كعادتها السماء تعطينا ذلك الإحساس الأذلي بالنشوة والأمل والسعادة، وكثيرا ما تأخذنا إلي عالم سحري آخر مليء بالألغاز والأحلام الجميلة الرقيقة التي تلامس تلك الأشياء الكامنة في دروب الروح وثنايا القلب ، فيذهب العقل لرحلة صوفية مليئة باللحظات الرائعة وترهف الأذن لتغريد طيور الجنان وتحلق الروح في هذا الفضاء البعيد هاربة من الدنيا وباحثة عن الخلود. أعيش تلك الخطرات الناعمة علي جلستي الصغيرة التي تعودت عليها وتعودت علي َ في نفس الوقت من كل يوم ، يأتيني هذا الإحساس الغامض النشوان كلما نظرت إلي السماء وتجولت بين السحاب حتي إذا فاجأني القمر عدت سريعا إلي حديقتي . يطل هذا الكائن الملائكي من الشرفة فتتأجج بداخل الروح أمواج الشعر والغزل وتتراقص الكلمات وتعلو الألحان ترحيبا بهذا الضوء الرقيق الناعم الصديق الذي يدفعك دوما إلي أن تسبح في بحر الأحلام متمنياً الغرق . كل شيء يتحدث رغم السكون ، كل العيون تتأمل سديم الكون وتعترف أنه مسافة ضيقة جدا تفرق ما بين العقل والجنون. يأتيني الشاي في الكوب الشفاف .. أرشف نشاط الطبيعة ، والدفء في برد الشتاء ناظراً إلي الشجرة والزهرة والنافورة التي لا تكف عن البكاء ، فيتألف هذا المشهد الثابت الذي طالما آنسني وحدتي . وتتوالي الرشفات الواحدة تلو الأخري ... وتتوالي القصائد ورائحة الورود وشدو الأغنيات فيشق هذا المسرح صفير القطار القادم من بعيد... فيحرك فيَ القلب ويحرك فيا الروح فيتركني الإثنان ! أأجري إليهم أم أنهم لن يأتوا ؟ ! أهذا واقع أحياه ؟ أم أن الوهم فيَ يشدو؟! أتعود الأيام؟ ونأتي بالعود وتنطلق الأنغام؟ صفير القطار يأتيني همسا ... يبتعد رويدا رويدا .. فيهاجر سمعي صفير القطار قد أحزنتني بالذكري وحركت دمعي ذهب الأحباب وراحت الأيام فهل من عودة؟ اختفي الأريج وذبل الزهر فهل من الماء ولو قطره؟ ها هو القمر في السماء منيراً حتي مطلع الصباح ، ها هي الأحزان مع الأحلام تجول في الصدر والروح فياليت الجراح تندمل. فلتذهب يا قطار لكن عدني أن تأتي ثانية ومعك الأحباب .... أن تأتي ثانية ومعك الأحباب ....