شق سكون الليل بصوته الجهوري: - ياصابر يابصلة.. يابصلة.. غدا في الثانية صباحا.. أعادها ثانية ليتأكد من أن صابر قد سمعه لكن لا مجيب، فجسده المنهك من رحلة لم يمض عليها سوي سويعات لم ينعم بالنوم بعد، فصار هو والفراش شيئا واحدا.. يري فيما يري النائم ويسمع كمن يأتيه الصوت من أغوار بئر عميقة ليست لها قرار لكنه لايستطيع أن يرد. الصوت لايزال ينادي: -ياصابر يابصلة.. يا بصلة.. غدا الساعة الثانية صباحا.. استيقظت فاطمة زوجة صابر علي صوت صداح »المصحي« فهزت جسد زوجها الذي صار أشبه بمومياء خلفها التاريخ من زمن بائد وراحت تناديه: صابر المصحي لم يحرك صابر ساكنا.. فالنوم علي تعب كجائع هبط علي وليمة.. هزته ثانية وهي تقول -صابر سيفوتك الميعاد.. مسكين.. تسير المراكب علي ربطتك وأنت لاتجد من يربطك.. هزته هذه المرة هزة قوية قام علي اثرها منتقضا يفرك عينيه وهو يسعل بشدة ويخور كثور مل من دوران الساقية، ثم تثاءب وهو يتساءل بصوت خالطة النوم والإنهاك: -سفرة جديدة؟ أومأت برأسها دون أن ترد وهي تنظر له بإشفاق، حرك رأسه يمنة ويسرة كي يفك عنها اغلال النوم والإنهاك: -وهل انتهينا من سابقتها.. راح صابر ينفض النوم عن عينيه ويسأل زوجته: -ماذا هناك يا فاطمة؟ ألم أقل لك مرارا لا توفظيني بهذه الطريقة.. ردت قائلة: -إنه عم صداح المصحي يناديك اليوم الساعة الثانية صباحا. نظر في ساعته فوجدها قد قاربت الثانية عشرة ولايزال صوت صداح يأتيه من الخارج كمغني يحفظ اغنيته عن ظهر ويصدح بها ويجود فيها وينوع في المقامات وهو سعيد كمن يشدو في دار الأوبرا.. فتح صابر زجاج النافذة وأطل منها وقال له: -خلاص ياصداح.. ستغنيها لي.. تارة سيكا وتارة نهاوند والحال ماشي. قبل ان ينصرف صداح ليوقظ آخر أوقفه صابر قائلا: -ألم أقل لك مرارا اشتر »نوبايل« أفضل لك؟ ضحك صداح وراح يسعل حتي انتفخت أوداجه وقال: -نوبايل حتة واحدة. قل يا باسط.. نهايتي أنا وأنت علي رصيف الميناء في نهاية الخدمة ويزيد الله المحسنين. انطلق صداح مسرعا علي دراجته بسرعة البرق كمن يرتاد صاروخا وهو يؤنس وحشة ليله البهيم بصفيره المتناغم ويدندن بأغنية لعبدالوهاب طالما أحب سماعها منه عمال الكنال اجري اجري اجري.. يحب صداح مهنته ويحب زملاءه في العمل ويعشق دراجته والطريق الذي يمشي عليه حتي القطط الكلاب التي تستقبله وهو خارج الي عمله في الفجر.. شرعت فاطمة علي الفور تعد لزوجها الحقيبة التي تعود ان يستخدمها في اسفاره هذه والتي افرغتها لتوها وهي تقول له: -لم تأخذ قسطك من الراحة ياصابر.. يرد عليها بلهجة استفهامية: -وهل في الحياة راحة يافاطمة أواهمون نحن؟ -لا عليك ياصابر.. هيا لتلحق بالمركب قبل ان تسير.. في رعاية الله. يقبلها وهو يقول بصوت خفيض: -ادع من قلبك ألا تكون المركب هذه المرة روسي.. تضحك وهي تعقب: -حقا فالسفرتان الماضيتان كانتا ناشفتين.. من الروسي الي الهندي ياقلبي لاتحزن. لاتذكريني بالهندي، فيوم الهندي تظل معدتي خاوية تحتج وهي مغلقة علي أنقاضها منذ ان أخرج من البيت إلي أن أعود إليه ثانية حتي أنفي تعترض هي الأخري علي رائحة الخنزير والخمر أحاول بكل الوسائل ان اغلقها حتي لاتتسرب إليها تلك الرائحة العفنة لكن دون جدوي.. -اذن عليك وعلي التفاح الامريكاني. -اعوذ بالله يغور ويغورون معه ربنا يكفينا شرهم.. دعيني الآن يافاطمة فالمركب سوف تتركني.. قبلي لي الأولاد.. ربنا يرزقني برزقكم. لمح صداح يأتي من بعيد متمهلا وهو يناديه.. -لا تنس ياصابر المعطف التي اوصيتك عليه. -ادع لي ان يكون الطريق هذه المرة خيرا وبركة.. قفز صابر داخل القارب الصغير الذي نقله بدوره الي السفينة وكما توقع كانت روسية »ناشفة« علي حد قوله.. وبالرغم من ذلك عاد من سفرته يحمل كيسا يتأبطه وكأنه يتأبط ذراع حبيبته المشتاق اليها ويخش ان تفلت من تحت قبضته وراح يتجول ببصره يمينا ويسارا باحثا مرددا: -أين هذا الرجل العجوز صداح؟ اصطدم صابر بصلة بزميله يوسف الضبع فأوقع رغما عنه بالكيس الذي يتأبطه وراحا يلمان محتوياته وهو يسأله: -يوسف.. ألم تري عم صداح المصحي؟ مصمص يوسف شفتيه وهو يقول بتأثر: -العمر الطويل لك ياصابر فقد قابل وجه كريم.. سقط الكيس رغما عن صابر وهو يصيح: -مات.. تنهد يوسف معقبا: -تناول العشاء في بيته وطلب من زوجته كوبا من الشاي راحت تعده وعادت لتجده لفظ أنفاسه، كانت جنازته بالأمس. دمعت عينا صابر وهو يردد: -مسكين ياصداح ظللت تحلم بمن يوقظك ولن تستيقظ بعد الآن ابدا.. بادره يوسف قائلا: -لقد اختاروك في الميناء مكان عم صداح.. انتفض صابر صائحا: -مصحي؟ -اجل فانت أكبرنا سنا والدور عليك ستعمل منذ الآن علي البر.. تجهم وجه صابر فصار اكثر عبوسا وقد تداخل حاجباه مع جبهته ليكونا رسما عجيبا أشبه بتلافيف الأمعاء فلا يظهر منهما شيئ.. وصل صابر إلي منزله متجهم الوجه عابس، وراح يقص علي زوجته ما حدث.. قالت مهونة عليه: -لقد حان الوقت لترتاح من عناء البحر والسفر ياصابر.. فأنت لاتدري كم عانينا في غيابك طوال السنوات الماضية وكم أعاني في كل سفرة إنني لا يغمض لي جفن وأظل ادعو بكل الأدعية التي أعرفها والتي لا اعرفها حتي تعود لنا سالما.. هز رأسه قائلا كمن يحدث نفسه: -أنا كالسمك لو ترك البحر يموت.. -بعد الشر عنك. هيا ادخل لتنام فأنت متعب من السفر. ضحك بمرارة وهو يقول: -عندي وردية.. ارتدي صابر المعطف الذي كان قد احضره لصداح وانطلق بعجلته وهو يردد أغنية عبدالوهاب اجري اجري اجري، فهو يحب مهنته واصدقاءه في العمل ويعشق دراجته والطرق الذي يمشي عليها حتي القطط والكلاب التي تستقبله.. وتحت شباكه وقف ينادي: -ياصابر يابصلة استيقظ لقد كنت في غفلة طويلة.. ثم انطلق يحدث نفسه هو يضحك في سخرية: -عجيبة اقدارنا.. نظل نائمين عهودا طويلة ونوقظ غيرنا مع إننا أولي منهم باليقظة لكنها أقدارنا.. تسعي الينا ونسع اليها وننام ليستيقظ غيرنا ونستيقظ لينام اخرون.. نم ياصداح هنيئا لك. -فلقد استيقظنا بنومك.