يصَدَّرالناقد الألماني الشاب فولكِر فايدِرمان مقدمة كتابه (ماكس فريش: حياته وأعماله – طبعة دار راندوم هاوس- ميونيخ 2012) بحكاية شائقة عن بداية ماكس فريش الأدبية، يقول فيها: » شابٌ يجلس منكفئًا علي آلة كاتبة فوق ركبتيْه، ولا يعلم تحديدًا ما سيكتب عنه. لكن عليه الإسراع، فالآلة الكاتبة مُستعارة، ويتحتّم عليه إعادتها إلي صاحبها صباح اليوم التالي. وحتي ذلك الحين ينبغي له إنهاء كتابة قصّة لإحدي الجرائد، ويجب أن تكون القصة طويلة ومحبوكة، فالمكافأة تُحتسب بعدد الكلما+ت، وهو في حاجة إلي المال. فجأة يخطر له عنوان القصة: (سأشنق نفسي). لم يكن الشاب بالطبع سيشنق نفسه، ولم يكن يفكّر في الكتابة عن ذلك. كل ما في الأمر أنه اختار لقصته هذا العنوان لإثارة فضول القُرّاء، وهي في نهاية المطاف قصّة لن تخرج أيضًا عن شاب يجلس منكفئًا علي آلة كاتبة يحاول كتابة قصة لا يعلم عن تفاصيلها شيئًا. محاطًا بمشاعر القنوط، يتخيّل الشاب أنّ مفاتيح الآلة الكاتبة تحدّق فيه مبتسمةً وكأنها تقول: »والآن ماذا؟ ها نحن أمامكَ يا عزيزي، وما عليك الآن إلا النقر علي المفاتيح بالإيقاع الصحيح، وسنمنحكَ أعظم نثرٍ ممكن». حدث ذلك في إحدي ليالي شهر يونيو 1932، وكان ماكس فريش آنذاك في الحادية والعشرين من عمره، لتبدأ بعد هذه الواقعة رحلة حياة طويلة مع الكتابة، ومع البحث عن تجارب تناسب حكاياته.
ولد ماكس فريش في إحدي ضواحي مدينة زيوريخ السويسرية في الخامس عشر من مايو 1911، وكان الابن الثاني للمعماري فرانتس برونو فريش وزوجته كارولينا بتينا فريش. عاشت العائلة في ظروف معيشية بسيطة، ثمّ ساءت حالتها المادية حينما فقد الأب عمله بسبب الحرب العالمية الأولي. وكانت علاقته بأبيه مضطربة، بعكس علاقته القويّة بوالدته. كتب فريش أولي مسرحياته في فترة الدراسة الثانوية بين عامي 1924 و 1930، وحاول تقديم أعماله إلي الجمهور، لكن أخفق في عرضها، فيئس وأحرقها فيما بعد. في المدرسة الثانوية تعرف فريش إلي فيرنر كونينك، الذي كان والده يمتلك دارَ نشر. وقد أفادته تلك الصداقة الممتدّة في إثراء تكوينه الثقافي والمعرفيّ. ما بين عاميّ 1930-1932شرع فريش في دراسة اللغة الألمانية وآدابها، إلا أنّه انقطع عن الدراسة تحت تأثير العوز المادي بعد وفاة والدِه، واتجه لكتابة مقالات لصالح جريدةNeue)ürcher)eitung، وبين عامي 1936 – 1941 درس الهندسة المعمارية في زيوريخ، وأتمّ الدراسة بنجاح. بدأ فريش حياته مهندسًا معماريًا ناجحًا، لكنه ترك الهندسة ليتفرّغ للكتابة المسرحية والروائية. وقد شقّ طريقه معتمدًا علي موهبته ومجهوده الشخصي دونما تأثّر بكتاب المسرح المعاصرين، اللهم إلا برتولد بريشت بطبيعة الحال. تجدر الإشارة إلي أن ماكس فريش قد حظي باستقبال عربي لا بأس به، حيث ترجم له د. مصطفي ماهر مسرحية بيدرمان ومشعلو الحرائق، وترجم له المرحوم د. محمد عبد السلام يوسف مسرحية لوحة من ثلاث صور، والمترجم القدير سمير جريس عمله السيريّ مونتاوك، فضلًا عن ترجمة محمد جديد وشارل شهوان لرواية هومو فابر. من أشهر روايات فريش ثلاثيته الروائية الشهيرة التي تناولت موضوع هويّة الإنسان البرجوازي في القرن العشرين: »شتيللر»، »هومو فابر» و»لنفترض أن اسمي جانتينباين»، وقد أنجز الترجمة العربية للرواية الأخيرة الدكتور أحمد حيدر، وقد صدرت الترجمة عن وزارة الثقافة السورية تحت عنوان (ليكن اسمي جانتينباين). في السطور التالية نلقي الضوء علي روايته »لنفترض أن اسمي جانتينباين»، إحياءً لذكري ميلاد ماكس فريش التي حلّت في الخامس عشر من مايو الماضي. في رواية» لنفترض أنّ اسمي جانتينباين»، الصادرة عن دار نشر زوركامب الألمانية سنة 1964، يستكمل ماكس فريش رحلة الإجابة عن السؤال الذي طالما أرّقه في أعماله الروائية، وربما المسرحية، نقصد سؤال الهوية، أو مَن أنا؟ هبطت فكرة الرواية علي رأس فريش حينما تعرّض لحادث سيارة في أثناء القيادة علي أحد الطرق الثلجية. صحيحٌ أنه نجا من الحادث، لكن السؤال التالي لم يفارق ذهنه: ماذا لو؟ ماذا لو كنت فقدتُ بصري في الحادث؟ يصف السارد نفسه في بداية الرواية: رجل عاش تجربة، والآن يبحث عن قصة لتجربته، لا يستطيع المرء أن يحيا مع تجربة دون قصة، أجرّب قصصي كما أجرّب ملابسي»، فتتحول الرواية إلي عرض أزياء كرنفالي لشخوص وهويات متباينة. تستخدم الرواية أسلوب الراوي الشخصي، الذي يُلقي بخيط السرد إلي شخوصه المُختلقة واحدًا تلو الآخر (تيو جانتينباين، ثم غريمه إنديرلاين، وفي النهاية سفوبودا)، ليمسكَ كل شخص بطرف الخيط، ويسلك مساره كيفما يشاء. ملعبٌ واسع، وكرة السرد تنتقل من لاعبٍ إلي آخر دون خطّة لعب مُسبقة. من ناحية الشكل لا تندرج الرواية تحت إطار الروايات التقليدية حتي يُمكن الحديث عن خيط أساسي يُمكن تسميته محور الرواية، فأحداث الرواية – إن صحّ التعبير- لا تلتزم حبكة واضحة ولا تسلسلًا زمنيًا خطيّاً. الحكاية كلها– كما قال السارد في بداية الرواية-رجل يجرّب حكايات وقصصًا كما يجرّب ملابسه، وقد لا تعجبه قطعة ملابس (حكاية؟)، فيستبدلها علي الفور، حتي دون أن يُكمل ارتداءها. إطار الرواية يدور حول رجل يعيش وحيدًا في شقّة منعزلة بعد انفصاله عن زوجته التي طالما تظاهر بعدم معرفته بخيانتها، وهي ممثلة فاتنة، لا يُعرف عدد معجبيها، فهم كُثرُ، يُلاحِظ الزوج باقات الزهور المتدفقّة إلي المنزل، والمُرسل دائمًا مجهول، فتخبره أنّ مرسلي الزهور معجبون بفنّها، لا أكثر. يجلس السارد إلي مكتبه ليخترع شخصيات متباينة بهدف فهم تجربته في الحياة من زوايا مختلفة. الأولي شخصية »تيو جانتينباين»، الذي يتعرّض لحادث سيارة ويُشتبه في إصابته بالعمي. وحين تُزال الضمادات من فوق عينيه، يكتشف أنّه لا يزال مُبصرًا، لكنه يواصل لعب دور الأعمي، مستخدمًا عكازًا ونظارة سوداء ليداري نفسه عن الناس، ويداري الناس عنه. يقابل بعدها كاميللا هوبر، وهي بائعة هوي محترفة، يتردّد إليها كعاملة »مانيكير»، لكنه لا يُظهر معرفته بحقيقة مهنتها، وبمرور الوقت تكتشف كاميللا أنّ جانتينباين ليس أعمي، فتعده بألا تكشف حقيقته مقابل ألا يكشف لأحدٍ عن طبيعة عملها. تتوالي الأحداث وتتعرّف كاميلا إلي طبيب أسنان يتقرّب إليها طلبًا للزواج. وقبل يومٍ واحد من زفافهما، تُقتَل كاميللا، والفاعل مجهول. تخبرنا الرواية أن جانتينباين قد شهد حادثة القتل، فيُستدعي للمحكمة للإدلاء بشهادته، لكنه لا يقول شيئًا كيلا تنكشف لعبة العمي والبصيرة أمام الناس. يخترع السارد شخصية أخري هي فليكس إندرلين، باحث الأساطير، الذي يتلقي دعوة من جامعة هارفارد، لكنه يعتقد أو يتوّهم - وفقًا لمنطق فريش في الرواية- أنّه يدنو من الموت. يتعرّف إلي سيدة اسمها »ليلا» أيضًا، ثمّ يدخل علي خطّ اللعب الروائي شخص ثالث اسمه »سفوبودا»، الذي نكتشف أنّ زوجته »ليلا» – أيضًا- علي علاقة آثمة بإندرلين (هل »ليلا» هي »ليليث» في الأساطير الشرقية القديمة، تلك المرأة المتمردة المتمسكة بحقها في الحرية والمتعة والمساواة)؟ في روايتنا ليلا هي حواء المُغوية،اللاعبة علي أوتار قلوب الجميع. إذ تهوي قلوب الشخصيات الثلاث عند قدميها. الأرجح أنّ ليلا هي »سالومي» ماكس فريش؛ وهاهم »الثلاثة يحبونها»: جانتينباين وإندرلين وسفوبودا. تظهر »ليلا» مثلها مثل باقي شخوص رواية فريش في هويّات/أثواب مختلفة؛ فهي حينًا مُمثّلة،وحينًا آخر طبيبة، وحينًا ثالثًا كونتيسة، وهي تارة لديها طفل مشكوك في نسبه، وتارّة أخري بدون أطفال. عقد بعض النقاد مقارنة بين علاقة جانتينباين بليلا (الممثّلة)، وبين علاقة ماكس فريش بالكاتبة والشاعرة النمساوية الشهيرة أنجيبورج باخمان، وهي العلاقة التي انتهتْ بالفراق في منتصف الستينيات، ويتأكد هذا الربط بالرجوع إلي حياة ماكس فريش الشخصية، والتي لم يستقر فيها علي علاقة ثابتة، لاسيما بعد انفصاله عن زوجته ومعها أطفالهما الثلاثة. في رواية »جانتينباين» لم يتوقّف ماكس فريش عن القفز السريع المتلاحق بين شخوص روايته، ولم يملّ من تقديم قصص قصيرة جانبية لا علاقة لها »بالثيمة» الأساسية، وكأنّه يقول للقاريء: ليست هناك »ثيمة» في الرواية، أنا سارد لا أملك حكاية محددة أريد قصّها عليكم، كل ما أملكه هو تجارب حياة أبحث لها عن حكايات». في ظني تكمن أصالة هذه الرواية في التلميح الخافت إلي فكرة تفوّق الكتابة علي الحياة، فالكتابة تتيح تجريب مسوّدات أحداث الحياة: رسم خطوط عامة، شطب وتنقيح، إضافة شخصيات وحذف أخري، كتابة مسوّدة أولي وثانية وثالثة إلي ما لا نهاية، بينما الحياة نفسها لا تسمح بهذا اللعب الجميل أبدًا.
نلتمس في السطور التالية شذرات من آراء فريش وتصوراته حول الكتابة وفنّ السرد الروائي: في لقاءٍ تليفزيوني نادر منشور علي قناة يوتيوب، سُئل فريش في أثناء زيارته لروما سنة 1961: لماذا تكتب يا سيد فريش؟ فأجاب: »أكتب لأني أحبّ ذلك، وينبغي لي أن أفعل شيئًا ما في الحياة، أكتب لأني لا أستطيع تحمّل الحياة دون التعبير عن نفسي، لا أنشد من وراء الكتابة الوصول إلي هدفٍ بعينه، كتغيير العالم، أو تلقين الناس دروسًا. الحاجة إلي الكتابة عندي مردّها الرغبة في التواصل الإنساني، فالإنسان يكره أن يعيش وحيدًا». وفي حوارٍ مُطوّل نُشرَ علي صفحات مجلة »باريس ريفيو»سنة 1989، سُئل فريش عما إذا كان يشعر بضرورة إقناع القاريء بأنّ أحداث الرواية قد وقعتْ بالفعل، فأجاب: »كان لديّ اعتقاد في البداية أن من شروط الرواية الجيّدة تصديق القاريء لما يحدث، وإلا كانت رواية رديئة. لكني عدلتُ عن رأيي لاحقًا. كلما كنتَ علي دراية مسبقة بما تكتب، كلما ازداد خطر وقوعك في »الكليشيهات» أو في التحليل الفرويدي، إلخ. إما إن كنت لا تعلم شيئَا عن مسار ما تكتب، متحسّسًا طريقكَ مثل رجل أعمي، فبمجرد ما أن تفرغ، وتلقي نظرةً إلي الوراء، ستري أنك حفرتَ طريقكَ. في روايتي »لنفترض أن اسمي جانتينباين»، انطلقتُ من وجهة نظر مفادها أن كل ما يُقدّم للقارئ هو مجرد افتراض، وليس مهمًا أن تصدّقَ فرضية الكاتب؛الكتابة لعبة احتمالات. لا أومن أن سيرة حياة الإنسان شارعٌ ذو اتجاه واحد، فحياتكَ قد تكون مختلفة قليلًا. ليس علي الأدب إلا طرح الاحتمالات، وتجنب فكرة أن ما حدث هو ما حدث».