ومن يمكنه الحديث عن تاريخنا الحديث أفضل من صلاح عيسي؟ بأسلوب صحفي بسيط يعيد صلاح عيسي سرد حكاية القرن التاسع عشر والعشرين، في عدد من الكتب من أهمها »رجال ريا وسكينة«، »حكايات من دفتر الوطن«، »مثقفون وعسكر«، »البرنسيسة والأفندي« وغيرها. ينصت جيداً إلي جميع الجدالات الاجتماعية التي ثارت في التاريخ الحديث، وينقل صورة أقرب للدقة لما حدث. لا يكتفي بالأوراق الرسمية وإنما يتجاوزها إلي الصحافة والإعلام والكتب، يحاول تخليص التاريخ من رسميته وأن يجعله تاريخاً للمجتمع أكثر منه تاريخاً للدولة، الدولة التي يبدو هو نفسه مؤمناً بها. صلاح عيسي، وهو الشخص المحير، ذو الآراء السياسية المثيرة للجدل بخصوص عصر مبارك، يقرأ هنا الجدالات حول دساتير مصر المختلفة، من 1866 وحتي مشروع الدستور الحالي، ويحدثنا هنا عن أسباب رفضه للمشروع الحالي علي ضوء الدساتير السابقة. لنبدأ بمشروع الدستور الحالي. تبدو كلمة "توافق" هي الكلمة الأساسية في كلمات المعترضين علي مشروع الدستور. نعم. أعتقد أن أهم عيب في هذا الدستور هو صدوره دون توافق، ودون أن يضع الذين صاغوه هذا التوافق في اعتبارهم. دعنا نلق نظرة علي الدساتير المصرية السابقة: كان هناك دستور 23، وكان أول خطوة في إطار الدساتير العصرية، وقبله كان دستور 1866 وكان أقرب للائحة للانتخابات، ودستورا 1879 و1882، وقد صدر الأخير أثناء الثورة العرابية. وبرغم أن هذه الدساتير صدرت بإرادة منفردة، دستور 1866 وضعه الخديو اسماعيل ودستور 1879 وضعه شريف باشا لكن كان هناك مراعاة للتوافق. وهذه الدساتير أثارت بعض المشاكل التي ستندهش من حدوثها في هذا الوقت المبكر. حينما أراد الخديو إسماعيل مثلا، وكان يحكم بقوة دستور 1866، فض الدورة البرلمانية عام 1879 قبل اعتماد الميزانية عارضه سر تجار القاهرة عبد السلام المويلحي باشا، وقال إنه يصر علي أن تُعرض الميزانية علي البرلمان، وأن البرلمانات أُنشئت في البلاد »الأوروباوية«، بالذات من أجل الإدارة المالية للدولة. هذا يدل علي أنه كانت هناك ثمة مصالح اجتماعية متصادمة نشأت في هذا العهد. وبالنسبة لدستور 1882، أصر الثوار علي أن يأخذ مجلس النواب الحق في تعديل الميزانية وحدثت بالتالي أزمة كبيرة ثارت مناقشة ذات دلالة كبيرة بين محمد عبيد، أحد ضباط الثورة، ومحمد سلطان رئيس مجلس النواب، الذي اعترض علي حق المجلس في تعديل الميزانية. وقال له محمد عبيد »نحن لا ناقة لنا ولا جمل في هذه البلد«، فقال له سلطان: »إذن دعوها لأصحاب النياق والجمال«، يعني أن من يحكم لابد أن يكون من الأثرياء، هو الذي كان يملك 13 ألف فدان. هذا يعني أنه طول الوقت هناك مصالح اجتماعية لابد أن يراعيها الدستور. وبالنسبة لدستور 1923، الذي انسحب الوفد من صياغته بما يذكرنا بانسحاب القوي المعارضة من اللجنة التأسيسية اليوم. نعم. دستور 1923 وضعته لجنة شكلها الملك واقترحها رئيس الوزراء عدلي باشا، وبالرغم من أن الوفد، وهو حزب الأغلبية آنذاك، قاطع اللجنة ورفض المشاركة فيها، ووصفها ب»لجنة الأشقياء«، إلا أنه طبق الدستور في النهاية لأن واضعيه راعوا حقوق من غابوا عنه. وكانت المجموعة المنشقة عن الوفد، والتي عُرفت بعد ذلك ب»الأحرار الدستوريين«، قد راعت حزب الوفد حتي بعد مقاطعته وصاغت المبادئ التي تشكل توافقاً بين الشعب المصري. أما ما حدث في اللجنة التأسيسية فهو خلاف صعب حله، مما أدي ذلك إلي انسحاب القوي المعارضة من اللجنة، ولكن المجموعة التي استأثرت بعد ذلك بوضعه، وهي تيارات الإسلام السياسي، لم تضع في اعتبارها المجموعة المنسحبة. كانت هناك 36 مادة مختلف عليها، وبدلا من السعي للتوافق تم اتخاذ بعض الإجراءات المتعجلة التي نصح بها بعض مستشاري الرئيس، والتي تقضي بالتنازل عن المهلة التي منحها الرئيس في الإعلان الدستوري، وقررت أن يتم إنجاز الدستور خلال 48 ساعة، ليتبين بعدها أن الخلاف مازال قائماً، كما اتضح من كلام المستشار محمود مكي نائب الرئيس حينما قال إن هناك 15 مادة غير متفق عليها، ومع ذلك تقرر طرحه للاستفتاء خلال أسبوعين، برغم أنه كان هناك وقت للنقاش وإمكانية للتوافق. هذه هي اعتراضاتك حول كيفية تشكيل التأسيسية، فما اعتراضاتك حول مواد الدستور نفسها؟ هناك بالطبع اعتراضات أخري لديّ لا أعرف إن كان المنسحبون قد أشاروا إليها أم لا. أعتقد أن النصوص المتعلقة بما يسمي »هوية الدولة« هي نصوص يتدخل فيها التزمت الديني. أنا ممن يقولون إنه لا يجوز لأحد أن يطرح سؤال هوية مصر. مصر مصرية، وهذا لا يمكن النقاش فيه وإلا كنا نجهل التاريخ والجغرافيا. ولان مصر مصرية فهي فرعونية ومسيحية وإسلامية وعربية في نفس الوقت. ولا يجوز لأحد القول إن مصر قبطية أو إسلامية، ولا يجوز بحث سؤال الهوية من منظور الأغلبية والأقلية. والمادة الثانية بالتحديد؟ المادة الثانية في دستور 71 كانت تنص علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، هذا نص توافقي وافق عليه الجميع وفسرته المحكمة الدستورية تفسيراً محكماً من الناحية الشرعية والدستورية. قال التفسير إن مبادئ الشريعة الاسلامية هي الأحكام قطعية الثبوت والدلالة في الشريعة الاسلامية، التي لا يجوز الاجتهاد فيها. ولا يجوز للمشرع الخروج عنها في أي قانون يصدره، أما الاحكام ظنية الثبوت والدلالة في الشريعة، فهي أحكام متغيرة بطبيعة الزمان والمكان، ويجوز الاجتهاد فيها ويجوز للمشرع أو واضع القانون الأخذ بأقوال مذهب من المذاهب أو فقيه من الفقهاء في هذا المذهب أو الخلط بين أكثر من مذهب، أو أكثر من فقيه، أو حتي إهمال هذا كله والاجتهاد برأيه، في إطار مقاصد الشريعة، وهي حفظ النفس والمال والعرض. أين الاعتراض علي هذا؟ ما الذي أثار مشكلة بخصوص هذا في الجمعية؟ هل يريد أحد إلزامي بالأمور ظنية الثبوت والدلالة؟ لماذا يريد أحد إلزامي بمن يقولون إن إقامة التماثيل حرام؟ هذا اصطناع لمشكلة لم يكن هناك مبرر لها. ولكن السلفيين، وهم أقلية في الجمعية التأسيسية، فرضوا هذا الخلاف علي الجمعية. هذا مع العلم بأن الإخوان في برنامج الحزب الذي كانوا يعزمون تأسيسه عام 2006 نادوا بنفس التفسير الذي أخذت به الجمعية التأسيسية، قالوا إنهم ملتزمون بالأمور قطعية الثبوت والدلالة، وإن ماهو غير قطعي الثبوت أو الدلالة فيه مجال للرفض والاضافة والحذف. واليوم يغرق السلفيون الجمعية بمشاكل من نوعية »من الذي يفسر مبادئ الشريعة الإسلامية، الأزهر أم المحكمة الدستورية«، ثم ينتهي الأمر بإضافة المادة 219 الخاصة بإعادة تفسير المبادئ، والتي تقول إن المقصود بالشريعة هي أصولها الكلية ومصادرها الفكرية والمصادر المعترف بها لدي أهل السنة والجماعة. بينما كل هذه المصادر لا يوجد سوي أمرين صحيحين، وهما القرآن والسنة، وكل ما غيرهما، مثل الإجماع والقياس، كله مصادر بشرية، كانت صحيحة في زمانها. الصحيح حتي الان هو قطعي الثبوت والدلالة، وإلا فلا يصبح القرآن صالحاً لكل زمان ومكان. والمشكلة الأكبر إنهم حتي الآن يصورون الخلاف وكأنه حول تطبيق الشريعة، بينما هو حول رؤيتين، رؤية تري في الشريعة ما يتواءم مع الدولة المدنية العصرية، إذا أخذنا بالتفسير الميسر، ورؤية العناصر المتزمتة التي تؤدي لمشاكل اجتماعية كما تسيء للإسلام أيضاً. لنتحدث عن تطبيقات هذه المادة. كيف يمكن لهذه المواد قمع الحريات بشكل عملي؟ أعتقد أن الإحالة للمادة 219 هو ما سيخلق المشاكل. وأعتقد أنه لا ضرورة لها، وأنها هي التي دفعت الكنيسة للانسحاب. ولكن دعنا نتحدث عن الحريات. يقال إن هذا الدستور كفل من الحريات ما لم يكفله أي دستور آخر. والحقيقة إن باب الحريات ينتهي بفقرة بسيطة تقول: »وتمارس هذه الحريات الواردة في إطار الالتزام بمقومات الدولة والمجتمع الواردة في الباب السابق«. هكذا تقوم بالشطب علي الحريات. علماً أن المادة الأصلية كانت تقول: »بما لا يخالف شرع الله«. وتم تخفيفها لتراعي "مقومات الدولة والمجتمع"! وفيما يتعلق بالصحافة بشكل خاص؟ هناك مادتان خاصتان بحرية الصحافة، الأولي تؤكد علي حرية التعبير والصحافة والنشر، ولكنها تنهي كل جملة ب»في إطار«، في إطار الدولة والمجتمع والحق في الخصوصية، وهي كلها إطارات تعطي المشرع الحق في تقييد الصحافة. أما المادة الثانية فتقول إنه لا يجوز غلق الصحف أو تعطيلها إلا بحكم قضائي. ويلزمني هنا وقفة تاريخية. الحق في إغلاق الصحف تم إلغاؤه في دستور 23، وأعاده صدقي باشا في دستور 1930، وألغي مرة أخري في 1935 مع سقوط دستور صدقي، ومنذ ذلك الحين وهو غير موجود. في قانون العقوبات نصوص تقضي بتعطيل الصحف. تعطيل الصحف وليس إغلاقها. المنطق يقول إن إغلاق الصحيفة هو عقاب جماعي يمارس علي الصحيفة كلها بسبب خطأ محرر. التعطيل في قانون العقوبات كان له عدة أسباب منها تهمة "العيب في الذات الملكية« والتي تحولت إلي تهمة »إهانة رئيس الجمهورية«. إذا ارتكبت الصحيفة خطأ كهذا يلتزم القاضي بتعطيلها لثلاثة أشهر إذا كانت جريدة يومية أو أكثر إذا كانت أسبوعية أو شهرية. ولكن هذا تم إلغاؤه أيضا في 2006، بفضل نضال الصحفيين المصريين. كيف ينجح الصحفيون في النضال من أجل إلغاء عقوبة التعطيل في عصر مبارك، فتتحول إلي عقوبة إغلاق في عهد محمد مرسي؟! يبدو أن الخلاف في الأصل هو حول رؤية الإسلاميين. كيف تري وجود الإسلاميين في الساحة كقوة سياسية وفاعلة في صياغة الدستور؟ يمكننا للإجابة علي هذا الرجوع لدستور 71، والذي كان يحوي فقرة تقول: »ولا يجوز تأسيس أحزاب سياسية علي أسس أو مرجعية دينية«، هذه المادة دخل عليها تعديل بعد الثورة مباشرة، وقامت به لجنة رأسها طارق البشري حينما حذفت كلمة »مرجعية«. وأخذ قانون الأحزاب الذي أصدره المجلس العسكري بهذا النص، ولكن النص الموجود في مشروع الدستور الحالي يقول: "لا يجوز تأسيس أحزاب سياسية تقوم بالتفريق بين المصريين علي أساس الدين". هذا سيحول مصر إلي لبنان أخري. لدينا حزب الحرية والعدالة وهو الذراع السياسية لحركة الإخوان المسلمين، وحزب النور السلفي، وحزب الأصالة السلفي. الأحزاب تحولت إلي أحزاب طائفية. كلها قائمة علي أسس ومرجعيات دينية! ولكن حتي لو لم يحدث هذا، سيظل الإسلاميون موجودين كقوة في الشارع. نعم. وهذا ما ننادي به الإخوان المسلمين حين نطالبهم بالفصل بين الدعوة والسياسة. يفترض أن الجماعة للدعوة والحزب السياسي له علاقة بضرورات الحياة اليومية. هذا ما وصلت إليه الأحزاب الإسلامية في تركيا مثلا. لا نسمع أن حزب العدالة والتنمية يصوغ رؤية الإخوان المسلمين. وإنما يصوغ رؤيته في قوانين عصرية. لم يكن هناك أي مرونة من جانب اللجنة التأسيسية في موضوع الحريات. هناك أمور أخذت بها اللجنة التأسيسية. المادة 11 من المسودة الأولي كانت تقول إن »الدولة والمجتمع يكفلان الحفاظ علي الأخلاق العامة وعلي القيم الأصلية للشعب المصري«. اعترض المعترضون علي كلمة "المجتمع"، هذا يعطي الناس الحق في التدخل في الحريات الشخصية، ويصير لدينا مثل ما حدث في السويس حينما تم قتل الشاب الذي يسير مع خطيبته علي يد متطرفين. استجابت اللجنة التأسيسية للاعتراضات وحذفت "المجتمع" من المادة. ولكن أليس لديك اعتراض علي تدخل الدولة في الأخلاق والقيم؟ هذا ليس من حقها. بالطبع. الصيغة الحالية صيغة أبوية تفرض الوصاية، ولكن يمكن قبولها من باب التوافق، خاصة أنه ليس لدينا من يدعون لممارسة الجنس في الشوارع مثلا. لديّ فضول لأعرف كيف كانت الدساتير السابقة تتعامل مع موضوع »الأخلاق«؟ الدساتير توضع أصلاً كعقد اجتماعي ينظم علاقة القوي والمصالح الاجتماعية ببعضها البعض وعلاقتها بالدولة، بهدف الاتفاق علي حدود دنيا. هذا يبدأ من فكرة أننا متنوعون ومختلفون دينياً وطبقياً ومتساوون أمام القانون. الدستور يضمن لنا أن تحمي الدولة حقوقنا وألا تنحاز لفئة دون الأخري وألا تتغول هي بذاتها علي حقوقنا. لهذا ففي الدساتير السابقة لم يكن هناك أبواب خاصة بالأخلاق. الدساتير كانت في الغالب ثلاثة أبواب، عن الدولة والحقوق والحريات والسلطات. ولكن المواضيع الأخلاقية كانت دائمة الاشتعال، موضوع البغاء مثلا الذي اشتعل في أربعينيات القرن الماضي؟ التيار الإسلامي كان موجودا دائماً في المجتمع، وعندما بدأ التمدن بدأ كثيرون من أتباعه بالانزعاج. هذا الانزعاج لم يكن مناطه الدساتير وإنما الصحف والقانون أحياناً. كان هناك جدل بالطبع حول الدعارة، والتي كانت مرفوضة من الناحية الأخلاقية والإنسانية والصحية أيضاً. أما الدساتير فكانت تتحدث عن الحقوق الاجتماعية. بدأ هذا من مشروع دستور 1954 الذي اعترف بالحق في الإضراب، والذي عاود الاعتراف به مسودة الدستور الحالية، وهوا ما أراه ميزة كبيرة. الدستور المزمع الاستفتاء عليه هو أول دستور يعترف بالحق في الإضراب بعد مشروع دستور 1954، وهو ما يُحسب له. كان الموضوع الأساسي للخلاف حول الدساتير المختلفة هو السلطة. أصلاً البرلمانات نشأت لتكف يد الملك عن فرض الضرائب. كان الأساس هو أن الملك كلما احتاج إلي المالك فرض الضرائب والمكوس، وبالتالي ثارت الشعوب وطالبت بالرقابة علي قيمة الضرائب وعلي أماكن إنفاقها. ولهذا فإنني أنحني إعجاباً بهذا الوعي المبكر لدي النخبة المصرية في 1866 و1881، التي تنبهت لهذه الفكرة بشكل واضح ووصلت إلي ما يشبه العصيان المدني احتجاجا علي تقييد حرية ممثلي الشعب في مراقبة الميزانية العامة.