قد يكون البعض محقا في القول بأن الحديث عن التفاوت بين الجنسين بالمجتمعات العربية يعتبر في ظل الأوضاع السائدة ضربا من ضروب الترف الفكري، لأنه موضوع لا يمكن أن يجد له موقعا متقدما في سلم الأولويات المطروحة، وفي لائحة انتظارات الشعوب العربية، وقد يدعمون هذا القول بأن الجدير بنا اليوم الحديث عن التفاوت الطبقي بين الفئات، حيث تسيطر فئة محظوظة قليلة وعلي حساب مختلف الفئات الشعبية والمتوسطة العريضة، علي الخيرات والأرزاق، مما يترتب عنه مظاهر الفقر والتخلف والعوز داخل هذه المجتمعات، والجدير بنا -حسب ذاك القول- الحديث عن التفاوت بين الدول العربية في سلم التنمية، حيث تزداد هوة التباعد بين دول مكنها مخزونها من الخيرات والنعم الباطنية من تحقيق معدلات نمو مرتفعة جدا، بينما تنحدر معدلات التنمية في أقطار عربية أخري بسبب ضيق الحال، والأجدر بنا الحديث أيضا عن التفاوت بين الجهات في نفس القطر الواحد، حيث تتباين الحظوظ بين الجهات مما يتسبب في وجود تفاوتات بين نفس الجهات في التنمية بالبلد الواحد. المشكلة أن هذا القول له ما يبرره، ولا يمكن تجاوزه بسهولة كما قد يعتقد البعض، لأن كل الحيثيات التي تحدثنا عنها، وغيرها كثير، يضفي المشروعية الكاملة علي هذه الدفوعات التي تعني بالجوهر، لكن هذا الإقرار لا يعني في نفس الوقت أن غير ذلك القول يعتبر ترفا فكريا لا موقع له في خريطة الأولويات بالبلدان العربية، بل إن قضية في حجم الخطورة البالغة التي تكتسيها ظاهرة التفاوت بين الجنسين (الرجل والمرأة) في المجتمعات العربية، لا يمكن إقصاؤها من لائحة القضايا الساخنة في النقاش العام بالساحة العربية، ولا من لائحة الأولويات التي تستوجب الانتباه إلي تأثيراتها علي ما تصبو إليه الشعوب العربية من تقدم ونمو. فالمساواة بين الرجل والمرأة تلازم بالضرورة السعي نحو الازدهار، وهي من الإكراهات التي تتسبب بشكل كبير ومباشر في تعطيل التنمية المنشودة. وهذه حقائق تسندها الدراسات المتخصصة وتقارير المنظمات الدولية. وفي هذا الصدد فإن التقرير الأخير الذي صدر قبل أيام عن البنك العالمي تحت عنوان »النساء والمقاولة والحقوق : 2019 عشرية الإصلاحات » بسند هذه الحقيقة، وهو تقرير رصد المراحل الأساسية في الحياة المهنية للنساء من الحصول علي الشغل أول مرة إلي التقاعد، خصوصا ما يهم الحماية القانونية في 187 دولة بالعالم. و يؤكد معدو التقرير أن قضية المساواة بين الرجال والنساء هي مسار طويل، يتطلب إرادة سياسية وبذل جهود من قبل الكافة سواء تعلق الأمر بالحكومات أو المجتمع المدني أو المنظمات الدولية. ويستعرض التقرير معالم التحسن والتطور التي شملت أوضاع المرأة في العالم خلال العشر سنوات الماضية، ويجزم بأن المؤشرات كانت معبرة وذات دلالات، من ذلك أن 131 دولة في العالم قامت ب 274 إصلاحا قانونيا يهدف إلي تحسين الاندماج الاقتصادي للنساء، وأن 35 دولة اتخذت إجراءات قانونية للتصدي لظاهرة التحرش الجنسي ضد النساء في مقرات الشغل، وأن 22 دولة قامت بإلغاء القيود المتعلقة بحق المرأة في الولوج إلي الشغل بقطاعات كانت محظورة عليها، وأن 13 دولة قامت بسن قوانين تفرض المساواة في المكافآت في العمل. وأوضح التقرير أن ست دول فقط، وهي بلجيكا والدانمارك وفرنسا وليتوانيا واللكسومبرغ والسويد، حصلت علي العلامة الكاملة في التنقيط فيما يتعلق بالاعتراف للنساء بنفس الحقوق التي يستفيد ويتمتع بها الرجال. كما يشير التقرير إلي أن 56 دولة موزعة في مختلف بقاع العالم لم تقم خلال العشر سنوات الماضية بأي إصلاح يهدف إلي تحسين مؤشر الحظوظ في المساواة بين الجنسين. و يهمنا أن نتوقف عند ما تضمنه التقرير من حقائق ومعطيات في هذا الصدد، التي تهم المنطقة العربية ونكاد نجزم أنها لم تول لحد الآن هذه القضية ما تستحقه من اهتمام وعناية، حيث يفيد التقرير أن الدول العربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قامت خلال العشر سنوات الماضية ب 19 إصلاحا يهم المساواة بين الرجل والمرأة، ويؤكد التقرير أن المعدل العام للمساواة بين الجنسين في هذه المنطقة يعتبر من بين أدني المعدلات في العالم بمؤشر لا يتجاوز 47 بالمائة، بينما المؤشر العالمي يصل إلي 75 بالمائة، والأدهي من ذلك أن وتيرة تحسن هذا المؤشر تعتبر أكثر المؤشرات بطئا مقارنة مع نظيراتها في العالم، كما يسجل التقرير أن الشروط المتعلقة بالزواج في بعض الأقطار الواقعة بهذه المنطقة تحسنت بالنظر إلي ما كانت عليه في السابق، وأن بعض هذه الدول سنت قوانين تجرم العنف الأسري، كما اتخذت دول أخري بهذه المنطقة إجراءات لحماية المرأة الحاضنة للأطفال. وكلها مؤشرات متواضعة جدا مقارنة، ليس مع الدول الأوروبية فحسب، ولكن حتي مع دول ومناطق أخري، التي يذهلنا التقرير بحقائق تفسر لنا أسباب تقدمها السريع والمتواصل، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لدول منطقة جنوب آسيا التي تعرف أسرع وتيرة تطور لمعدل المساواة بين الجنسين، والتي انتقلت في بحر عشر سنوات من معدل سنوي كان في حدود 50 بالمائة إلي معدل يصل إلي 58،36 بالمائة حاليا، كما أنها المنطقة التي عرفت أعلي رقم للإصلاحات حيث وصلت إلي 88 بالمائة، وهي إصلاحات قانونية همت ولوج النساء إلي الشغل وتجريم التحرش الجنسي في مقرات العمل والعنف الأسري، وتمتيع النساء العاملات بعطل الأمومة وحظر جميع أشكال التمييز ضد النساء في المعاملات المالية. السيدة كريستالينا جيورجييفا الرئيسة بالنيابة لمجموعة البنك العالمي تؤكد في نفس الاتجاه بأن تحقيق التقدم ممكن ومتاح، لكن وتيرة تحقيقه بطيئة لأن هناك 2،7 مليار من النساء يواجهن باستمرار إكراهات قانونية تحد من اختياراتهن مقارنة مع الرجال. وألحت المسئولة المالية العالمية علي ضرورة تحطيم الحواجز التي تحول دون تحقيق هذه المساواة. أخالني أبحر في محيطات الأحلام، إذا ما اعتقدت أن الحكومات العربية ستسارع إلي المطالبة بالحصول علي نسخة من هذه الوثيقة الاجتماعية والاقتصادية المهمة، وتكلف خبراء ومتخصصين بتعميق معالجة مضامينها، للإسراع بإنجاز الإصلاحات المطلوبة لإنقاذ المرأة العربية مما هي عليه اليوم، أو إذا ما انتظرت من الأوساط الأكاديمية والبحثية والمعرفية والجامعية في البلدان العربية، أن تخص هذا التقرير بما يلزم من اهتمام معرفي وعلمي، لاستخلاص ما يفيد المجتمعات العربية من هذا التقرير في قضية تهم مصير شعوب هذه المجتمعات.