لا يمكن لأي حيّ أن يحتفظ بجسده شاباً إلي الأبد.. قد يحدث أن تبقي سمعته وصيته وحسن أخلاقه بين الناس، أما جسده فلابد أنه فانٍ. إن الثمار الطيبة للشجرة لا تبقي بعد نضوجها مُعلقة فوق الأغصان، فلابد أن يأتي يوم ما ويقطفها إنسان، أو يأكلها طير، أو تسقط إذا نُسيت فوق أمها، وعلي ساعد أخيها الغصن الذي حملها وهي لاتزال زهرة. كذلك هي مياه أي نهر.. فحينما يفيض النهر لا يمكنه الاحتفاظ بمياهه، وعندما تمتلأ غيوم السماء بالثلج والمطر سوف تأتي لحظة في عمرها تكون لحظة حاسمة، فتضيء الفضاء ببرقها وتسقط حملها فوق السهول وقمم الجبال.. وعندما تكتنز سنابل القمح ولا تجد من يحصدها، تسقط حبة حبة.. والوردة عندما تتفتح لن تقدر علي الاحتفاظ بعطرها داخل جسدها، وبالتالي لا تستطيع أن تمنعه أو تخفيه عن الآخرين. إنما ذلك لا يعني أبداً نهاية حياة الأشجار التي فقدت ثمارها، ولا الغيوم التي منحت ثلوجها وأمطارها إلي تراب الأرض وصخور الجبال، ولا سنابل القمح التي حصدت أو سقطت دون فائدة، ولا الوردة التي أعطت عبيرها دون مقابل. فلا شيء في الحياة يتوقف إلا ليبدأ من جديد، ويولد مرة أخري، ليدل علي عطر آخر، وثمار أخري ستأتي... فالنهر عندما امتلأ لابد له من الفيضان، وبذلك يكون قد تخلص من مياهه القديمة الزائدة في مجراه، ليسمح لمياه عذبة وشابة تسكن فيه أو تجري في جسده، والزهرة عندما اكتملت ومنحت عطرها دون مقابل، ذبلت وسقطت علي الأرض، لا لتموت، بل لتعطي فرصة أخري لزهرة جديدة وعطر مختلف، والثمرة حين قُطفت في أونها لابد أن تكون قد تركت مكانها فوق الغصن ندبة تدل علي أنها كانت هنا، وأن الغصن أصبح مستعدا وينتظر ثماراً أخري في طريقها للولادة والنضوج.. وكل جذر ينمو تحت الأرض، لابد أن يقابله نمو آخر فوقها، ومن ينمو في العتمة تمتد أصابعه لتعانق ضوء الصباح ونور الشمس، وبذلك يكون قد أخذ من العتمة درعا يحميه من اللصوص، ومن ضوء الصباح ونور الشمس سيفا يقيه خفافيش الليل وأفاعي الظلام. ترحل العتمة في نهاية كل ليل، وبالمقابل يولد الفجر في بداية كل صباح.. حياة لابد لها من أطراف وحلقات تجمعها.. حياة من الضرورة أن تلامس أجنحتها العتمة والنور، مثلما يمر الجنين من عتمة الرحم إلي نور الصباح، ومثلما تنمو حبة البلوط في ظلمة الوحل شاقة طريقها بصبر وشجاعة نحو خيوط الشمس وزرقة السماء. فبعد كل حمل تأتي الولادة.. وإذا تأخرت عن موعدها، فلابد من موت أكيد يحصد الأم أو الجنين، أو الاثنين معاً نموت ليولد من بعدنا أناس آخرون، دورنا في الحياة محدود، له سقف ووزن ومقاييس، ولا يصح أن تبقي الوردة متفتحة طوال أيام السنة، ولا يجوز أن يظل عطرها فيها إلي الأبد، ولا حبات الكرز من الطبيعي أن تبقي معلقة فوق صدر أمهاتها الأشجار إلي ما لا نهاية. إن الأعواد الخضراء الطرية لابد أن تقسو في يوم ما، فتحمل الأزهار والثمار، كذلك الأولاد لن يبقوا صغاراً يلعبون.. فكل من يولد لابد له من أن ينمو ويكبر ويقسو، وسوف يأتيه يوم يلين فيه ويذبل، فالثمار التي تنضجت لن تبقي طويلاً فوق الشجر، لأن ازدياد النضوج فيها سيحملها علي السقوط، وبالتالي سيكون هنالك ثمارا أخري، يانعة تنتظر في العتمة فرصتها الأكيدة في الخروج إلي الحياة. إن الحياة بيت واسع، لا يضيق بالصغار أو الكبار، ولسنا في نهاية المطاف سوي ضيوف ونزلاء، لا إلي ما لا نهاية، بل إلي حين. سهيل الشعار