يواصل الأديب الكبير فؤاد حجازي ممارسة دوره الثقافي ، من خلال سلسلة أدب الجماهير التي كانت المرفأ الأول لعدد كبير من المبدعين منهم محمد روميش صاحب »الليل الرحم« ومحمد يوسف وزكي عمر وأشرف يوسف والمخزنجي وغيرهم، وها هي السلسلة تقدم عملين شعريين لشاعر واحد هما »الكل خايف م المرايا« و»الجودي« للشاعر وحيد راغب، وهو عضو عامل باتحاد كتاب مصر، وله عدد كبير من الإصدارات كان آخرها »طلي ثريات البشارة« عن دار سندباد بالقاهرة . نتوقف هنا عند ديوانه »الجودي« نظرا لتفرد دلالاته، وتميز قصيدته شكلا ومضمونا، والدخول إلي عالم الشاعر »وحيد راغب»« يفرض علينا ما سماه النقاد »بالعلاقة بين النص والقارئ« لينتج ما يسمي »بنظرية التلقي« التي من شأنها إعطاء القارئ مفاتيح وشفرات خاصة جداً تساعده في استيعاب النص الشعري ليصنع عملية فنية تسمي »بإنتاج القارئ للنص« أي المشاركة فيه بقراءته ثم تدوير المعاني ثم إنتاج الرؤي و الدلالة بتأويلات خاصة جداً والتي تتفق مع فكر القارئ، فالتشتت الدلالي هو سمة الشعر الحديث ،والقصائد الصغيرة »الومضة الشعرية« التي قصدها الشاعر وحيد راغب في ديوانه الجديد هذا والذي أطلق عليه اسم »الجودي« هي لحظة خاطفة للحدث تبرق الفكر وتشد الوجدان في الصياغة وتتوقف براعتها علي قدرتها المذهلة في الإيجاز والتكثيف المرئي لكنها ترمي لك بدلالات ورؤي متعددة المعني ، لنسلم معاً مع ما قاله الدكتور »إحسان عباس« في أن هناك ثلاثة عوامل أساسية تحدد اتجاه الشعر الحديث وهي: أولاً: اللحظة التاريخية التي يعيشها الشاعر وهو »العامل الموضوعي«، وثانياً: موقف الشاعر من هذه اللحظة التاريخية قبولاً ورفضاً »اتجاهه« وهو »العامل الذاتي«، وثالثاُ : القدرة الفنية علي التشكيل والصياغة »طاقة الشاعر« و هو»العامل الجمالي«. هيمنة النص فشعر »وحيد راغب« يحتاج إلي قارئ من نوع خاص قارئ يخلص ويطوع كل حواسه في خدمة النص الشعري دون ملل أو عجلة من أمره ،فشعره يفرض هيمنته العقلية والتاريخية والسياسية والفنية عليك ليجعلك في مواجهة دائمة بين محصولك الثقافي ومخزونك الفكري و بين الاصطدام بدلالاتِ لا يسهل تأويلها مما يقودنا إلي النظرية الحديثة لتلقي الشعر الحديث التي تفرش بساط »الأفق المتسع« ليشمل »أفق النص من ناحية وأفق القارئ من ناحية أخري« أي »توقعاته العقلية« مما يجعله تحت ضغط »مدي كفاءته التأويلية« والقدرة علي التنبؤ بما لم يأت به الشاعر وكلها تحتاج إلي جهدِ وتدريبٍ عقلي يتم »بفعل القراءة الواعية» ليستخلص مراداً يقتنع به هو دون الضرورة إلي الاستسلام لما قصده الشاعر، ففضاء التأويل مفروش بنجمات الأضواء التي قد تبرق عندك وتخفت عند غيرك، لكنّا نشترط هنا عدم الشطح في الفهم إلي أماكن غير مأهولة بالمعني ، فلابد من نواة أصلية يدور حولها فهم القارئ بما قد يمس بعض رغائب الشاعر ولو من جانب واحد وهي ما يصل إليها القارئ بفعل عملية »القراءة الواعية«. وسائل إنتاج القارئ للنص : والمتأمل في الومضات »مقطوعاته الشعرية القصيرة« للشاعر »وحيد راغب« يجد أنه قد رمي بوسائل عده تساعد القارئ في السير بثقة في عملية إنتاج النص، منها : 1- الاعتماد علي الحوار المستتر بين الشاعر والقارئ والذي ينمو عن طريق تفجير السؤال الممتد المحمل بأثقال تعدد الرؤي في شبه اختبارٍ لأفق القارئ والذي يقوده إلي التفسير الملائم له إيماناً بقول »الدكتور مصطفي ناصف« (نحن نحتاج إلي أن نميز الكتابات التي تجعل أصحابها في إطار الجهد الخصيب الذي يبذلونه بإثارة السؤال مرة أخري أو تجاوزه إلي سؤال ثان، وإن طمأنينية الإجابات لا تلغي السؤال، فالسؤال هو التجاوز) كرقص المعني بين جمود الخشب وصلابته مثلاً وصوت الضعف »صراخه« حيث يعيد القارئ تفكيك النص ثم بناءه بتأويلٍِ خاصٍ »سياسياً ،نفسياً، اجتماعياً« كما في .. ألم تشعر بصراخ الخشب حين تدق المسمار ؟! حتي عندما يطرح سؤالاً عليك، فالاختيار يكون مقصوداً لمداعبة ثقافاتك لتنتج إجاباتك بنفسك كنوعٍ من مشاركة القارئ للنص »إنتاج النص« كما في ضغطه علي بؤر العجز والاستكانة بقوله: أنثرثر أم نبقي أم نبقي لنثرثر ؟ نرشف قهوتنا ونوادي السادة غرقي في الدجل ، ووعد الريح 2- رقائق الحكمة التي تسكن ومضات الشاعر فلا يجب أن نسلم بأنها حكمة خالصة خشية أن تفرض نفسها بتأويلٍ معينٍ علي القارئ كي يتقبل تجربة الشاعر دون حراك فكري وإنما هي رقائق لتهيئة المتلقي تهيئة نفسية بغرض رمي بعض الشفرات لينتج بنفسه خلاصة التجربة فتراه مثلاً يصور لك صنوف البشر برغم التوءمة الآدمية يصورهم بين التسامي الروحي والمادية في قوله: البشر توءم غير متجانس إما روح وريحان وإما مالك لا يمنحهم شربة ماء وكذلك حين يصور وجود الإنسان منذ بدايته حتي مماته. في دائرة الزمن الموازي لعمره : الزمن دائرة مفعمة تبدأ بصراخ و تُغلق بقماشٍ أبيض 3- انتماء شعر الشاعر »ومضاته الشعرية القصيرة« لمفردات معينة يصر علي تواجدها كظلٍ لفكرته، قصد هذا أم لم يقصد وهي في الحقيقة، ألفاظ نورانية لكشف بعض شفرات النص حين يقدمها للقارئ حتي تساعده علي الدخول في منطقة »عشق المعني« والارتباط الوجداني بها في أغلب الومضات لينتج النص بنفسه مثل« مفردة »العصفور« ،و »اللذة« والفعل »يستفز« والاسم منه« وكلها ألفاظ لها دلالا ت تموج في خلد الشاعر قفزت منه دونما يقصد بفعل التفاعل مع التجربة . فالعصفور فيه دلالة الفضاء المتسع والحرية وكسر القيود ورفرفة القول ولك أن تصب فيه كل ما تريد من التأويلات كارتباط العصفور الدائم بالنافذة المطلة علي العالم وكذلك بفعل »النقر« حيث يصنعان معاً ثورة من داخلك ليأتيا لك بعهدٍ جديدٍ موصوفٍ بعودة الحق 4- تراسل الصورة الشعرية في الومضة الواحدة كي يستفز الشاعر كفاءة و قدرة القارئ علي التأويل وذلك برمي أكثر من صورة في المقطوعة الشعرية الواحدة، ليترك للقارئ حرية خلق الترابط بينهما لتخرج من أفق الشاعر المحدد المعني إلي آفاق القارئ المتسعة بعناقيد التأويل، مثلما يعدد صورة الانتماء ويربطها بالعمل والخير، مستدعياً التاريخ الديني في عهد يوسف الصديق كما في قوله : الحنطة كي نجعل لها قداساً وعيداً لا ينبغي أن ننظر من يحلم بالسبع العجاف فهي حلمات الوطن التي تدر الانتماء والحياة إشكالية ومضات وحيد راغب : 1- تقع قصائد الشاعر القصيرة »الومضات« في إشكالية غريبة نوعاً ما، فهي تفرض أفقاً واسعاً للتأويلات العديدة محملة بمسحات تاريخية ودينية وسياسية وثقافية تتيح للقارئ أن يغوص فيها كيفما تتراءي له كفاءته التأويلية، وفي نفس الوقت تحصره في فكرة تبدو محددة الملامح وضيقة الأفق ، كشبكة معاني يرميها الشاعر في بحر المتلقي في أول وهلة ثم يغلق شبكته علي معني أو معان محددة كي يسقيه خلاصة نظرته للحدث ووسيلته لهذا هي الكثرة والمبالغة في »أفعال الأمر والنهي« التي تعشش في الومضات وكأنها إلزاماً خفيا منه بخضوع القارئ لتجربة الشاعر وتأويله بدلاً من إخضاع النص للقارئ حتي تتم عملية إنتاج النص باتساع التأويل والدلالات والتي غالباً ما تبدأ بها الومضات الشعرية القصيرة لدي الشاعر أمثال «مسّد ، قل، لا تمد،جرّب، لتبني، اضبط ،أزل، بايع، لا تقم، شد، لا تقطعه،خذ،أسقط، أرشف ،تنفس، ادمج، امسك، لا تقدح، ادخل، اخفي، ابني وغيرها.... تماما كما ساقها في ومضة معبرة فهو يدعوك للإبحار في الحروف دعوة اتساع ثم يحدد لك المجداف »الخيال والنوة والجزائر« قائلا: لتبحر في الحروف مجدافك الخيال والنوة والجزائر 2- قد تتكرر الفكرة لدي الشاعر وتلبس أكثر من ثوبٍ تعبيري وبرغم ما في هذا من مقدرة الشاعر علي التجدد في طرح أفكاره إلا أن المتتبع للمعني قد يُستهلك تأويله بالتكرار فيمل خاصة عندما يقرب عدد الومضات من »300« ومضة برغم جمال الصورة كمعالجته فكرة التفرقة والدعوة للوحدة بين البشر قائلاً: إذا مررت من نافذة القلب قوس قزح النافذة التي أخرجتك سبعاً تعيدك في قوة الرعد وحدة في الجمع و تري المعني نفسه في ... أصابع يدك تمتلك خمسة أسماء فهل يمسح الخجل قمة؟! تلتقي في معصم لتفترق خمسة 3- سعي الشاعر إلي عنونة قصائده الصغيرة بعنوان واحد و »الجودي« ذلك الجبل الموجود في الجزيرة والذي استقرت عليه سفينة »نوح عليه السلام« وبرغم دلالة اللفظ المحددة نوعاً إلا أن اتساع مدارات الومضات الشعرية في أفق القارئ لا تلتزم بذلك ولا يشغلنا كثيراً مغزي العنوان لأنه لن يستطيع أن يغمر القارئ بدلالاته، كافة الرؤي والثقافات في التناول إيماناً بقول الدكتور «محمد عبد المطلب» (الذي يتأمل مجموعة عناوين القصائد الحديثة مثلاً، يحاول اتخاذها مدخلاً إلي المعرفة النصية يفاجأ بأن توجهاتها الدلالية معاكسة تماماً لحركة المعني في النص وهو ما يقتضي نوعاً من الحذر والحيطة عند البحث عن مفاتيح النصوص ) وبرغم ذلك كله لابد للشاعر في النهاية أن يسمي ديوانه أو قصائده بما يشاء وبما يتوافق مع نفسيته الشعرية لكنه لا يصبغ القارئ برؤية معينة . 4- لا ينكر منصف أن بعض قصائد الشاعر القصيرة »الومضات« تغلف بغلاف الجفاء الروحي الذي يدفع القارئ إلي النفور منها لأنها محملة بثقافات وبتجارب أكثر مما تحتمل، وتحتاج إلي جهدٍ في إعمال العقل لاستنباط المغزي، وبرغم ثراء ذلك إلا أن الذائقة دائماً تميل إلي الحس الذي يدغدغ الوجدان وكذلك طول بعض الومضات الشعرية تجعلها تخرج عن خاصية التكثيف والإيجاز وهي اللعبة المتفق عليها بين الشاعر والقارئ في معايشة هذه الومضات ، وذلك لأن هذا الطول يخلق ترهلات في تكرار المعني و يلبسه معني القصة بالشرح والتفسير كما في القصائد القصيرة المرقمة (119 ، 174، 223 ، 233 ) وغيرها كلمة أخيرة : - تقاسمت ومضات الشاعر »وحيد راغب« الوجع الاجتماعي من عجزٍ وجوعٍ وعوزٍ مما يؤدي بالضرورة إلي الوجع السياسي، ليطفو بالدعوة للثورة، فسارت مع الثورة منذ كانت جنيناً لم يولد بعد - كما اختصت ومضات الشاعر وحيد راغب بتشبيهات تشع بتجليات صورية عالية الابتكار من حقنا أن ننسبها للشاعر وحده مثل (الببغاء القلبي ، فلاحة أرض القلوب، المحتلب الأيام ،ونعجات الضمير، حلمات الوطن، ثدي البحار، خلخال الكلام و....) وتتجلي مقدرة الشاعر في فنيةٍ صنع المفارقة بتعدد الأضداد بتجاذبهاوتقاربها معاً حتي تتولد لنا مغناطيسية التوحد في الفكرة مثل ( وتشرق في غروبٍ آخر ) كما نلمس اجتماع الفعل »أعاقر« مع »مفردة الخصيب« في مقطوعة شعرية بديعة قائلاً: أذاعوا في الميكرفون مع إني أعاقر الحياة بفنها الخصيب . وكلها آفاق متسعة ترمي بظلالها علي فكر القارئ ليسكن النص ذاته بحضوره وإخضاعه له بدلاً من الخضوع مستسلماً له اتفاقاً مع قول الشاعر الكبير »أدونيس» ( إن القراءة لا تهدف إلي معرفة المعني أو المضمون بشكل مباشر وإنما تهدف إلي مرافقة النص في رحيله الاستكشافي)، لهذا كله سيظل الشاعر »وحيد راغب «متفرداً في تجربته الشعرية،