامية. وانا من الكتاب الذين لا يرون فارقا بين ما هو حسي وما هو معنوي, او بين التجريدي و العياني, وقد وجدت في التصوف هذا المزيج بين الحسي وغير الحسي, بين الشهواني والروحي. عند اي المتصوفة توقفت؟ { عند كل المتصوفة الكبار, لكن الحلاج وابن عربي والنفري كانوا الاقرب الي لأنني وجدت في كتاباتهم هذا المزيج الرائع بين الدنيوي والأخروي, بين التجريد والعيان وعند هذا المستوي من القراءة تحول التصوف شيئا فشيئا الي ملمح حياتي, والي تصور للعالم, ورؤية للحياة, وممارسة لها سواء كتبت بهذه الرؤية شعرا ام لم اكتب. كيف يمكن الجمع في قصيدة الحياة بين كارل ماركس والحلاج والنفري؟ { بين ماركس والمتصوفة الإسلاميين الكثير, وأوله الالتصاق الشديد بالحياة علي الرغم مما يشاع عن المتصوفة وانهم منعزلون. وانا اري ان التجديد اللغوي الذي قدمه المتصوفة وخاصة ابن عربي والنفري ليس حيلا بلاغية بل تجديدا للفكر الاسلامي وتعبيرا عن اتصال عميق بالحياة كما يلتقي ماركس معهم في رغبة تغيير الحياة للأفضل والاكثر عدلا وكسر قيود الفقر وسيطرة الطبقات الغنية علي الفقراء. فلم يكن تجديد النفري بلاغة لغوية بل تمردا فكريا واجتماعيا وانا أظن ان هذا التمرد سبب من اسباب أزمة الفكر العربي الاسلامي او أزمة الفقه المحافظ مع المتصوفة, لان الفقهاء لا يعنيهم صلي الصوفي او لم يصل, أدي فريضة الحج ام لم يؤدها كما قال ابن عربي: لماذا احج وانا هنا في الكعبة( وكان في بيته) ولكن ما يهم الفقيه وما يزعجه هو ان المتصوفة يتمردون اجتماعيا وفكريا علي سلطة الفقيه. كيف؟ { لأنهم ألغوا الوسيط الديني بين الله والعباد, وهي الوظيفة التي لعبها الشيوخ الفقهاء ومع الرؤية الصوفية لم يعد لهؤلاء دور, ولم تعد لهم سلطة علي احد. والفكر الصوفي يقوم علي ازالة العوائق بين العبد والرب اذ يستطيع العبد عبر المجاهدة ان يصل الي الله ويتماهي معه, وهذا يعني ان مؤسسة الفقه لم تعد ضرورية والفقهاء بلا عمل. اذ لست بحاجة الي الشيخ لأعرف طريقي الي الله وهذا خطر حقيقي للصوفية علي مؤسسة الفقه. الهذا المحت في قصيدة من قصائد مدائح جلطة المخ الي ان الله حبيب الشعراء؟ { لأنه ليس مؤسسة او سلطة. وهم لا يحبون الفقهاء لانهم سلطة.والفقهاء لا يضايقهم إيمان الشعراء او كفرهم بل يهمهم ويزهدهم إدراك انهم ليسوا شرطا ضروريا لمحبة الله الله حبيب الشعراء لانه ليس سوطا واوامر ونواهي.. الله ارحم من شيخه لانه ارحم الراحمين ولان الله هو المعني الكلي, هو المعني المفتوح الذي يحرض علي المحبة والابداع. واذا عدنا الي التاريخ سنجد ان من عذب الحلاج ليس الله بل الفقهاء والقضاة المتآمرون عليه. ولكنك قلت في قصيدة صباح الخير أيها المجرمون الشرع خصيم الشعر؟ { أقصد بالشرع هنا سلطة الفقيه ومؤسسة الفقه التي تحول الدين الي سلطة قاهرة ولكن الفقهاء يلجأون في نقض بنيان الشعر الي نص ديني { هذه مشكلة اخري فالنصوص المقدسة حمالة اوجه ولذلك تستطيع ان تبرر التسلط بنص ديني او بقراءة خاصة للنص الديني وتستطيع ان تبرر التحرر والحرية بنص ديني. وهذه إشكالية مهمه في الفكر الاسلامي وكيف يمكن حلها؟ { بأن تكون النصوص في المسجد, وان يكون للشارع حرية ابتكار قوانينه بحسب الزمن الذي يعيشه. ولا اعني النصوص الإسلامية فقط. بل والمسيحية ألا تعتقد بإمكانية ان تقودهم الحياة الي ابتكار قراءات جديدة للنصوص تناسب روح العصر وربما تقودهم الي فقه جديد؟ { هذا حلم اتمني تحقيقه. واتمني ان يدرك الإسلاميون ان الشارع( المجتمع) يستطيع إفراز قوانين جديدة وفقها جديد وقراءات عصرية للنصوص. ولكن هناك احتمالا اخر وهوان يدرك الجميع ان رؤية واحدة لا يمكن ان تسود وان تدفع الظروف السياسية والمجتمعية الجميع الي ثقافة العيش المشترك. ت ماذا تقصد بالجميع؟ { جميع التيارات الفكرية والسياسية لأننا في تجربة سياسية وليدة. ورغم طول عمر الحركة السياسية المصرية الا ان تجربتنا الديمقراطية لا تزال وليدة وهنا اتمني ان تكون السنوات الأربع المقبلة بروفه جنرال للعرض القادم للرؤي المستقبلية لشكل الدولة. ولا مانع لدي ان يحكم الإسلاميون الان بشرط ان يتعلموا الدرس اول للديمقراطية وهو احترام الأخر وعدم إقصائه. اذ لا يستطيع احد ان ينفرد بحكم مجتمع مثل مصر ولا ينبغي له ان يفعل اذا استطاع وماذا عن اليسار. أليس سلفيا هو الاخر بمعني من المعاني؟ { هذا صحيح فلدي اليسار أيضا يقين بامتلاك الحقيقة. بل ان اليسار اسهم فيما وصل اليه الإسلاميون من ضيق افق, فهو يشك فيهم دائما ويدفعهم الي الدفاع عن انفسهم طوال الوقت, وفي حالة الدفاع يتخندق الناس ولا ينفتحون ويصبحون شيئا فشيئا اكثر انغلاقا وضيق افق ارفع رأسكعالية ديوانك عن الثورة يقول البعض انه غنائية جديدة يسقط فيها حلمي سالم ضد تاريخه وضد نصه, ويقول البعض انه تعجل الشعر اذ ادركه الفرح. { أنا اتفق مع كثير مما تقول ولكن لي نظرية خاصة فيما يتعلق بقول الشعر. وهي نظرية الضريبة التي يجب ان يدفعها الشاعر تجاه لحظته المتفجرة. وهي نوعان: ضريبة آجلة والأخري عاجلة. اما العاجلة فهي انني لا اخجل من طريقتي في الانفعال بتفجرات لحظة ما وشحنتها وكتابة شعر يوازي هذه اللحظة ويتماهي معها لأنني أؤدي ضريبة عاجلة بالشعر لمن تؤدي هذه الضريبة؟ { هذه القصائد العاجلة هي مشاركتي في الحدث... هي هتافي في المظاهرة, فربما تسهم القصيدة في شحذ الهمم وزيادة وعي مواطن بأهمية اللحظة. هذه طريقتي في المشاركة في الثورة وماذا عن قصيدة العسكر الذين وصفتهم بانهم حراس الحلم؟ { اعترف انني كتبت هذه القصيدة مبكرا بعض الشيء وكان مفترضا ان أتريث, فقد خدعتني كما خدعت الكثير من المصريين التحية العسكرية التي أداها اللواء محسن الفنجري لأرواح الشهداء. وهي لحظة إنسانية. لكن الامور تغيرت وتجاوزت هذه اللحظة, وحراس الحلم الان هم الثوار والشعب. هل تفكر في إعادة كتابة الثورة شعرا بصورة ربما تناقض ما جاء في بعض قصائد ارفع رأسك عالية { لقد فعلت بالفعل, وكتبت عشر قصائد منها قصيدة عن المرأة التي تعرت أمام مجلس الوزراء وقصيدة عن علاء عبد الفتاح ومحنته وسأسميها قصائد في رثاء الثورة.