حواديت الشوارع وارتباطها الوثيق مع حكايات وذكريات الطفولة والصبا والشباب.. نستطيع بها أن نؤرخ لحياتنا الخاصة وللأحداث العامة.. حواديت الشوارع كثيرة وحكايتنا كلها معها كثيرة .. الشارع اللي فيه البيت والمدرسة.. وأول خروجة خارج الحي.. ولعب الكرة.. وفوانيس رمضان.. الذكريات التي تشكل وجداننا وتربط الذاكرة بالزمن. وقد استطاع المخرج »عمرو بيومي» أن يتجول بنا بين الخاص والعام من خلال فيلمه التسجيلي الأخير وهو شديد الأهمية »رمسيس راح فين؟»، الذي فاز بالجائزة الكبري في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة.. والفيلم شديد الأهمية وهي لا تكمن فقط في تاريخ التمثال ونقله.. بل ربط عمرو بيومي كل ذلك بذكاء وحساسية شديدة بين التمثال والميدان وحكايته الخاصة علي مراحل تطور عمره، وربط ذلك بكل الظواهر التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، التي أحاطت بتلك الفترة وشهدت تلك الأحداث. من بين الحقائب أوراق من دفاتر السفر يعود بذاكرته إلي المفتاح الأول الذي حمله لشقتهم بحي السكاكيني الشهير والمجاور لمنطقة الظاهر والقريبة من (محطة مصر)، ميدان رمسيس الشهير الذي وإن تغير اسمه رسميا إلا أنه مازال معروفا ومشهورا به حتي الآن. في رحلة البشر أقدار للأحجار تحكي تاريخا بكل عظمته وحضارة قديمة مازال العالم يدين لها بالكثير.. مع بداية الثورة وأول رئيس لها محمد نجيب.. ثم جمال عبدالناصر وتصاعد نجم المشير عبدالحكيم عامر، وصدور قرار بنقل تمثال رمسيس من ميت رهينة لميدان رمسيس سنة 1955 الذي كان يحتله تمثال نهضة مصر للفنان القدير محمود مختار، وتم اختيار مكان جديد له أمام جامعة القاهرة في نهاية كوبري الجامعة وكان المشرف علي عملية النقل المهندس »صادق نجيب»، وشاركت في ذلك الوقت »بلدية القاهرة» وسلاح المهندسين. ومنذ احتلال التمثال لموقعه في الميدان صار قبلة الناظرين ومكانا جميلا للقاء.. ونقطة التقاء لكل الشوارع والاتجاهات التي تحيط به من كل جانب.. وطغت شهرة الميدان والتمثال علي كل ما يحيط به.. وكانت نافورته الشهيرة من أجمل مواقع التصوير، وكان هو أفضل »كارت بوستال» فيه خير دعاية لمصر. وإذا كان تمثال »نهضة مصر» يرمز إلي ثورة 1919.. فإن »رمسيس» كان رمزا لثورة يوليو.. وعندما خرجت جنازة عبدالناصر كان التمثال شاهدا علي عظمة شعب ورحيل قائد.. »محطة مصر» أو »باب الحديد» فيلم يوسف شاهين الشهير وعلاقته بالتمثال. وعندما تم بناء كوبري أكتوبر وزادت حركة المرور اختنق التمثال، وبات من الضروري نقل التمثال.. وإن كانت الرواية الأقرب إلي الحقيقة هي أنه مع دخول مترو الأنفاق ووجود ثلاث محطات تحمل اسم الرؤساء جمال عبدالناصر وأنور السادات.. وحسني مبارك وإهداء كوريا لمصر ثلاثة تماثيل لهم.. كان من غير الطبيعي أن يكون تمثال »مبارك» والمحطة التي تحمل اسمه تحت الأرض.. وتمثال رمسيس بكل عظمته يتبوأ الميدان ويشرف بقامته عليه، ليصدر قرار جديد بنقل التمثال مرة ثانية لميت رهينة تمهيدا لنقله بعد ذلك للمتحف المصري الجديد بجوار الأهرامات.. ولقد أصر المهندس »أحمد حسين» المشرف علي نقل التمثال أن يكون رحيل التمثال في موكب ملكي مهيب.. ولذلك كان القرار أن يُحمل التمثال واقفا ويرحل وهو يودع شوارع القاهرة وسكانها. وبالفعل نقل التمثال في مشهد مهيب وخرجت الجماهير تودعه ووقفت النساء في الشرفات وهي تطلق الزغاريد وتحمل الأعلام تحية لفرعون مصر، هذا الملك الجسور الذي لُقِّب بملك الحرب والسلام.. ورغم رحيل »رمسيس» من الميدان في أغسطس سنة 2006.. إلا أن روائح الميدان مازالت تعبق برائحة التمثال والناس لا تمل من إطلاق اسمه علي الميدان. طوال رحلة التمثال ومشواره قبل وبعد الانتقال كان بيومي يستعرض رحلته مع الشوارع القريبة وأول مرة خرج بعيدا عن حيه.. وعلاقته بوالده الصارم، كل ذلك من خلال ضفيرة جدل بها الأحداث بصورة متشابكة ومتطابقة لمعظم حياة أبناء هذا الجيل من الطبقة المتوسطة.. وبعد ذلك كيفية امتلاء الشوارع بمظاهرة الثورة في يناير وخروج الجماهير. »عمرو بيومي» يملك وعيا كبيرا وقدرة علي التحليل من خلال أسلوب بسيط وسهل.. والغريب أن معظم المادة الأرشيفية لنقل التمثال بعد نفيه من الميدان ضاعت كلها كما ذكر المصور القدير »محمود عبدالسميع». عمرو بيومي منذ تخرجه في معهد السينما عام 1985 شارك كمساعد مخرج في عشرة أفلام قبل أن يقدم فيلمه الأول »الجسر» من بطولة الفنان »محمود مرسي»، وليقدم بعد ذلك 2008 فيلم »بلد البنات» وبعد ثورة يناير قدم فيلم »نافذة علي التحرير». وفي فيلم »رمسيس راح فين؟» شارك بالكتابة والتصوير والتقصي عن المادة الفيليمية والأرشيفية.. ليستحق بدون شك الجائزة الكبري في مهرجان الإسماعيلية.