هو واحد من أبرز ابناء جيله إسهاما في الحياة العامة، لم يتخذ من أبحاثه ودراساته بعدا نظريا فقط، بل أقترب من االجماهير والرؤساء، محللا لغتهم وخطاباتهم، فجاءت دراساته تشريحا للغة، التي هي كيان أي مجتمع، من هنا لفت نظري بحث له بعنوان »بلاغة الميادين.. التجليات الجمالية للثورة المصرية«، فكان هذا البحث مدخلي للحوار مع د. عماد عبد اللطيف، المدرس بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة. لغة تهميشية هل بالفعل لغة النظام، هي التي تحدد عمره.. بمعني أن أحد الدوافع الرئيسية للثورات، هو إحساس المواطن بعجز اللغة عن التلبية لاحتياجاته؟ - من وجهة نظري، لا يثور الإنسان بسبب امتهان كرامته أو العبث بقوت يومه فحسب؛ لكنه قد يثور - في الحين نفسه - لامتهان اللغة والعبث بمعانيها. إذ غالبًا ما تكون الثورة مؤشرًا علي أن النظام البائد قد وصل إلي أقصي حدود العبث بالكلمات. هذا العبث يتجلي - أولاً- في وجود فجوات كبيرة بين ما تقوله اللغة وما يوجد علي أرض الواقع، حين تستغل السلطة القائمة الكلمات المعسولة في التغني بمنجزاتٍ وأعمالٍ ومواقفَ وصفاتٍ لا تتحقق إلا علي صفحات الورق أو في رنين الألفاظ، في حين يعكس الواقع نقيضها علي الدوام. ولعل المصريين الذين شُنِّفت آذانهم علي مدار العقود الأخيرة بتغني الأنظمة الحاكمة بالديمقراطية الزاهرة، والرخاء العميم، والعدالة الاجتماعية الناجزة، والانحياز للضعفاء والفقراء، قد اختزنوا طاقة مدهشة من الغضب علي هذا العبث بالكلمات، وهم يتطلعون حولهم فلا يرون إلا حكمًا متسلطًا وفقرًا عميمًا، وهرسًا للمطحونين، وفجوة خرافية بين مَنْ يملكون كل شيء ومَنْ لا يملكون أي شيء. وهكذا يتنامي شعور الغضب من تلك اللغة المزيِّفة المزيَّفة، وتتنامي الرغبة في تمزيق الأقنعة البلاغية، ليتبدَّي بجلاء بشاعة ما تخفيه. يتجلي العبث باللغة - ثانيًا- في استخدامها أداةً لما يمكن تسميته بالبطش اللغوي؛ وأقصد به أن تتشبع اللغة بالاستبداد، ولا تعرف غير الأوامر والنواهي، تنثر الوعيد وتنجز العدوان، ولا تتيح فضاءً للحوار أو أفقًا للتنوع والتعدد. كما يتجلي البطش اللغوي في فرض أعراف صارمة علي التواصل بين الحاكم والمحكوم، من خلال تأسيس علاقة سلطوية تراتبية، تُلزِم المخاطَب (المواطنين/الشعب) بالإنصات التام، والسمع والطاعة، وإنتاج كل أشكال التأييد والاستحسان. وتعاقب أشد العقاب منْ يُظهرون عدم الاكتراث أو يغامرون بإظهار استجابات استهجانية أو رافضة أو يجرؤون علي مقاطعة الكلام أو انتقاده. ولعل التجلي الأبرز لهذا النوع من العبث باللغة نجده في البث الحي للخطب الرئاسية المصرية التي تحولت في العقود الأخيرة إلي مهرجانات للتصفيق والهتاف من جمهور يُختار سلفًا بعناية شديدة ليقوم بالدور المُعد له. في حين يُفرَض علي كل مخالفٍ أو معارِض إما التأييد قهرًا، أو الصمت خوفًا. يتجلي العبث باللغة - ثالثًا- في جعلها ساحة لادعاء السلطة بامتلاك اليقين التام والحقيقة المطلقة، بواسطة استخدام أدوات التوكيد جميعًا. فما تقوله السلطة هو »الحق والحقيقة«، و»الصدق المنزه عن الغرض«، و»الواقع الذي يتبدي للعين المدققة«، أما ما يقوله »الآخرون«، فهو »الباطل الزائف« و»الكذب الفج«، و»ما لا أساس له من الصحة«. إن السلطة التي تُضفي علي لغتها سمت المقدَّس، وتحتكر الحقيقة المطلقة، لا تُبقي للمخالفين سوي أن يكونوا أصوات الشياطين. وهكذا ينفتح الطريق أمام التجلي الرابع للعبث باللغة؛ أي تسخيرها أداة للإقصاء والتمييز. إن الأنظمة المستبدة تستخدم لغة تهميشية لا تعترف بالآخر؛ إلا إنْ كان ذليلا، ولا تشاركه في أفعالها؛ إلا إنْ كان تابعًا. أما هؤلاء الذين لا يرضون ذلا ولا تبعية؛ فإنها تجهِّلهم وتخفيهم من خلال استغلال تراكيب المبني للمجهول، أو تشوههم بواسطة أساليب التعريض والكناية والسخرية. أليس من المدهش والمفجع أن الرئيس المخلوع اعتاد في خطبه - علي مدار ثلاثين عامًا- أن لا يذكر آراء معارضيه إلا علي سبيل الانتقاد المستتر، دون أن يحدد مصدر الرأي، أو يسمِّي قائله؟ هذا التهميش علي مستوي الخطاب كان يوازيه دومًا تهميش علي مستوي الممارسة السياسية . ولعل حالة التعالي والإقصاء التي كان نظام مبارك يمارسها علي المعارضة الحقيقية أبرز دليل علي ذلك. وقد كان تعبير »خليهم يتسلوا« الشهير - الذي قاله الرئيس المخلوع بنبرة ساخرة في إحدي خطبه قبيل الثورة تعليقًا علي عزم المعارضة المصرية تأسيس برلمان مواز للبرلمان الرسمي المزوَّر - يتردد صداه في أرجاء مصر قبيل الثورة وأثناءها بوصفه علامة دالة علي نظام بلغ الحد الأقصي في تهميش المعارضين. الصراع بين خطابات عديدة أفهم من ذلك أن الثورة المصرية امتلكت خطابا واحدا؟ - بداية لابد من التوضيح أن الثورة كانت علي العبث بالكلمات، ثورة علي بلاغة تضليلية مستبدة مراوغة، لصالح تأسيس بلاغة صادقة تحررية مباشرة. لكن الصراع لم يكن من السهل حسمه، فقد كان فضاء المجتمع المصري مسرحًا للصراع بين خطابات عديدة كل منها يسعي لترسيخ بلاغته والدفاع عنها. كانت الثورة المصرية عامرة بخطابات تنوعت بتنوع الفاعلين السياسيين المشاركين في أحداث الثورة؛ تأييدًا أو مقاومة أو تعليقًا، وتعقدت بتعقد الوظائف بالغة التنوع والتضارب التي سعي كل منتج للخطاب إلي تحقيقها بواسطة خطابه. تُظهر نظرة سريعة علي ساحة الثورة المصرية أن هذه الساحة كانت مسكونة بخطاب الثوار أنفسهم؛ الذي تجلي عبر آلاف الهتافات، والشعارات، واللافتات، والأيقونات، والأغاني، والخطب، والكلمات التي أنتجها الثوار في ميادين مصر الفسيحة، وفي رحابة الفيس بوك وفضاءات التواصل الاجتماعي الإلكتروني. هذا الخطاب كان يواجه خطاب السلطة المناهض للثورة، الذي تجلي في خطب أركان نظام مبارك وتصريحاتهم وبياناتهم وحواراتهم. في المنتصف بينهما نستطيع أن نلمح خطابًا ثالثًا هو خطاب الجيش المصري؛ الذي تجلي بخاصة في بياناته التاريخية وفي بعض الأيقونات البصرية والحوارات النادرة مع بعض وسائل الإعلام. وعلي أطراف ساحة الثورة المصرية ومنافذها أُنتج خطاب خارجي تراوح هو الآخر بين تأييد الثورة أو مقاومتها، وتجلي بوضوح في بيانات، وتصريحات، وحوارات الإدارة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، ودول مثل تركيا وإيران، وشخصيات مستقلة بارزة وبعض الدول العربية. هذه الخطابات تم ترويجها وتوزيعها عبر كمٍّ كبير من وسائط الاتصال، لم يتسن لأية ثورة أخري. فربما للمرة الأولي في تاريخ البشرية يكون للقنوات التليفزيونية الرسمية والخاصة، والإذاعات المحلية والدولية، والمواقع الإلكترونية الشخصية والعامة، والصحف الورقية المطبوعة والإلكترونية، هذا الدور الكبير في تحديد مسار ثورة ما. لقد كانت الثورة المصرية ثورة وسائط اتصال إلي حد كبير. وقد أوجد هذا سببًا إضافيًا لتعقد أشكال الصراع بين البلاغة البائدة والبلاغة الوليدة، كما أتاح لخطاباتها السياسية فرص التداخل مع خطابات أخري دينية، واقتصادية، واجتماعية، وعلمية. كما أتاح لها تجليات فنية بالغة الثراء؛ تمثلت علي نحو جلي في أغاني الثورة، وأشعارها، ولوحاتها، ومسرحياتها، وقصصها، ومذكراتها ورواياتها، ونكاتها. البلاغة الوليدة إذن هل نجحت الثورة المصرية بفضل خطابها التنويري، خاصة في أيامها الأولي؟ - استهدفت البلاغة الوليدة تثوير الخطاب بموازاة عملية تثوير المجتمع. وقد حققت ذلك عبر عمليات تفنيد ونقد مكثفة لخطاب السلطة القائمة. تضمنت هذه العمليات كشف تناقضات خطاب السلطة وتحيزاته، والسخرية من مغالطاته، وتعرية عمليات التلاعب والتضليل التي يقوم بها، وإبراز المصالح الحقيقية التي يسعي لتحقيقها، وإزالة أقنعة التمويه التي تخفي هذه المصالح وتجمِّلها. وفي المقابل قامت البلاغة الوليدة ببلورة خطاب ثوري، يتضمن مجموعة القيم والمبادئ التي يؤمن بها الثوار، والأفكار والآراء التي يتبنونها ويدافعون عنها، والمصالح والأغراض التي يستهدفون تحقيقها، وشبكة التحالفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يحاولون أن يؤسسوها، وصورة الماضي الذي يثورون عليه، وملامح المستقبل الذي يبشرون به. لأن البلاغة تمارس تأثيرها في الآن واللحظة، فإنها سياقية بامتياز. والبلاغة الوليدة يسهل عليها عادة التكيف مع السياقات الجديدة، وتطويع أدواتها واستراتيجياتها بما يخدم تحقيق الغايات التي تحلم بإنجازها. فالبلاغات الوليدة - خاصة الثورية منها- تتسم في بدايات تكونها بالمرونة الشديدة التي تقترب إلي حد السيولة. وهو ما يرجع إلي أنها لا تكون مشدودة إلي ذخيرة خطابية بعينها تمارس تأثيرًا عليها. بمعني أنها غير متأثرة علي نحو جذري بتراث معين من النصوص والخطابات. كما أن المشاركين في تأسيس مثل هذه البلاغة يتعددون ويتنوعون وتتفاوت تفضيلاتهم الخطابية، بما يعني أن أفق التنوع والتباين يكون مفتوحًا علي مصراعيه. وأخيرا، فإن حالة الثورة تعني في جوهرها سلسلة متواصلة من التحولات العنيفة يتجاوز مداها مفردات الواقع إلي مفردات البلاغة. ربما تقدم فكرة سيولة الخطاب أثناء الثورات تفسيرًا للتحولات التي طرأت علي خطاب الثورة المصرية وبلاغتها. فقد بدأ خطابًا أقرب إلي الإصلاح الاجتماعي، ينادي بالعدالة الاجتماعية والحرية السياسية والكفاية الاقتصادية، ويستخدم بلاغة شبه تقريرية تقدم الحاجات دون تطرق للوسائل، كما يتجلي علي نحو رائع في الهتاف الأبرز للأيام الأولي من الثورة (عيش، حرية، عدالة اجتماعية)، الذي ساد الفترة من الخامس والعشرين حتي السابع والعشرين من يناير. لقد تحولت البلاغة التقريرية إلي بلاغة إنشائية تتضمن أوامر ونواهي قاطعة، حين تحولت عن خطاب يرضي بالإصلاح إلي خطاب ثوري لا يرضي بغير التغيير الجذري، إثر معارك الجمعة الدامية في 28 يناير. وربما كان فعل (ارحل) هو أيقونة تلك المرحلة، وهو فعل ينطوي علي خطاب مباشر للحاكم، ويجعل غايته الجديدة (الرحيل)، وسيلته لتحقيق غاياته الأولي المتضمَّنة في هتاف (عيش، حرية، عدالة اجتماعية). ثم كانت معركة الجمل، وما تلاها من تحول شرائح ضخمة من المصريين من معسكر المحايدين إلي معسكر المتعاطفين والمشاركين في الثورة، وبدا أن الثورة سوف تؤتي أكلها قريبًا، فأصبح الخطاب أكثر تنوعًا وأقل صرامة، فهيمنت بلاغة السخرية والمفارقة والتنكيت، وأثْرَت البلاغة بالتنويعات الجمالية للمطالب الأساسية. وفي الأيام الأخيرة كان الخطاب قد تحول إلي ساحة للاحتفال بالنصر الوشيك، مما استدعي هيمنة بلاغة احتفالية علي ساحة الميدان. الجرافيتي بجوار اللغة ما الأدوات الأخري التي وظفتها الثورة المصرية؟ - لقد وظَّف خطاب الثورة المصرية حزمة كبيرة من الأنساق العلاماتية مثل اللغة، والصوت، واللون، والصورة. وتعددت الأنواع الأدبية والفنية التي عبَّرت الثورة من خلالها عن رسالتها، وذلك في شكل أغاني، وحكايات، وخطب، وشعارات، وحكم، وأمثال، وقصائد، ورسوم علي الوجه أو الجسد، وحلقات تثقيف فكري، ومسرح للشارع. وكانت الصور دومًا إحدي أبرز أدوات التأثير، لاسيما أنها تفتح الباب أمام عقل من يشاهدها لإنتاج ترابطات المعاني الخاصة دون تقييد. وقد أفاد مبدعو الثورة من تقنيات التصوير في رسم صور مختلفة للشخصيات السياسية التي يرغبون في التخلص منها، فقد رسمت صورًا للرئيس تجعله قريب الشبه بهتلر أو بحاخامات اليهود، أو الصورة المتخيلة لإبليس، ويقوم الكلام المكتوب أسفل الصورة - عادة- بتحديد وجه الشبه بين الصورة والأصل، أو يُترَك دون تحديد ليؤوله المتلقي بحرية. وقد وظَّف شباب الثورة تقنيات معالجة الصور، من أجل خلق صور إبداعية تتضمن ترابطات فكرية ونفسية بالغة الإثراء الدلالي. وكانت الرسوم الجدارية من بين أهم هذه الأنواع الفنية التصاقًا بالثورة. الجرافيتي هو نوع من أنواع الرسوم الجدارية علي حوائط مباني عامة (وخاصة أحيانًا)، باستخدام أدوات رسم مثل بخاخ الدهان أو قلم البوية. وعلي الرغم من أن هذا النوع من الرسم علي الجدران العامة قديم قدم الجداريات الفرعونية، فإن انتشاره وشيوعه في المجتمع المصري يرتبط - إلي حد كبير- بأحداث ثورة 25 يناير. ثم تزايد تأثيره والاهتمام الذي حظي به أثناء الفترة الانتقالية، حين تحولت حوائط المباني العامة والخاصة في محيط ميدان التحرير والجامعات إلي ما يشبه المعرض الفني المفتوح لإبداعات الجرافيتي الثورية. يمكن أن نميز بين نوعين من أنواع خطاب الرسوم الجدارية (الجرافيتي). النوع الأول هو خطاب راديكالي عنيف يتضمن عبارات انتقاد وتحد صارخ للسلطة القائمة؛ سواء أكانت ممثلة في نظام مبارك أم المجلس العسكري أم تجلياتهما. وقد تحولت الجدران لتكون الفضاء الأكثر رحابة للخطابات العنيفة والمتهجمة، التي تصل في بعض الأحيان إلي حد البذاءة. وبذلك أصبحت الجدران إحدي أكثر الوسائط التواصلية جاذبية للشباب إلي حد الشغف، لأنها تتيح أقصي حرية للتعبير، وتحولت الرسوم والنقوش الجدارية إلي الصوت الأكثر جرأة للثوار، والنوع الأكثر آنية وتثويرًا من بين أنواع الخطاب الثوري. النوع الثاني هو خطاب ملحمي يصوغ التاريخ الوطني في شكل صور تصنع ملحمة متصلة الحلقات، لتكون الثورة هي ذروتها المبهجة. وكانت الرسوم العملاقة علي جدران مباني بعض الجامعات (خاصة الجامعة الأمريكية بالتحرير وكلية الفنون الجميلة بالزمالك) وأسوار النوادي الرياضية حوائط الكباري العلوية، وجدران المترو، وأسوار السكك الحديدية جزءًا من هذه الجداريات الملحمية. لقد دخل رسامو الجداريات في حالة كر وفر دائمة مع السلطة القائمة. وأصبحت لعبة الرسم والمحو هي لعبة المطاردة الأثيرة بين السلطة وبعض شباب الثورة. وقد أنتج هذا بعض الظواهر المدهشة، منها ظاهرة الرسم فوق الرسم، فقد كان رجال السلطة يقومون بإعادة دهان الجدران التي رسم الثوار عليها رسومهم، بهدف إخفاء معالم هذه الرسوم، لكن الجرافيتيين - رسامي الجرافيتي- سرعان ما كانوا يرسمون رسومًا جديدة فوق الرسوم القديمة، فتعيد السلطة دهان الحوائط من جديد، فيرد الجرافيتيون برسومات جديدة فوق دهانات السلطة، تستجيب للظروف الجديدة والتغيرات الحادثة في الخطاب الثوري ذاته. وهكذا تشكلت طبقات متواصلة من الرسوم الجدارية التي يتراكم بعضها فوق بعض، لتصبح الجدران أشبه بطبقات متراكمة من سجلات التاريخ، كل سجل يُخلِّد لحظة تاريخية خاصة في مسار الثورة وتطور خطابها. أما الظاهرة الخطابية الثانية فترتبط بالصراع بين السلطة والمحتجين؛ فقد حاول كلُّ طرف فرض خطابه علي ساحات الحوائط، إما بإزالة ما يكتبه الطرف الآخر، وإعادة الكتابة فوقه، أو - وهذه هي الظاهرة الجديد- بإزالة كلمة أو أكثر من عبارة طويلة، وإضافة كلمة أخري تغير معني العبارة تغييرًا جذريًا. وقد انتشرت هذه الظاهرة في الفترة الانتقالية، في كثير من الجدران العامة. وسأضرب مثالا واحدًا لتقريبها؛ ففي أحد الجدران التي توجد في نهاية طريق المحور الذي يربط مدينة 6 أكتوبر بالقاهرة كُتبت في أواخر إبريل 2011 عبارة للإعلان عن »ثورة غضب أبناء مبارك«. وفي اليوم التالي كان المحتجون علي مبارك - والعبارة - قد وضعوا دهانًا أبيض فوق كلمتي "ثورة غضب"، وأضافوا كلمة اللصوص في آخر العبارة، لتُقرأ "أبناء مبارك اللصوص". وعلي هذا النحو كانت معارك السيطرة علي فضاء الجدران تسير علي قدم وساق طوال الفترة الانتقالية. هل توافقني علي أن »الجرافيتي« وثق للثورة، وللفترة الانتقالية، ولا يزال يوثق حتي هذه اللحظة؟ - نعم وبكل تأكيد، فقد احتفت كثير من جرافيتات الثورة بالرسوم الكاريكاتورية لرموز السلطة، وبورتريهات الشهداء. ونال الرئيس السابق حسني مبارك، ورئيس المجلس العسكري السابق المشير طنطاوي النصيب الأكبر من هذه الرسوم، في حين حظي شهداء الثورة في يناير وفبراير ونوفمبر 2011، وشهداء ماسبيرو وشهداء ألتراس الأهلي في مباراة بورسعيد، بالنصيب الأكبر من بورتريهات الشهداء. وتحولت بعض الجدران إلي ما يشبه النصب التذكاري للشهداء، ممن تتغير وجوههم مع كل حدث دموي جديد؛ خاصة جدران شارع محمد محمود، الذي كان نفسه مسرحًا لعمليات وحشية ضد المتظاهرين. وأصبحت الحوائط لسان الثورة، وبقدر ما كان اللسان سليطًا في بعض الأحيان، كان نبيلا وشجاعًا في أكثرها. لغة السياسة تتصدر المشهد هل استمرت ما يمكن أن نطلق عليه بلغة الثورة ؟ - في الحقيقة، لم يدم ربيع بلاغة الثورة كثيرًا، إذ سرعان ما استعادت لغة السياسة بمراوغاتها وحيلها زمام الخطاب العام. وأصبحت الأهداف النبيلة للثورة علي المحك بفعل انتهاكات الخطاب. هل ما أطلق عليه بمشروع النهضة يدخل ضمن ما أطلقت عليه باستعادة لغة السياسة؟ - هناك نوعان من خطابات النهضة عرفهما العالم العربي في عصره الحديث. الأول خطاب فكري، تأسس علي أرضية وسيعة من الكتابات والمشاريع الفكرية والبحثية ترجع إلي ما يقرب من قرن ونصف من الزمان. وهو خطاب ما تزال رموزه حاضرة في الخلفية المعرفية للإنسان العربي، مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وطه حسين والقائمة طويلة. النوع الثاني من خطابات النهضة هو خطاب سياسي، إما تُنتجه قوة سياسية تمسك بالفعل بمقاليد السلطة، وتسعي لخلق وعي شعبي بالنهضة، يوازي ممارستها الفعلية لإنجاز نمط خاص منها؛ كما في تجربة جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي، أو تنتجه قوي سياسية في إطار سعيها للوصول إلي السلطة، طائرة علي بساط خطاب النهضة، كما هو حال بعض القوي التي وصلت إلي السلطة بفضل الربيع العربي. وفي مثل هذه الحالة فإن خطاب النهضة يتحول إلي جزء من الدعاية الانتخابية؛ سواء علي المستوي النيابي أو الرئاسي. والحالة الأخيرة هي ما سوف نتوقف عنده بالتفصيل، لأنها تمثل الوضع الراهن في معظم المجتمعات العربية. من الضروري التأكيد علي أن وجود مشاريع للنهضة علي أجندة المتنافسين الانتخابيين هو أمر إيجابي في حد ذاته. فقد عانت المجتمعات العربية طويلاً من سيطرة دعايات انتخابية طائفية أو عصبية علي هذا الخطاب الموسمي. ومن ثمَّ، فإن حفز الناس علي انتخاب شخص أو قائمة ما؛ بواسطة إقناعه بأهمية المشروع النهضوي الذي يسعي لتحقيقه، هو في حد ذاته تطور مؤثر. لكن هذا التطور تعصف بإيجابيته بعض الممارسات اللصيقة بالدعاية الانتخابية، وبالمفهوم الشائع للناس عنها. عادة ما تتضمن الدعاية الانتخابية سلسلة من الوعود المستقبلية التي يأخذ المرشح علي عاتقه تنفيذها أو إنجازها حال وصوله إلي كرسي السلطة. ولأن التنافسية الانتخابية غالبًا ما تكون شديدة ومشتعلة فإن المرشحين يفرطون في منح الوعود، علي أمل أن الناخبين سرعان ما ينسون. ويفسر هذا سمة المبالغة السائدة في خطاب الانتخابات السياسية في العالم العربي. فعادة ما يُسرف المرشحون في سكب الوعود المعسولة في آذان ناخبيهم، حتي يحظوا بأصواتهم الانتخابية. والنتيجة التي تترتب علي ذلك هي أن مشاريع النهضة في خطاب الدعاية الانتخابية سرعان ما تتحول إلي مشاريع وهمية، تحلق في الهواء، دون أي رابط يشدها إلي الواقع. ويؤدي تكرار انكشاف هذا التلاعب إلي أن يفقد المواطن العادي الثقة في خطاب النهضة، وفي قدرته علي تحقيقها، وإلي أن يتعامل مع هذه الخطاب علي أنه حلقة من حلقات مسلسل الزيف السياسي. مأزق مشروع النهضة إذن تري أن ما أطلق عليه بمشروع النهضة يواجه علي أرض الواقع مأزق شتي؟ - لقد عرف العالم القديم - والحديث أيضًا- عادة ربط مشاريع النهضة الوطنية بشخص بعينه؛ غالبًا ما يكون هو نفسه الحاكم الممسك بمقاليد السلطة؛ هكذا نتحدث عن مشروع محمد علي لنهضة مصر، وعن المشروع الناصري للنهضة العربية. وعلي الرغم من أن أحد الدروس المهمة من تاريخ مشاريع النهضة الوطنية هو أن هذه المشاريع تبوء غالبًا بالفشل إذا تمحورت حول شخص بعينه، فإن الأنظمة الحاكمة في الوقت الراهن تُعيد إنتاج نفس النسخة الفردية من النهضة التي تربطها بشخص أو فئة أو جماعة، ربطًا حصريًا. إحدي النتائج المترتبة علي هذا الارتباط القسري بين مشروع النهضة وشخص الرئيس أو حزبه أو جماعته، هي الإقصاء غير المباشر لشرائح من المواطنين ممن لا يُدركون أنفسهم بوصفهم جزءًا من شخص الرئيس أو حزبه أو فئته أو جماعته. وهو ما يؤدي إلي ضياع طاقات وجهود وإمكانيات يمكن أن تكون حاسمة في مصير مشروع النهضة. لقد عانت المجتمعات العربية لزمن طويل من شخصنة السلطة، حين كان الحاكم الفرد هو محور كل شيء. وكانت التجليات الخطابية لهذه الشخصنة مفجعة وبائسة في الوقت ذاته. فقد نُسبت أوطان بأكملها، تضم ملايين المواطنين، إلي شخص واحد؛ فأصبحنا نضيف بلادًا بأكملها إلي اسم شخص الحاكم، كما في مصر مبارك، وعراق صدام، وليبيا القذافي. ونجحت قوي الاستعمار الجديدة في تطويع هذا الوضع المقلوب لصالحها، فإذا كان وطن بأكمله يصبح تابعًا لشخص الرئيس، فإن تشويه هذا الوطن، وتأليب العداوات ضده، لا يتطلب أكثر من تشويه شخص الرئيس، ثم التأكيد علي نسبة الوطن بأكمله إليه، كما شرح عالم اللغويات المعرفية جورج لاكوف في تحليله للخطاب السياسي الأمريكي حول العراق في حربيها الدمويتين عليها. إن الربط بين مشاريع النهضة الوطنية وشخصيات سياسية بعينها - خاصة رؤساء الدول- يمثل خطورة حقيقية علي هذه المشاريع. فحين يرتكن مشروع بأكمله إلي شخص واحد يكون عرضة للعطب. فكل اضطراب يعانيه الشخص، علي المستوي السياسي أو الحياتي، سوف يؤثر سلبًا علي المشروع. وإذا كانت المجتمعات العربية في ربيعها السياسي والمجتمعي تحلم بنهضة حقيقية فإن عليها أن لا تقبل أن تكون النهضة مسئولية شخص واحد، أو أن تقبل أن يحتكرها هذا الشخص أو الجماعة أو الفئة التي يمثلها. وعليها دومًا أن تُدرك أن نجاح النهضة مشروط بأن تكون - وتظل- مشروعًا قوميًا متجاوزًا للأفراد والجماعات والفئات. هل يدعم الخطاب السياسي العربي الراهن طموحات النهضة أم يُجهضها؟ - الإجابة عن السؤال السابق، تتطلب توصيفًا دقيقًا لمدي تغلغل التحديات الخطابية للنهضة في نسيج الخطاب العربي العام. ويؤكد مشهد الخطاب السياسي العربي الراهن أن ساحة الخطاب العام تشهد أشكالا عديدة من الصراع والتطاحن، وأنواعًا مختلفة من الممارسات التواصلية الرديئة. وربما لا يكون من المبالغ فيه القول إن الخطاب العام في العالم العربي يعوق تحول طموح النهضة إلي إنجاز ملموس. إن فساد اللغة - كما يؤكد جورج أورويل صاحب النقد الأهم لخطاب الأنظمة المستبدة في العصر الحديث- هو الوجه الآخر لعُملة فساد السياسة. فالخطابات المتصارعة تعكس عادة مصالح فردية أو حزبية متصارعة. لكن أورويل كان يؤمن كذلك بأن البشر يستطيعون التقليل من آثار فساد السياسة بواسطة معالجة بعض أعراض فساد اللغة. فبقدر الحاجة إلي إجراءات عملية لتهدئة الصراعات السياسية بين القوي السياسية المتناحرة، تكون الحاجة إلي إجراءات عاجلة لإصلاح الجانب اللفظي من هذه الصراعات، قد يكون من بين هذه الإجراءات ما يلي: أولا: الوصول إلي توافق بين القوي السياسية بشأن صياغة خطاباتهم السياسية لكي تنحاز إلي قيم التعاون، والتفاهم، والتعايش، والحوار، ولا تندفع في شن حملات التشويه والاغتيال المعنوي المتبادلة. وهكذا تحل الخطابات التضامنية تدريجيًّا محل الحروب الكلامية، وخطابات الكراهية. ولابد أن يتوافق هذا مع مراجعات فكرية هدفها التصالح مع التاريخ، والتعلم منه دون معاداته، والحرص علي ردم فجوة المصداقية، وفصم الترابط بين النهضة والدعاية الانتخابية. ثانيًا: تفعيل منظومة قيم مهنية في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة؛ وفرض عقوبات عرفية علي أي انتهاك لهذه القيم؛ خاصة ترويج الإشاعات والمعلومات المغلوطة وإطلاق الاتهامات المرسلة، وتأليف الحكايات الكاذبة، وفبركة الصور والتسجيلات الصوتية، وجرائم الكلام؛ مثل جرائم الحض علي الكراهية، والتمييز، والعنصرية، والسب، والقذف، التي تُرتكب في الفضاء الإلكتروني بواسطة ملشيات الإنترنت، ومحاسبة من يمولون هذه الملشيات ويرعونها. تحكي إحدي أساطير سِفر التكوين أن أهل الأرض بعد أن نجوا من الطوفان كانوا يتكلمون لغة واحدة، وتشيع بينهم روح التعايش والتعاون، ويجمعهم حلم واحد هو أن يبنوا مدينة عظيمة ويشيِّدوا فيها برجًا تبلغ قمته السماء. وقبل أن يتحقق حلمهم، اختلفت لغاتهم، وتباينت خطاباتهم، فتخاصموا وتصارعوا، وكفُّوا عن بناء المدينة، وتشتتوا بعيدًا عن وجه الأرض كلهم؛ فلم يبق من برجهم أثر، ولا من مدينتهم إلا الركام. لقد كشفت العقود الماضية عن الثمن الباهظ لحروب الخطاب. وإذا كان العرب حريصين علي تجنب مصير أشبه بمصير بابل وأهلها في الأسطورة السابق ذكرها، فإنهم بحاجة ماسة إلي إصلاح الخطاب، لعل تغيير اللغة التي نتكلم بها عن خلافاتنا وصراعاتنا السياسية يكون خطوة مهمة في تغيير منظورنا وتقييمنا لهذه الخلافات والصراعات نفسها. سر التشابه أخيرا كيف تفسر تشابه الشعارات بين الثورات العربية؟ - هناك بالفعل تشابه في بعض الشعارات ، قد يرجع هذا إلي ارتحال الشعارات عبر المكان والزمان. فقد استخدم الثوار التونسيون شعارات مثل: »ارحل«، و»الشعب يريد إسقاط النظام«، ونقلها عنهم المصريون، ثم نقلها عنهم اليمنيون والليبيون والسوريون. لكن التأثير والتأثر بين خطابات الثورات العربية ليس علة في ذاته، وإنما هو مظهر لعلة أعمق؛ وهي وجود تشابهات هيكلية في حالة المجتمعات العربية التي خضعت للثورة أو تلك التي لم تعرف الثورة بعد. فهذه المجتمعات خضعت لأشكال متنوعة من الاستبداد السياسي، استحوذت فيه مؤسسات رئاسية أو ملكية علي سلطات إلهية تقريبًا، وعاشت الشعوب حالة عبودية سياسية، لا يملكون من أمرهم شيئًا؛ في حين لا يُسأل حكامهم عما يفعلون. من الطبيعي إذن أن يكون خطاب مقاومة هذه السلطات المستبدة متقاربًا في مضامينه، بل وفي صياغاته أيضًا.