في شارع قصر النيل سمعت من ينادي باسمي وتلفت لأجد هذا الرجل العظيم وهو يلهث ليلحق بي ليطمئن علَّي وعلي أسرتي. عندما عاد ابني من عمله في الاسبوع الماضي وجدني أجلس حزينة والدموع تملأ عيني فاقترب بحذر وسألني »ما هو الخبر؟» لقد رحل عن عالمنا رجل عظيم وإذا كان كل من عرفه قد أكد أنه شخصية فريدة لا يعرف سوي الصدق فإلي جانب أنه رجل علي مستوي رفيع فهو فقيه قانوني من الطراز الأول درس في جامعة هارفارد الأمريكية وأصبح استاذاً ومعلماً لأبرز القيادات القانونية في مصر والعالم العربي. وقلت لقد عرفت اليوم بوفاة الدكتور أحمد كمال أبو المجد.. ولابد لي أن أقول انني شرفت بالعمل مع الدكتور أبو المجد عندما كان وزيراً للإعلام... وكان لعملي معه أثر عميق في تغيير مجري حياتي. بدأت عملي معه دون وساطة وبطريقة غريبة فقد فوجئت عندما كنت أعمل بمكتب محافظ القاهرة كمسئولة عن العلاقات الخارجية نظراً لإجادتي اللغات بمكالمة تليفونية من مكتب وزير الإعلام الجديد الذي لم يمض علي توليه منصبه سوي اسبوع... وقال المتحدث أنه مدير مكتب الوزير وأن الوزير يريد مقابلتي... وطلب مني أن أتوجه إلي الباب الجانبي لمبني التليفزيون حيث سينتظرني مسئول الأمن الذي صحبني إلي الدور التاسع حيث يوجد مكتب الوزير. وتبادلنا الحديث حيث سألني عن طبيعة عملي بمكتب المحافظ ودراستي المستفيضة للغة الفرنسية... ثم قال لقد طلبت من بعض الاصدقاء ارشادي عن شخص مجتهد يمكنني الاعتماد عليه وقد دلني صديق عليك وأنا حالياً اثق في اختياره... ثم تناول الوزير الهاتف ليطلب من محافظ القاهرة أن يوافق علي نقلي للعمل بوزارة الاعلام... واصبح عملي في مكتب مجاور لمكتب مدير مكتب الوزير وفي اليوم الأول لتسلمي العمل قام الوزير بتسليمي مفتاح الخزينة الخاصة بمصاريف المكتب وقال إنني سأعتبرك المسئولة عن هذه الخزينة...، والتي كانت ايضاً تخصص للمنح والمكافآت واصبح علي أن أسجل كل ما يصرف من أموال. وقد اثار ذلك غيرة عدداً من الذين عملوا من قبل مع الوزير السابق.. وقد شجعني علي الاستمرار والاجتهاد ما شهدته من دعم من عدد من أصدقاء الوزير... ولم تمض اسابيع حتي أصدر الوزير قراراً بتعييني مديرة للعلاقات العامة وهو منصب له أهميته حيث كان يعمل علي تنسيق اللقاءات الصحفية الأجنبية مع الرئيس السادات... وتم إلحاق عدد من الشباب للعمل معي واصبح المكتب بمثابة ملتقي لكبار الاعلاميين الذين يتوافدون للقاء الوزير. وقد تعرفت خلال الاسابيع الأولي لعملي علي العديد من الشخصيات السياسية التي كانت علي علاقة وثيقة بالوزير مثل رحمه الله السفير اسامة الباز... وبعد مرور شهرين علي عملي استدعاني الوزير ليقول لي أنه قرر ايفادي إلي باريس بصحبة السفير العظيم تحسين بشير والاستاذ عبد الأحد جمال الدين وذلك للاعداد لأول زيارة يقوم بها الرئيس السادات لفرنسا مشيراً إلي أهمية الزيارة... وبعد أيام من اللقاءات مع المسئولين بوزارة الخارجية الفرنسية تم الاتفاق علي أن يكون المكتب الصحفي بفندق بريستول حيث ستكون إقامة وزيري الخارجية والدفاع ومستشاري الرئيس السادات الذي تم الاعداد لاقامته بقصر فرساي... واصبحت مسئولة عن المركز الصحفي وعن ترتيب انتقالات الوفد الصحفي الذي كان يقيم بفندق مجاور ومازلت اذكر كيف كنت أذهب بعد منتصف الليل لأحصل علي ابرز الصحف الفرنسية واقوم باعداد ملخص لما ينشر عن زيارة الرئيس. وفي تلك الفترة توطدت صداقتي مع عدد من رؤساء الصحف... وعندما انتهت الزيارة طلبت من الوزير أن ابقي لمدة يومين للاستراحة ولشراء بعض الاحتياجات وقال الوزير إن الاقامة بهذا الفندق ستكلفك الكثير ولن تتمكني من شراء أي هدايا... وبعد يومين حضر الاستاذ عاصم سويلم مدير المكتب الصحفي في باريس ليصحبني الي المطار وقد دهش عندما طلب مني المسئول عن الاستقبال الانتظار حيث يريد مدير الفندق أن يتحدث معي... وبعد دقائق حضر المدير وقال أن تقديرنا لعملك يحتم علينا إلا نحملك سوي الضرائب فقط.. وهنا ضحك الاستاذ عاصم وقال: إنه التقدير الفرنسي لنشاطك. وعلي مدي عملي قمت بالعديد من الزيارات الرسمية ومنها زيارة لبيروت وكانت السيدة الفاضلة سهير مخلوف زوجة الوزير مرافقة في هذه الزيارة التي التقينا خلالها بكبار رجال الإعلام الي جانب رئيس الجمهورية. كما قمت بزيارة سريعة للكويت وكانت المفاجأة عندما قامت سفارة ألمانياالشرقية بإرسال دعوة لي بزيارة ألمانيا وحضور أول مؤتمر دولي للمرأة اقيم في برلين... وعندما وافق الوزير علي قيامي بالزيارة الرسمية لم تمض أيام حتي وصلتني دعوة اخري من ألمانياالغربية للقيام بجولة وزيارة بون العاصمة.... وترددت في عرض الدعوة علي الوزير إذ أن هذا سيعني غيابي عن عملي لأكثر من اسبوعين إلا أنه رأي أن تلبية الدعوة جزء من عملي. وعندما ترك الوزير منصبه لخلاف حول قضية سياسية أردت مغادرة منصبي وعندما سألت الوزير الجديد يوسف السباعي أن يسمح لي بتولي منصب آخر رفض... وتوالت الاحداث وأغتيل الوزير السباعي ليحل محله الوزير جمال العطيفي الا أن وضعي الاسري كان قد تغير حيث أصر زوجي علي السفر إلي الولاياتالمتحدة وطلب مني أن ألحق به بعد الحصول علي إجازة لاصطحب الابناء لتجربة إمكانية الاستمرار... وحصلت علي إجازة لمدة عام بدون مرتب. وعندما أقول إن عملي مع الوزير ابو المجد قد غير حياتي حيث اصبحت علي صلة مع شخصيات سياسية.. وشخصيات اعلامية عديدة... وكان هذا تمهيداً لأن تطلبني دار أخبار اليوم مني أن أعمل كمراسلة للدار بالاممالمتحدة. وأريد أن اذكر هنا موقفا مازال في الذاكرة عن عظمة وسمو شخصية الدكتور ابوالمجد حيث انني كنت في زيارة القاهرة في أواخر التسعينات وفي شارع قصر النيل سمعت من ينادي باسمي وتلفت لأجد هذا الرجل العظيم وهو يلهث ليلحق بي ليطمئن علَّي وعلي أسرتي. عملي كمراسلة لدار أخبار اليوم بالاممالمتحدة فتح امامي مجالات واسعة تعرفت خلالها علي شخصيات عديدة لها توجهات مختلفة وكان لوجودها اصداء في كافة انحاء العالم. وخلال هذا العمل كانت لي ومازالت اتصالات اعتز وافخر بها ومنها مثلاً أنني بين عدد محدود للغاية من الصحفيين الأجانب الذين لهم علاقة وثيقة بمجلس العلاقات الخارجية في نيويورك حيث يصلني من المجلس دعوات شخصية للمشاركة إسبوعياً في ندوات ومناظرات تستضيف أبرز الشخصيات والرؤساء.. ونظراً لهذه العلاقة الوثيقة فأنني لست بحاجة لطلب دعوة لحضور اجتماع هام بالمجلس. عودة كاهانا أشارت تقارير رسمية وصحفية مؤخراً إلي أن بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل يشجع ويساند حالياً حزبا سياسيا محدوداً يعتنق الافكار المتطرفة التي نشرها مائير كاهانا والتي تدعو إلي العنف والكراهية ضد العرب والشعب الفلسطيني بصفة خاصة. وأوضحت تلك التقارير أن نتنياهو كان يهدف الي كسب اصوات تلك الجماعة المتطرفة لمساندته في الانتخابات الاسرائيلية - التي جرت مؤخرا - أن مصلحة رئيس وزراء اسرائيل تحتل حالياً مقدمة قضايا بلاده. وعندما قرأت خبر ظهور نشاط انصار كاهانا عادت بي الذاكرة إلي عام 1984 وكنت اتولي في هذا العام رئاسة جمعية مراسلي الاممالمتحدة ونظراً لنشاط هذه الجمعية التي تضم ما يقرب من 300 من الصحفيين الذين يمثلون كافة دول العالم فقد كان الاقبال علي طلب عقد ندوات ومناظرات في الجمعية كبيراً.. وقد شهدت الجمعية لقاءات مع عدد كبير من القيادات السياسية من مختلف انحاء العالم. ولم يكن غريباً أن يطلب مائير كاهانا الحضور للقاء الصحفيين وبطبيعة الحال لم أرفض حتي لا أتهم بالعنصرية... ولكنني لم أتصور جلوسي إلي جانب هذا المتطرف الذي يصف كافة العرب بأنهم حشرات لابد من القضاء عليهم.. وطلبت من نائبي وهو أمريكي ان يتولي تنظيم الندوة بدلاً عني.. ولم أعبأ بالشكوي التي بعث بها كاهانا إلي إدارة الإعلام بالأمم المتحدة ولم أكن اتصور أن هذه الواقعة ستكون آخر ما سأسمعه عن كاهانا وهو أمريكي إسرائيلي انشأ جماعة الدفاع الإسرائيلية المتطرفة. وبعد ثلاثة اسابيع وكنت في طريق العودة من تورنتو إلي الولاياتالمتحدة في العاشرة مساء عندما قطع الارسال الإذاعي ليعلن أن كاهانا قد قتل بالرصاص وأن من اطلق الرصاص تمكن من الفرار ولكنه اصيب بطلق ناري وهو في مواجهة مع شرطة البريد. ورددت جميع وسائل الاعلام خبر مقتل كاهانا دون مزيد من التفاصيل. ونظراً لطول المسافة بين تورنتو في كندا ومسكني بولاية نيوجرسي فقد بادرت بالنوم علي أن استيقظ لمتابعة ما جري بعد ساعتين من الراحة بعد أن قضيت عشر ساعات في قيادة سيارتي.. وكانت المفاجأة أن دق تليفون المنزل وكان المتحدث يتحدث بقوة ويسأل: هل هذا منزل نصير؟ وبادرت بالسؤال عن شخصية المتحدث وعندما عرفت أنه مراسل وكالة الاسوشيتدبرس بالأمم المتحدة ضحكت وقلت له: أنا ثناء يوسف.. فقال: »هل زوجك يحمل اسم نصير..». وقال: »إنك حالياً في ورطة أن قاتل كاهانا اسمه: »السيد نصير»... وحاولت أن أعرف بعض التفاصيل من الزميل الصحفي وبعد ذلك اتصلت بالشرطة لضمان حماية الاسرة من أي عنصر متشدد قد يلجأ إلي الانتقام لتشابه الاسماء.. ولم تتأخر الشرطة عن فرض مراقبة دقيقة... وتوالت التحقيقات وأعلن أن المشتبه في قتل كاهانا مصري الجنسية وازداد اهتمامي بالقضية بل لقد ذهبت مع المحامي الامريكي الذي كلف بالدفاع عنه إلي السجن لزيارته وعرفت أنه من مدينة بورسعيد وأنه شارك في عمليات فدائية في سيناء... ولكنه بطبيعة الحال رفض الاعتراف بقتل كاهانا وفي تلك الفترة تعرفت علي بعض اقارب السيد نصير ومنهم ابراهيم الجبروني وهو ابن خالته الذي كان سعيداً باهتمامي بقضية نصير وبالتقرير والصور التي نشرت بمجلة آخر ساعة. وكلفت اسرته أحد المحامين المعروفين بالقاهرة لحضور المحاكمة.. المهم أن الحكم صدر بحبس السيد نصير مدي الحياة.. ولم تمض فترة طويلة حتي وقع أول حادث لتدمير مركز التجارة العالمي في نيويورك وكان في مقدمة المتهمين الشيخ عمر عبدالرحمن... وبطبيعة الحال اصبح حضوري لجلسات المحكمة أمراً روتينيا.. ومازلت أذكر إنني كنت أجلس بالصف الأول في المحكمة وهو المكان المخصص لممثلي وسائل الاعلام وكان مراسل جريدة النيويورك تايمز وهو صديق يجلس إلي جانبي... وعندما تم استدعاء المتهمين وكان بينهم ابراهيم الجبروني ابن خالة السيدنصير التفت الجبروني ورفع يديه بالتحية لي قائلاً: »اهلا..» ولم يتردد زميلي مراسل النيويورك تايمز عن القول: »ثناء.. انني لم أكن اعرف أنك صديقة الارهابيين»!