داود حسني احتدمت معركة الموسيقي. ونحن اذا أغمضنا عيوننا، عن بعض ما جاء علي لسان بعض الذين دخلوا المعركة.. خلسة رأينا أن المعركة تتجه إلي الوجهة التي رسمها لها عشق الفن، وحب الوطن، وأمانة القلم... ولعل علي حواشي المعركة، أشياء تثير العجب، أهمها انصراف الموسيقيين عنها، انصرافهم عنها جدلا ومساجلة وتبيانا، وانصرافهم عنها قراءة واطلاعا.. سألت بعض الذين فتحوا بيوتهم، وأخرجوا أولادهم من طبقات أولادنا. وادخلوهم المدارس ذات الحدائق، والمربيات الأفرنج، و كل ما يغذي العقد النفسية، ما أصابوه من خير علي يد الموسيقي التي هي حرفتهم الوحيدة، وأحببت أن أسمع رأيهم شفاها حول ما نكتبه ويكتبه الزملاء في الصحف عن الموسيقي، فكان عذرهم أن »النقابة» ليست مشتركة.. في الرسالة.. والجمهورية.. والأخبار.. وحاولت أن أندهش، فلم أتمكن، ذلك لأن هؤلاء الأساتذة، شهروا علي نظرات عتاب قاسية.. كيف أسمح لنفسي بالدهشة والجواب حاسم، النقابة ليست مشتركة.. في الصحف.. وقليلون هم هؤلاء، من الموسيقيين، الذين يتتبعون ما يكتب عن فنهم، بكثيرمن التقبل والدراسة والتقدير.. تري، هل يستطيع الأدباء والصحفيون وحملة الأقلام ممن يزاولون ضني القراءة والاستمتاع لتوصيلهم »مفهوم» الموسيقي لقرائهم.. هل يستطيعون معالجة الموقف، بالنقد، وبالتوجيه.. ثم بوضع موسيقي..! لهم الله، هؤلاء المنصرفون عن الثقافة، فإنهم.. أساتذة..!! كانت وجهتي، في هذا المقال، أن أعالج النقطة اللزجة التي تلصق بها أفكار القراء فلا يعون جوهر القضية التي نناقشها، وهي نقطة »الموسيقي العالمية» و»الموسيقي المحلية» والفرق بينهما، وما إذا كانت العالمية، هي المبنية علي قواعد الفن الرفيع، والذوق السليم، والحضارة العاطفية، وما إذا كانت المحلية همجية ومجرد لطم بالدفوف.. كانت تلك وجهتي، فإذا بها هي هي، يزيد عليها شيء جديد، هو مجابهة الأساتذة الموسيقيين ممن يتربعون عرش الأذن في مصر.. بالحقائق. لماذا نطالب ب»قوممة» الموسيقي، في عصرنا الراهن، ولا ندعو مع الداعين.. للعالمية. الجواب: عاشت مصر، ذات طابع »قومي» في أدبها وفي موسيقاها، بحيث تطفر القسمات المصرية، والملامح المحلية، عليها، تماما كما لو كنت في واشنطن أو بكين أو باريس.. وتري وجها لرجل أو لامرأة.. فيمتليء شعورك علي البديهة.. بأنه مصري، أو بأنها مصرية. ولقد عاشت مصر الفرعونية ذات ملامح ثابتة في الفن، وذات شخصية مستقلة محددة، لم يؤثر فيها اليونان، ولا الرومان.. وانما أثر فيها العرب. ولتأثير العرب في الفن المصري، وزحزحته عن جوهره، أسباب اجتماعية قوية، فمصر، أقباطها الذين أسلموا، وأقباطها الذين لم يسلموا، وفاتحوها وداخلوها من العرب، ربطت بينهم »وحدة» جديدة، غير القومية المحلية وهي »المصرية» وانما وحدة القومية السياسية، العربية، بعد أن شعر المصريون بأن العرب خلصوهم من استبعاد الرومان، والتاريخ، وتألقه وآثاره تشهد بذلك، فهم الذين دعوا العرب وساعدوهم في هذه الدعوة لتخليصهم من الاحتلاليين البرابرة.. الرومان، وهم الذين دخلوا في الدين الجديد بالفرحة التي أحس بها أجدادهم وهم ينفضون عنهم الوثنية ويدخلون في النصرانية. وفي تاريخ »الكندي».. وثائق رائعة في هذا الموضوع الذي يثبت أن المصريين، تعلقوا بالقومية الجديدة، العربية، حتي ان عائلات كثيرة راحت تشتري »النسب» من الولادة.. بعد أن أصبح الفخر مقرونا لذوي الأنساب العربية.. انتقل مركز الثقل، في الفن، من »المصرية» إلي »العربية» ولم تعد منابع الإلهام، متفجرة في التطور الاجتماعي المصري، وإنما من المثاليات والصفات العربية التي يكتظ بها ديوان العرب.... شعرهم ونثرهم. وفي عملية التكييف الجدل التي كيفت المصريين، من ناطقين بلغتهم، إلي قوم ينطقون بالعربية، ويكتبون بها، ويحفظون آثارها، حبا في الدين الجديد ومناصرة للقومية السياسية الفاتحة، وفي هذه العملية، تحول مدارس »المثل العليا» من المدار المحلي.. إلي المدار العربي الإسلامي. كان ذلك، شيئا طبيعيا، لا خلاف فيه مع قوانين التطور والاجتماع.. إلي أن دبت المطامع في نفوس الخلفاء والولاة.. وأصبحت الدنيا عندهم قبل الدين، وبالفطرة الصافية أدرك المصريون ذلك، بدأت عوامل تكيف جديدة تلعب دورها بين المصريين، فبدأوا يترابطون بقوميتهم المحلية مرة أخري، وبدأت العاطفة المصرية الخالصة تتكشف في وجداناتهم، وبدأوا ينظرون إلي الولادة وأتباعهم وأشياعهم علي أنهم أجانب.. وأغيار. لقد تفتتت معظم الممالك التي دخلها العرب، وتحولت هذه الممالك إلي امارات بعضها مستقل استقلالا كاملا، وبعضها مستقل اجتماعيا، تابع إلي الخلافة نظريا ولكل امارة حاكم، له حاشيته وجيشه وماليته، إلا مصر.. فقد عاشت طول هذه الاحتلالات والفتوح، المعادية منها والصديقة، وهي وحدة اجتماعية غير منفصمة.. إذا صرخ من أبنائها في دمياط صارخ، أصغي له السمع أخ في أسوان.. وعلي الرغم من الأيام »الأيوبية» الحافلة، ومن سجع »القاضي الفاضل» فلقد كانت »الجاذبية القومية» المصرية توحد بين أبناء هذا الشعب، في عاطفة واحدة، وشعور واحد، لم يستطع التاريخ الأيوبي أن يخفيها، فلقد حب المصريون يدافعون عن بلادهم.. لا عند مجد صلاح الدين. المصريون، وفتيان الأزهر بالذات، هم الذين رسموا خطة المعارك البحرية التي عزمت »أرناط» والمصريون، من أبناء الدقهلية والغربية، هم الذين أغرقوا زروعهم ليصبح جيش فرنسا فيري نفسه محوطا بالأوحال.. والمجد لصلاح الدين، والملك العادل..!! ومصر، أم المعجزات. تلك التي امتصت لصالحها مثاليات الغرب.. فأصبحت تحس بأنها، لا غيرها المسئول عن قضية الحرية لها ولكل الأقطار العربية الأخري. قرون طويلة، وعوامل التفاعل السياسية تلعب دورها في عزل المصريين عن مصريتهم، ولكن عوامل التفاعل الاجتماعية تلعب دورا أعمق وأكثر ارتباطا بالأرض، فعاد المصريون إلي »مصريتهم» من جديد.. وجاء المماليك، فإذا بهم يساعدون المصريين، تلقائيا، علي الترابط القومي المحلي.. ثم جاد الأتراك.. فالفرنسيون، فالإنجليز.. وخلف كل من هؤلاء في حواشي أمتنا، طبقات، وعناصر، وألوانا، كانت كلها ذات سيطرة علي شئون البلاد.. فأنبت في وجدانات الأمة المصرية الكثير من الملامح الأجنبية... وإذا بالفن المصري، للمحدق فيه، يظهر في خطين اثنين لا ثالث لهما.. الخط الدرامي الأصيل النابع من مصر الفرعونية.. والمتقلص في »الموال» والخط الخليط الذي بعضه تركي وبعضه فرنسي وبعضه عربي.. وفي الأدب.. لعب الشعراء المصريون الخلص، من أمثال »البهاء زهير» و»ابن النحاس» و»ابن وكيع» و»ابن المعمار» وغيرهم، دورا كبيرا في إعادة ربط الأدب بالمجتمع.. وتخليصه من المأثورية العربية المرتبطة بالمثاليات والأحلام الخيالية.. حتي لم يكن غريبا عليهم أن يقولوا أن »أجمل الشعرا كذبه» وناهيك بها حكمة، أو ناهيك بها »جسرا» يؤكد انفصال الأدب العربي عن سيرورة الاجتماع، وصدق الكشف عن عوامل التطور الحضاري... وفي الموسيقي، والغناء، ظل »الموال» عبارة عن »ثلاجة الفن» التي يحفظ فيها المصريون، حبهم للدراما، وللقصص، ولعواطفهم الاجتماعية الخالصة.. ألم يخرج من بين المصريين مغن أو موسيقي..؟ ان »ابن اياس» يحدثنا في تاريخه، وكذلك »الجبرتي» عن بعض الذين وضعوا الألحان المصرية، إلا أن المسئولين من الأجانب، حكام مصر كانوا يطربون، للنغم الخليط المدخول علي العاطفة المصرية.. ولكن... هل ماتت الألحان المصرية في كل تلك الحقب..؟ أبدا.. فلقد كان المصريون، يطربون طربا عقليا صرفا إذا استمعوا إلي ألحان الموالد، وتواشيحها.. لا من فعل اللحن، إنما من فعل محمول الكلام الديني.. وكان في مصر، مغنون بالفطرة، مغنون مصريون، هم الباعة المتجولون، والشحاتون، هؤلاء الذين ظلت وجداناتهم مصرية سليمة، حتي إذا ما جاءت مغنية مصرية مثل »أم رضوان» فإنها لم تجد سوي ألحان الباعة والشحاتين منبعا لألحانها وغنائها، فوضعت »الحنة يا حنة يا قطر الندي» و»يا نخلتين في العلالي يا بلحهم دوا» من جوهر المشاعر المصرية.. وجاء سلامة حجازي، بعد ذلك كله، وهو عربي الأم، مصري الأب، خلقة وسط بين القومية المحلية، والقومية العربية المارد الأخرس قهرا.. وجد أن الشعب المصري.. هو الذي يلحن أغانيه.. ويصبها في القالب المصري. واستقلت العاطفة المصرية، علي يد المارد الأخرس.. أو علي يد السيد درويش.. ولكن، هل ظل استقلال العاطفة سليمان من أي اعتداء..؟ كلا.. فلقد اعتدي عليه عهد الاقطاع.. واعتدت عليه العقد الاقطاعية... فأبناء الذوات لا يستسيغون إلا المغنيين المستوردين من البلاد.. وأبناء العقد الاقطايعة يتكلمون بالفرنسية.. مع أولادهم وخدمهم.. فكيف يمارسون السعادة في الغناء بالتغني باللغة الفلاحة.. المصرية.. لقد كان شيئا مغايرا لمنطق الأشياء أن تستقل مصر، عاطفيا، ووجدانيا، أي فنيا، قبل استقلالها السياسي، واليوم وقد استقلت سياسيا، وإلي الأبد، فأي شيء يثنينا عن المحافظة علي »الجاذبية القومية» وتدعيم »الشخصية المصرية» وبعثها في المجتمع العالمي، بإراديتها الفنية المحلية، لا بأريدة مضحكة، عمامة من تركيا، وبنطلون من أوربا، وبساطة خادعة كاذبة من انجلترا، وخطوط وزخرفات عربية. أننا ندعو إلي المصرية في الموسيقي، لنرد إلي كل مولود علي أرض هذا الوطن.. ثقته بنفسه.. لنرد إليه سيادته العاطفية.. لنقنعه بأنه كائن متكامل.. إنها دعوة إلي الأمام.. وإلي الحق.. وإلي الصواب. وإني، بعد ذلك، لأسأل هذا السؤال..؟ هل اقتصرت ألمانيا - مثلا - علي بيتهوفن.. وفاجنر.. أحب أن أقول للذين يدعون إلي »العالمية» في الفن، أن ألمانيا، أم بيتهوفن وفاجنر.. تعود اليوم إلي »قوممة» الموسيقي، وتفصل بين الخطين، كما نحب أن نفعل في مصر.. في الوقت الذي تقوم فيه الفرق الموسيقية الكلاسيكية السيمفونية، بعزف المقطوعات التاريخية الخالدة، قامت فرق أخري جديدة، مثل »موزيكا فيفا» التي تتخصص في عزف الموسيقي القومية في ميونيخ، وفرقة »الموسيقي الحديثة» في همبورج، وفرقة محطة الإذاعة الجديدة في كولوني. وفي الراين، تتتميز فرقها الموسيقية بالوجهة الدينية الروحانية، إذ تشترك مع هذه الفرق، فرق الترتيل، ومن أشهر هذه الفرق اليوم فرق كولوني وبون ودسلدورف وبرلين وفرنكفورت. وأخيرا، وافتنا الأنباء بنجاح فرقة »سان هدويج» في باريس وهي الفرقة المشهورة بألحانها القومية الألمانية.. .. لقد أصبحت الموسيقي الألمانية اليوم غنية بالمؤلفين القوميين الذين يلحنون الأوبرا والمسرح الغنائي بعامة، ثم في الأوركسترا السيمفونية من ناحية أخري.. وكذلك يجب أن نمسك بجوهر القضية. واجبنا أن نرتكز في توجيهنا للموسيقي اليوم، علي هاتين القاعدتين، المسرح الغنائي، والأوركسترا السيمفونية.. المسرح الغنائي، لاشاعة روح الخلق والابداع وتجديد عواطفنا وتدعيم استقلالينا الوجداني والسياسي، والأوركسترا السيمفونية، للخروج بعواطفنا من كهوف التعبير الاقطاعي، لرحابة التعبير العالي.. والمؤلف الموسيقي السيمفوني المصري، أصبح موجودا، أصبح موجودا اليوم.. ولقد عددنا أسماءهم من قبل، وهم أحمد عبيد، والشجاعي، والظاهري، ونويره، وحجاج.. وبعض الشبان الواعدين المبعوثين بالخارج من قبل، وهذا بعض تراثنا الرائع، لعلنا نعيد بعثه في المسرح الشعبي الذي يطوف البلاد، تمهيدا للمرحلة الثانية التي نبدأ فيها بوضع روايات جديدة، تتفق وأهدافنا، وحياتنا المستقلة النامية. لكامل الخلعي: لص بغداد، وطيف الخيال، والتالت تابتة، وكلام في سرك، وكارمن، وتاييس. ولداود حسني: صباح، وشمشون ودليلة، ومعروف الاسكافي، وناهد شاه، وأحب أفهم. ولداود حسني أيضا وهي روايات وضعها لنجيب الريحاني: أيام العز، والبرنسيس، ومجلس الأنس، وورشة المراكب، والفلوس. وللشيخ سلامة: تليماك، وشهداء الغرام، وعظة الملوك، وعايدة، وغيرها. وللشيخ زكريا أحمد: علي بابا، وسلامة، وعزيزة ويونس، ويوم القيامة.. والكثير. ولابراهيم فوزي: فرجت.. وآلاف الاسكتشات. ولعزت الجاهلي: آلاف الاسكتشات. وللشيخ سيد درويش: هدي، والدرة، وفيروز شاه، وكلها يومين، وراحت عليك، ولسه، والهلال، والانتخابات، والعشرة الطيبة، وشهر زاد، والباروكة، وكليوباترا، وولو، وقولوله، واش واسكتش القبة الخضراء. تعالوا نحاسب أنفسنا. كم ألف جنيه تعطيها الاذاعة للموسيقيين والملحنين.. تصوروا أن الجزء الأكبر من هذا المبلغ.. ضائع.. في تلحين »الطقطوقة».. في الأغنية المجردة.. في مثل هذا الكلام الذي يحط من كرامة الإنسان.. افتكري يا جدران.. يا أوفي م.. »الإنسان» إن علينا واجبا مقدسا للموسيقي المصرية، وهو جزء من واجبنا الوطني القومي. وحسبي في هذا الصدد، أن أقول إننا قد بدأنا فعلا، بدأنا عندما وضعت الثورة في هذا المكان، رجالا، هم من رواد البعث الفكري، ومن المبدعين في الفن والأدب، والداعين لتخليصهما من الشوائب الأجنبية، وهم الأساتذة فتحي رضوان، والدكتور حسين فوزي، ويحيي حقي. وما أخالني مطالبا بالكثير، إذا قمت بترديد بعض ما كانوا هم ينادون به أيام أن كانوا ينشرون أفكارهم المضيئة عن الفن.. كمجرد رواد وأصحاب أقلام مؤمنة بحق الوطن. وضعتهم الثورة في هذا المكان، ليكونوا ثورة للفن المصري.. إني أطالب بإذاعة رواياتنا الغنائية المسرحية، بعد اختصار مواقفها والتركيز علي المناسبات الغنائية تبعا لمقتضيات الفن الاذاعي. وأطالب بالمسرح الغنائي، المسرح الغنائي الشعبي، يعيد بعض تراثنا القديم، في احياء القاهرة بعد أن نحصل علي دار من دور السينما بالحي ونحيلها إلي مسرح، ونعلن عن سعر مناسب للشعب، ونذهب إلي الناس في أحيائهم، فلربما حبهم في السينما... مجرد كسل من الذهاب لمشاهدة المسرح في دار الأوبرا وحديقة الأزبكية.. وأسبوع في السيدة، وآخر في باب الشعرية، وثالث في السبتية.. وهكذا، ثم نثب إلي الأقاليم.. وبينما نحن نجوب الأحياء، في القاهرة، والبلاد، في الأقاليم، يكون المسئولون عن المسرح قد تعاقدوا علي وضع روايات جديدة، تناسب لحظاتنا السيكولوجية المعاصرة، وتدعو لتلحينها هؤلاء الذين مازالت أنغامهم وألحانهم تحس بحلاوة الروح المصرية، وجوهر صفاتنا الموروثة.. لا الذين ينتجون ألحانات تلبس التوب هات وترقص المامبو.. وأطالب بتدعيم أوركسترا السيموفني وانشاء هيئة للاشراف علي هذا التدعيم، وتصل بينها وبين المعهد الموسيقي.. أما الموسيقيون الذين يحتجون بعدم اشتراك نقابتهم في الصحف.. فإني حزين أن أقول لهم، وللرأي العام في مصر.. أن مصر فقيرة في »الأصوات الكاملة».. ولعل سر انكباب موسيقيينا ومغنينا علي الطقطوقة.. هو هرب من مواجهة مختلف العواطف الانسانية التي تخلو منها الطقطوقة.. كم يمدد الأصوات الكاملة في مصر...! عندي جواب، يا له من جواب. انتهي ملحن كبير منذ أيام من تلحين »مصرع كليوباترة» وكلما لقيته رأيته شارد الذهن، فأوثر تركه لخيالاته والهاماته.. ولما تكرر اللقاء، وتكرر الشرود، سألته: - أثمة دراما جديدة تضع ألحانها؟ ولمحت دموعا علي انفراجة فمه وهو يقول: - بل أبحث عن »أصوات كاملة» لتؤدي مصرع كليوباترة.. أيها الفنانون.. ما رأيكم في »خاتشاتوريان» وقد استمتعم من موسيقاه الي الجزء الذي قدم به يوسف الحطاب تمثيليته »سمارة» أما رأيت تعلق الشعب المصري بهذه الموسيقي. أتحبون أن أفسر لكم السبب.. عندنا قطعة موسيقية، قديمة، مهجورة، تعزفها موسيقي حسب الله في الحارات والأزقة في الأفراح، وليس فينا جميعا، إلا من رقص عليها، أو تهيأ علي الأقل للرقص.. انها »مارش الجزايرلي» أخذها خاتشاتوريان في واعيته، وهو طفل، بالاسكندرية، ولما حصل علي نصيبه من الثقافة، وقرأ.. عن الموسيقي.. صب مارش الجزايرلي علي أسلوبه الأوركسترالي الرائع.. كم عندنا من المعزوفات المصرية لأن نجددها علي طريقة هؤلاء الكبار الأجانب. وفقكم الله إلي الفن، كما وفقكم إلي.. الثراء. العدد الثالث والعشرون فبراير 1956