لا يوجد فرق بين الكبشة التي تمسكها أمي والقلم الذي تمسكه نهي محمود، فتلك الكبشة صنعت احلي الأطعمة والأكلات لشعب كان يعيش في شقة صغيرة لقرون من الأزمة مازالت مستمرة، كبشة تقلب في وعاء (حلة الحياة العائلة) تقلب في مهارة بين تكوينات وأمزجة وفكر وحياة الشخصيات: من أب وأم أبناء وأحفاد، هما جزء من عماد هذا الوطن، ليصبح لأكلتها نَفس وروح ومذاق خاص بها وبأبنائها وأحفادها، وبالتالي طعم خاص بنكهة وطنها وجغرافية وتاريخ حياتها. ورقة مليئة بالكراكيب والقلم الذي تمسكه - نهي محمود - يكاد يكون الوجه الآخر لكبشه أمي، له المذاق والطعم واللون الخاص به، شهي ولذيذ ومفيد للعقل والقلب والوجدان، للمرأة والرجل، فمنذ أن وقعت علي ورقة نهي محمود المليئة بالكراكيب اشعر بهذا الإحساس، إحساس البهجة والدفء الأسطوري لثدي أمي، الحنان والعطاء والفرحة والحب، هكذا أخرجتني صاحبه- كراكيب - بكلماتها الناعمة وأنفاسها الغارقة في العطاء والبحث عن الأحباب الذين يحوطونها، ودأبها علي خلق حياة واقعية مليئة بالأحلام والبهجة والابتسامة، أن (طعم) قلم نهي محمود - مختلف عن كل - الأقلام السابقة، ومتفرد، ولم أذقه من قبل، لا في كتابات بنات هذا الجيل أو السابقين عليها، بالإضافة لعدم وقوعي في تلك الأكلات الكتابية من الخارج أيضا، ذلك لان نهي محمود لم تقع في موضوعات مكررة استهلكها الأدب النسائي المصري أو العالمي منذ نعومة أظفاره، أو أن تكون كتابتها مواجهة للمجتمع الذكوري الذي تعيش فيه. كما لم تقع في ذلك الخندق الكئيب عن المرأة المطلقة أو الحبيبة المهجورة أو الآملة وأبنائها أو العنوسة ومشاكلها، لم تكن نهي محمود تريد هذا من قلمها، ولن تستطيع أن تصنع هذه الكتابة الشهية، فهي تعي تجربتها وتعي انها ابنة مدينة، لذا جاءت كراكيب غرفتها علي اتساع جغرافية وجدران الوطن، وفي دفء أنفاس منامتها ومخدتها وفراشها الذي يحتضن أرض الوطن أيضاً، لذا سوف تتلمس غرفتها في منطقة وسط البلد بكل طقوسها وروائحها وأرصفتها وبائعيها ومتسوليها وصباحها الباكر الذي لن تراه إلا فيها، ثم تتسع ليصبح للغرفة باب في أسوان وشرفة علي بحر الإسكندرية، وتضيق الغرفة وتملأ العالم ليصبح قلبها فقط (ذلك الذي يدق علي بابه الحبيب الآن، كي يقلب غرفتها وحياتها وكلماتها علي مسطح أوراق بيضاء تمتلئ بالحكايات المغذية للوجدان المصري) وتجعلنا ونهي نتجول داخل كراكيبها وتخبطنا في أقدامنا وعقولنا وقلوبنا، إلا إنها كراكيب ذاتية لوطن وليس لشخص أو فتاة وحيدة. كتابات البنت المصرية الذي يستطيع أن يعي ذلك في الإطار التاريخي والجغرافي لكتابة نهي محمود، سوف يعلم انها تعبر عن كتابات البنت المصرية العربية، وليس القهر والضعف ونكران الجميل، ولم تقع في الفخ أو المصيدة، وأجمل ما في كتابها وكراكيبها انها تعطيك كل مرة وجهة نظر مختلفة، فنهي مثلها مثل «زهر الطاولة» لها ستة وجوه وستة أرقام، كل رقم ووجه يعبر عن حالة لها، يقدم لك النجاح كما يسحبك لهاوية الفشل والتعري، ف «اليك» هو الأنا أي نهي محمود ذاتها، و«الدو» هو الأنا الآخر لنهي، تلك النفس التي تحاسبها وتعذبها أو النفس اللوامة، ثم «السيه» وهو الوجه الخارجي للمجتمع والذي يري نهي من عائلة وأصدقاء وأشخاص يمرون حولها في العمل أو الحياة، والوجه الرابع «الجهار» أي الأم رمز الحنان والعطاء والأمل والتي فقدتها وتعيش روحها فيها ومعها، و«البيش» هو الأب ذلك الرجل الذي تحبه نهي وتبحث عن حبيب يشبهه ليصبح في النهاية الوجه السادس «الشيش» هو وجه الأمة / الفتاة / المصرية بأفرادها وطعمها وعرقها وكفاحها وثورتها وغبائها وتمردها. هكذا تدلنا نهي محمود وخلال 38 حكاية بروحها التي تنطلق دون شوشرة في كلمات جوفاء وإنشائية، ودون أن تسمع لها حسا، أحيانا تتسحب وتحكي لك الحكاية وهي واقفة علي أطراف أصابعها تتلمس البرد وتنتظر قرص الشمس في شتاء بارد قارص، وأحيانا تسحبك معها أسفل اللحاف وهي تريد أن تحتضنك وتمتلكك كالجنية وتسحبك لعوالم وأغوار هي تفرحها وتبهجها، وأحيانا أخري تغلق الغرفة / وتعود منكسرة، قلبها في يدها واليد الأخري بها السهم الذي يقطر دما، قطرات دم ابيض شفاف مثل ابتسامتها، لا خجل من الكتابة، ولا خجل من تجربتها الإبداعية، تحكي، لكنها تفهم الفرق بين الثرثرة والحكاية، وبين صخب الأطفال والأمنيات، فهي تحكي فقط، ومجموعتها لا تطرح أسئلة، بل الأسئلة تقف وتتجول بين السطور وعلي حواف أوراقها، أسئلة لماذا جاءت لهذا العالم، ولماذا أكون بهذا الشكل، ولماذا يرحل من أحب، وأين حبيبي الذي يعتصرني؟ وأين ابنتي أو ابني الذي تحلم أحشائي به وتتمني أن يتجول بداخلها؟ ذلك الطفل الذي تمنته لها أمها وخالتها أن يراه قبل رحيلهما عن حياة نهي، هذا هو الأمل من كتابتها، ترضع هذا الطفل من قلمها المعجون بالأكلات والوصفات والمشهيات. لقد دغدغتي نهي بحكايتها وكراكيبها، وقلبت أفكاري وحياتي وجعلتني انظر للحياة من وجهة نظر جديدة علي، وجهة نظر للبحث عن الحب، وعن النجاح، وعن الاستقرار، وعن الغد وترك الماضي، وان يرحل الحزن القديم عني، وعن أيامي الطويلة الوحيدة. نهر متدفق أن نهي هنا وكتاباتها مثل النهر المتدفق الذي لا يشعرك بالبخل، بل متدفق لا يعوقه سد أو جبل أو جهامة أو فشل، وأني اعتقد أن ما تحتويه أوراق نهي وكراكيبها هي - ثلث - ما تكتبه فقط لان الباقي تحكيه وسط أهلها وهم يأكلون وهم يشاهدون التليفزيون أو وهم يجلسون علي سلالم العمارة التي يسكنون فيها، بينما الحكايات الاخري مع الأصدقاء، ونحن هنا نلمس كيف تكون الحكاية أدبا، وأدبا عظيما وشفافا وحارا وساخنا ومتوهجا، يصل بك إلي أعلي السماوات، فلا يوجد فرق بين أمريكا ومصر في هذا، ثم يدثرك في ليالي الشتاء الطويلة، برائحة منامتها، تلك الرائحة التي تملأ الأنف، فلا تستطيع إلا أن تتذكر جدتك وهي تهدهد فيك بحكاية كي تنام، أو يد أمك وهي تسحبك للمدرسة، أو أول قبلة لحبيبتك خلسة، أو نظرتك المندهشة وأنت تستقبل أول أطفالك، نهي التي تدخلك تحت سريرها لتجد مولد السيدة زينب والحسين، وتصلي معك الفجر في السيدة نفيسة وتستقبل شمس البكور فوق جامع المعز وعلي وجهها نمش كحزمة ورد في يد حبيبين. نهي تعي اللغة العالمية للحكاية وللأدب، وهي بذلك تخترق آفاقا وطريقا ممهدا لها وأمام أعينها، لا تحفر بقلمها علي الورق فيصبح خندقا لا يراه احد غيرها، بل إنها تطير وتتجول وتأكل معك وتبكي في حضنك ثم تترك كل ذلك لتذهب في بداية العام لقبر أمها، فلا تجدها، ان قبر الأم داخل قلبها، فالأم لم ترحل كما تحكي نهي بل انتقلت روحها وأفكارها واكلاتها ومزاجها وعطفها لنهي، وعندما فاض ذلك الحب عن جدران القلب / القبب / بدأت نهي تحكي لنا عن تجربتها وعوالمها وغرفتها ولعبها وكتبها وعائلتها وحياتها الخاصة وأحلامها الكبيرة والصغيرة والمستحيلة، تحكي لنا حكايات ملعونة وشفافة وذاتية، حكايات البهجة والشبع والامتلاء والتمني. لقد فعلتها نهي محمود وتخطت كل الكتابات والكاتبات السابقات، لتصبح شاطرة وماهرة ومعلمة في طبيخ الكتابة (لكنها ليست أفضل من أمي في طبيخ الحياة ) وليس هذا تقليلا أو تقصيرا من نهي، لكنه العمر الزمني الذي تحتاج فيه أن تصقل طبختها، ان نهي تقرأ كثيراً وتشخبط علي الحواف والأرصفة والجدران والوجوه والشوارع والندوات، شخبطة تحتاجها كي تكمل بها رؤيتها وروايتها للحياة، وتطرح الأسئلة وتعيش الكتابة كما تعيش لحظات الحياة بالنسبة لفتاة في مقتبل العمر، نعم لها أحلامها الخاصة ( الزوج / الحبيب / الطفلة القادمة / شكلها عندما تصبح في الستين / الأرق والاستعداد والخوف من الغد ) إنها الأسئلة التي يحيا عليها الإنسان، لكنها مستعدة لكل ذلك، لان الموهبة تساعدها علي تخطي العقبات في طرح الأفكار والأسئلة والوصول إلي الإجابات، وهذا ليس انحلالا أو تجروءا أن تطرح ما تحس به دون إخلال بتوازن الحكي والمساحة المطلوبة من الكلمات. إن نهي محمود تعلم أن طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها، ولا في فم آكلها، وإنما في اجتماع الاثنين، لذا فإن هذا يجعل طبيخ الكتابة لديها إما أن تلقيه في وجه من يقدمه لك، أو تقبل يديه، وأنا - لأني صعيدي وأعتبر نفسي من أهل الشهامة- أحب أن اقبل الأيدي التي تمدني بالطبق والرغيف الحامي والكتابة الشهية والسطور المليئة بالفلفل الأسود والبقدونس والحبهان والكزبرة، ونهي فعلت هذا منذ بدايتها وأول كتبها، ليكون حصولها علي جائزة دبي الثقافية لهذا العام تأكيداً أن طبيخ الكتابة الذي تصنعه وتمارسه نهي أصبح شهيا لدرجة أن يشعر معها اللاكل أو القاري بالامتلاء والحب والسعادة والفرحة. الهامش متنا وفي الختام لا استطيع ألا أن أقول لنهي، اشتعلي في الحنين الجارف، لذكريات وأمنيات كنا نعتقد انها لا تصلح إلا للهوامش، الا أن الهامش والكراكيب تصبح متنا وتصبح أساسا وأعمدة للرواية وللسيرة التي تحكيها نهي، لتصبح لها طريقتها الواضحة والخاصة، وليس سهلاً أن تكون هذه البداية، فعندما نجمع أعمالها رغم قلتها - وهذا ليس عيباً بل إنها تسير في طريقها - سوف نجد إنها ستصبح رأس حربة للكاتبات العربيات في الخارج وبعد سنوات قليلة سنجد أن اسم نهي محمود به الكثير من طرق الكتابة العربية، طريقة متفردة ومميزة وصاحبة نكهة وطعم وحياة خاصة بنهي، طرق كتابة ملعونة وواضحة ولا تراها بل يجب أن تحسها وأنت تقرأ، وتشعر معها بالشبع بعد أن تغلق احد كتبها، شبع يملؤك بالأمل والسعادة، شبع شهي ولذيذ ودافئ، شبع قديم يحتاج له القلب، شبع نظل نبحث عنه طوال حياتنا، مثل شبعنا وامتلائنا من لبن الأم.