المصلون في حضن تاج محل يجب علي المرء أن يتحلي بالشجاعة والثقة في أنه سيجد ما يستحق هذا العناء الكبير لمغادرة موسكو نحو دلهي من خلال عدة رحلات متعاقبة وصعبة بالقطار من روسيا إلي جورجيا ثم أذربيجان فإيران وباكستان وصولًا للأراضي الهندية عبر القطار الوحيد بين البلدين من لاهور إلي دلهي الذي يعمل يومي الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع. تجلَّي مع هذه الرحلات الطويلة بعض مما يخفيه اللا وعي علي الأرجح، فالبلدان الثلاث الصينوروسياوالهند لديها أكبر تجمع للمسلمين في الدول غير المسلمة نسبة وتعدادًا بهذا الترتيب تصاعديًا، فالهند الأولي بين الدول غير الإسلامية والثانية عامة بعد أندونيسيا، حيث يبلغ عدد المسلمين بها نحو 200 مليون من مجموع سكانها البالغ حوالي مليار و340 مليون شخصًا بنسبة تقترب من 15%، كذلك عرفت هذه البلدان الإسلام وبُنيت بها المساجد بذات الترتيب، فأقدم مسجد هناك »شيرامان جمعة» في كيرلا شيد عام 629 بجهود مالك بن دينار البصري، وهو أحد التابعين ومن علماء القرآن الكريم الأجلاء. عندما يصل القطار إلي دلهي في الرابعة عصرًا، تبحث بسرعة شديدة عن وسيلة متجهة نحو المسجد الكبير، الأقدم والأكبر في دلهي الذي يعود تاريخ بنائه لمنتصف القرن 17 في عصر شاه جاهان، وبالكاد ستجد لك مكانًا في ساحته حتي تتناول وجبة الإفطار عقب أداء صلاة المغرب وسط الجموع الغفيرة الذين يسعون بعدها في مناكبها، ثم يعودون لتناول السحور ويؤدون صلاة الفجر لينطلقوا، ويعودوا مجددًا قرب المغرب التالي، النسمات ذاتها بتفاصيل مشابهة تعيشها في العديد من المساجد بولايات ومدن الهند المختلفة، منها المسجد الكبير في أحمد أباد، والساحة الكبيرة في ماليجون، لكن المشهد يبدو بديعًا عندما تصلي مع الآلاف صلاة المغرب أو الفجر في حضن تاج محل وروح المحبين ترفرف والملائكة تأمنهم. يعد الطعام من مظاهر رمضان في كل مكان في العالم، لكنه الأهم في الهند، ومع حلول الشهر الكريم تنتشر الأكشاك في الشوارع، التي تقدم المياه والتمور والفواكه المجانية للناس كافة عند موعد الإفطار عقب آذان المغرب، وإلي جانب الالتزام بالأطعمة التي كان يحرص عليها النبي صلي الله عليه وسلم، فهناك وجبات الإفطار التقليدية الشائعة مثل »الشانا دال» وهو حساء بالعدس والفاصوليا والبازلاء، »الباكودا» وهي وجبة مقلية تحضر حسب الرغبة باستخدام اثنين من هذه المكونات (البصل، الباذنجان، البطاطا، السبانخ، الموز، اللحوم، القرنبيط، الطماطم والفلفل الحار)، »داهي فادا» وهي كرات طحين مقلية مطعمة بالزبيب أو النعناع أو الفلفل الأسود أو غيره حسب الرغبة أيضًا، وغيرها من الأطعمة مثل »السامبوسا»، »الكشيدي» وهو أرز مطبوخ مع العدس، »الكيما» أو اللحم المفروم، »الكباب»، »البرياني» و»الباراثا» وهو الخبز الهندي، وهناك أيضا »شير خرما» وهو من أطباق التحلية الشهيرة وخاصة في منطقة »شناي» والتي تعدها النساء في المنازل من الشعرية الرفيعة. في السنوات الأخيرة، لفت الصيام انتباه الشباب في الهند، ووجدوا فيه وفي ممارسته اختبارًا لقوة الإرادة والتحدي، واستغلت النخبة المثقفة ذلك، وأخذوا يشجعونهم علي خوض التجربة مما يجعلهم يدركون أنهم جميعًا واحد رغم عقائدهم المختلفة، ما تحقق خلال سنوات قليلة دفع الدوائر الإعلامية هناك أن يطلقوا علي ما يحدث »معجزة رمضان». هذا الاتجاه جعل الطبقات الاجتماعية المختلفة من المسلمين وغير المسلمين يتبادلون الزيارات وتناول الوجبات معًا في وقت الإفطار والسحور علي الطريقة الإسلامية، ورغم أن الكثير من الهندوس نباتيون ولكنهم يعدون اللحوم والدجاج للمسلمين، وبسعادة أكبر، يحضرون أنواع التمور والفواكه المجففة المختلفة. تشهد المدن الرئيسية مثل دلهي وحيدر أباد وكولكاتا ومومباي حركة غير طبيعية من بعد المغرب وحتي قبل الفجر بقليل، وتعد العديد من الشركات وجبة الإفطار للعاملين بها خلال الفترات المسائية، ومن أغرب العادات لدي الهنود في شهر رمضان، الإكثار من شراء الأحذية الخفيفة »الشباشب» والقبعات بمختلف أنواعها وألوانها، وكذلك مختلف أنواع الأعشاب والعطور المركبة منها. وتظهر هناك الطبلة الهندية المميزة، ذات الإيقاع الخاص عندما يستخدمها »المسحراتي» لإيقاظ النائمين لتناول وجبة السحور، كما يتسابق الكبار والصغار من النساء علي استخدام الحناء لوضع رسوم علي الكفين والأذرع وغيرها تعبِّر عن شهر رمضان ورمزيته وقدسيته، والتي تتميز بالدقة الشديدة لبراعة الهنود فيها. من المشاهد المعتادة والمؤثرة في بيهار وغيرها من الأماكن المشابهة، عندما تتعرض للفيضانات، والآلاف يسبحون وهم يحملون الأطعمة والاحتياجات الأخري إلي القري الصغيرة والمستوطنات البعيدة الغارقة، ورغم صعوبة الوضع، لكن أهالي هذه المناطق المنكوبة يستقبلونهم بما لديهم، ولا يتركونهم يغادرون إلا بعد تناول الوجبة التالية سواء كانت الإفطار أو السحور، وإن كانت الأخيرة فلا يغادروا قبل أن تشرق الشمس. لا ينفصل المسلمون هناك عن تقاليد الهند في الاحتفال حيث تمتزج الأناشيد بالرقصات الخاصة بشهر رمضان، فتجد الجموع الكبيرة تشكل دائرة يتوسطها فردان أو أكثر في ثنائيات يرقصون، ودائرة صغيرة بأحد الأركان بداخلها تقود الإنشاد بينما الجالسون يرددون، ويمكن أن تكون المجموعة التي تقودهم منفصلة عن الدائرة وتأخذ موضعها فوق تبة عالية وتصبح معها الدائرة منقوصة من الجزء المواجه لهذه التبة، ويمكن الاستمتاع بهذه الطقوس في ريف بيهار ومناطق عدة بغوجارات وكذلك بجوار مساجد ولاية كيرلا المختلفة، كما تنتهي استعدادات الفرق الشعبية ويأتي الوقت الذي ينتظرونه من عام لآخر، حيث يقدمون عروض الدمي وعرائس الظل في المسارح والساحات بمختلف الولايات وخاصة الجنوبية مثل كيرلا وتاميل وأوديشا، وتسهم هذه العروض بالروحانية الشديدة، وتعد مصدرًا مهمًا لتعليم الأطفال والتأثير فيهم. ولمزارات شانديغار متعة رمضانية خاصة لمدينة حافظت علي ارتفاعات مبانيها المختلفة، حيث تجد فيها ما يمتع النظر ويريح النفس، ويعين الصائمين ويهون عليهم، فبها »النافورة الموسيقية» الخلابة التي يتجمع حولها الآلاف ليعيشوا أجواء روحانية تحتضنها الطبيعة، ومنها إلي »حديقة الصخرة» الفريدة والتي استخدمت النفايات في صنع مجسماتها، و»المتحف الهندسي» الذي يروي قصة إنشاء المدينة قبل نحو 3 آلاف عام وتطورها وصولًا إلي ما هي عليه حاليا، ثم متابعة غروب الشمس عند »البحيرة الساخنة» الصناعية سواء سيرًا علي الأقدام أو باستخدام مراكب متعددة الأشكال والألوان بعضها علي هيئة بطة، وغيره من أماكن التنزه وبيع المنتجات المميزة للولاية كالأوشاح والشالات الملونة والملابس البنجابية التقليدية. بينما تقدم مومباي درسًا ونموذجًا لمدينة يعتبرها الكثيرون ملهًا كبيرًا وبقعة لممارسة كل شيء بحرية وبدون قيود عقائدية، ولكنها تتحول خلال شهر من كل عام، شهر رمضان المعظم، إلي ساحات لقراءة وحفظ القرآن، وخاصة للصغار وتشجيعهم علي ذلك بمكافآت عينية رمزية، ومن أجل مرضاة الله ورسوله صلي الله عليه وسلم عنهم.