في الأممالمتحدة يتعامل الصحفي مع المشاكل العالمية عن قرب ويستوعب جميع جوانبها وإذا كان أسلوب التعامل الدولي مع التحديات العالمية قد اختلف مع مرور الزمن فان الأممالمتحدة تبقي دائماً هي المنبر الذي تلجأ إليه كل دولة مهما كانت أهميتها.. ومخالفة ما يفرزه هذا المنبر أو عدم الاهتمام بما يصدر عنه من قرارات لا يعني أنها لاغية حيث إنها تظل دائماً هي السجل التاريخي. وفي الأممالمتحدة يعمل مندوبو الصحف والإعلام عن قرب من ممثلي الدول علي جميع المستويات وكلما انغمس المراسل الصحفي في متابعة ونقل المشاكل كلما زاد تعامله مع ممثلي الدول وتتحول عملية البحث عن الخبر إلي نوع من الصداقة. وتجربة نقل الخبر وتداعياته من خلال الجلسات التي تعقد في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة أو المؤتمرات الصحفية لا تعادل تجربة مواكبة الخبر.. وقد عشت هذه التجربة عندما كنت أتابع عن قرب تعامل كوفي عنان سكرتير عام الأممالمتحدة السابق لقضايا منطقة الشرق الأوسط.. ومازلت حتي اليوم احتفظ بذكريات جولتين قام بهما كوفي عنان في دول منطقتنا وكنت ضمن خمسة صحفيين من مختلف أنحاء العالم وقع الاختيار عليهم لمصاحبة السكرتير العام علي متن الطائرة التي خصصت للجولة.. بالمناسبة لا توجد طائرة خاصة لسكرتير عام الأممالمتحدة كما هو الحال بالنسبة لرؤساء الدول وبالتالي يتم استئجار طائرة لهذا الغرض وفي بعض الأحيان تقوم دولة أو أخري بتقديم طائرة تخصص لهذا الغرض. وأما عن مرافقة الرئيس الأمريكي في جولة بالشرق الأوسط فتتم وفقاً لشروط يضعها البيت الأبيض لركوب الطائرة الأولي مع الرئيس.. وقد عرض علي مرة ركوب هذه الطائرة في عهد الرئيس الأسبق إلا أنني اعتذرت حيث كان رسم المشاركة ثلاثة آلاف دولار. وعادة ما يجلس الصحفيون في الجزء الخلفي من طائرة الرئيس الذي قلما يتوجه إلي منطقة جلوس الصحفيين لتبادل بعض الكلمات أو الرد علي بعض الأسئلة.. أي أن المهمة تصبح مجرد تذكار. أما السفر علي طائرة السكرتير العام فهو أمر مختلف تماماً حيث تطلب سكرتارية الأممالمتحدة من الوفد الصحفي الذي يقع عليه الاختيار بالتواجد في توقيت محدد إما بمطار هيثرو في لندن أو في مطار جنيف ومن نقطة اللقاء يستقل الوفد الصحفي طائرة السكرتير العام ويرافقه في كل مكان. ولا يوجد أي فاصل فيما بين جلوس السكرتير العام والوفد الصحفي وبالتالي فانه يتجول للحديث مع أعضاء الوفد المرافق.. ومازلت حتي اليوم أذكر كيف جاء إليّ حيث أجلس إلي جانب الأستاذة نادية يونس التي كانت تشغل في ذلك الوقت منصب المتحدثة باسم السكرتير العام وكنا نضحك وذلك بعد أن ألقيت عليها نكتة سمعتها من أحد الزملاء بالقاهرة.. وقال السكرتير العام : أريد أن أضحك مثلكما. وهنا قالت نادية كيف ستترجمين هذه النكتة التي تعتمد علي اللعب بالكلمات.. والمهم أنني بمشقة استطعت أن أنقل معني الكلمات للسكرتير العام. وسأحاول فيما يلي تلخيص ما جري في الجولة الأولي والتي تمت في شهر يونية من عام 2000 وشملت هذه الجولة زيارة 8 دول خلال 12 يوماً.. وبالمناسبة لم يكن هناك اتصال للإرسال عبر الكمبيوتر وكان عليّ أن أعد رسائلي وأرسلها عبر الفاكس كلما سنحت الفرصة مع الوضع في الاعتبار ساعات الطيران فيما بين الدول التي شملتها الجولة. وكان الهدف الرئيسي لهذه الجولة التي تمت بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان توجيه الشكر للدول التي ساندت عملية الانتقال السلمي في لبنان والتفاوض حول امكانية دعم السلام. ومن لندن توجهت طائرة كوفي عنان إلي المغرب حيث التقي بالملك محمد السادس ثم حضر حفل غداء أقيم علي شرفه حيث قام كوفي عنان بتقديم الوفد الصحفي المرافق له للملك وتم التقاط صورة تذكارية لكل واحد منا مع الملك وبعد ساعات قليلة قام مصور القصر بتسليم الصور قبل أن نغادر المغرب إلي إيران. ولم تكن هذه هي الصورة الأولي لي مع جلالة الملك حيث إنني مازلت احتفظ بصورة لقاء صحفي لي مع والده الراحل الملك الحسن وكان ولي العهد وشقيقه الأصغر يجلسان علي جانب المائدة لمتابعة الحديث.. وكانت هذه الصورة في عام 1984 عندما كنت في زيارة المغرب لمتابعة الحرب الجزائرية المغربية في منطقة العيون.. وبعد طعام الغداء وفي رحلة بالسيارة انتقل السكرتير العام من الرباط إلي الدار البيضاء للاجتماع بالعاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود الذي كان يشغل منصب ولي العهد في ذلك الوقت وحيث كان يقضي اجازة بالقصر الذي يمتلكه في الدار البيضاء.. وكان دخول هذا القصر المكيف بالنسبة لنا جميعاً أشبه بدخول الجنة نظراً لحرارة الجو في الخارج.. وكان علينا بعد هذا اليوم الشاق أن نستغرق في النوم حيث كانت المحطة القادمة هي طهران.. وفي لقاء عنان مع وزير خارجية إيران ثم مع الرئيس الإيراني محمد خاتمي كان الحديث عن استمرار تدخل إسرائيل في الشئون اللبنانية وهو بطبيعة الحال المواجهة بين إسرائيل وحزب الله.. ولابد لي أن أذكر هنا أنني عملت بالنصيحة وارتديت بالطو طويلا ووضعت غطاء علي رأسي حتي لا أتعرض لأي مضايقة. ومن طهران توجهت الطائرة إلي القاهرة حيث أجري كوفي عنان محادثات مع عمرو موسي تناولت الوضع في لبنان خاصة علي ضوء قيام مجلس الأمن بالاستعداد لإصدار قرار حول انسحاب إسرائيل من لبنان.. وفي صباح اليوم التالي كان هناك اجتماع بين كوفي عنان والرئيس حسني مبارك قبل التوجه إلي المحطة التالية في هذه الجولة وهي لبنان.. وكانت الاجتماعات التي عقدت بين السكرتير العام وبين جميع الفصائل في لبنان متنوعة وعلي الرغم من أهمية الاجتماع الذي عقد بقصر الرئاسة مع الرئيس اللبناني أميل لحود ورئيس الوزراء سليم الحصي فان اجتماع السكرتير العام مع الشيخ حسن نصر الله رئيس حزب الله مازال في ذاكرتي.. حيث توجهنا جميعاً إلي المقاطعة وكانت المفاجأة أن نصر الله الذي لم يكن قد شكل حزبه السياسي في ذلك الوقت أحاط المنطقة التي يقيم بها مع أنصاره بأسوار عالية من الحديد.. وكما جرت العادة فان الاجتماع يعقد بحضور السكرتير العام ومساعديه ثم يسمح بدخول الوفد الصحفي المرافق وكان الجو في لبنان سياسياً غير مستقر حيث سيتم تفتيش كل زائر بدقة ولا يسمح بآلات التصوير أو التسجيل.. والحقيقة أنني علي الرغم من الضجة المحيطة بالشيخ نصر الله فقد لمست فيه ذكاء واضحاً. ومن لبنان اتجهنا إلي الأردن حيث كان أول اجتماع في قصر الملك عبدالله عاهل الأردن وبنفس التقليد صافح الملك الوفد الصحفي ودعاه لتناول القهوة في قصره الأنيق.. وقد خصص باقي اليوم لزيارة منطقة باترا الأثرية بعد أن كلف العاهل الأردني طائرتين من السلاح الجوي بنقل السكرتير العام ومرافقيه لمشاهدة المنطقة وهي منطقة رائعة الجمال وهي من التراث الحضاري العالمي الذي تخضع لعناية منظمة اليونسكو.. وقبل مغادرة هذا المكان الرائع اتجهنا إلي الكافيتريا المجاورة لتناول بعض المشروبات.. وكانت المفاجأة وهي قيام زميلة وصديقة صحفية من أصل إيراني وتعمل مراسلة لجريدة »لوموند» الفرنسية وتدعي إنصافي بخلع ملابسها وتلقي نفسها في بحيرة صغيرة إلي جانب الكافيتريا.. ولم نكن جميعاً نعرف أنها ترتدي مايوه تحت ملابسها.. واثار تصرفها نوبة من الضحك وتساءل البعض هل هناك من مشجع أو مرافق؟! وشملت الجولة بعد ذلك زيارة سوريا حيث نقلت طائرات حفظ السلام السكرتير العام ومرافقيه إلي هضبة الجولان حيث توجد قوات حفظ السلام الدولية بين إسرائيل وسوريا ونحن الآن بطبيعة الحال لا نسمع عن هضبة الجولان أو حتي عن مزارع شبعا التي كانت موضع خلاف فيما بين سورياولبنان وقد اختفت هذه المشاكل حيث أصبحت مشكلة سوريا الآن هي البقاء. الجولة الثانية وكانت الجولة الثانية التي صحبت فيها السكرتير العام تستهدف جمع الشمل والاتفاق فيما بين دول منطقة الشرق الأوسط من أجل تنفيذ »اتفاق ميتشل» الذي تم بمشاركة الولاياتالمتحدة ودول المنطقة الفاعلة وفي مقدمتها مصر من أجل ايجاد حل للقضية الفلسطينية.. وكانت هذه الجولة في شهر يونيه من عام 2001 وقبل الغزو الامريكي للعراق بأكثر من عامين.. وكانت هذه الجولة تركز علي الايجابيات وكان كوفي عنان يري أن الفرصة متاحة للسلام ولابد من اقتناصها وكانت القاهرة هي المحطة الأولي نظرا لدورها المحوري في وضع اتفاق أمني فيما بين إسرائيل والجانب الفلسطيني وبعد سلسلة من المناقشات المكثفة حول كيفية تفعيل اتفاق ميتشل لجعله إطارا للتسوية السلمية اتجه السكرتير العام ووفده إلي سوريا.. ومازالت زيارة الجامع الأموي والانتقال منه إلي الساحة ومنها إلي سوق الحميدية والاستقبال الشعبي الحافل والعفوي من جانب الشعب السوري لكوفي عنان نظرا لقيامه بالعديد من الاتصالات لتأمين سوريا وتنظيم قيام العراق ببيع البترول لسوريا وراء اهتمامهم باستقباله والهتاف بحياته.. وأنا حاليا كلما رأيت ما حل بسوريا من دمار ومعاناة الشعب السوري وتشريده أتذكر هذا المشهد وتعود الذاكرة إلي غزو العراق وماجلبه من تخريب وتدمير لمنطقة الشرق الأوسط.. وهناك كلمة انصاف لابد أن أقولها في حق كوفي عنان لأنه أول من وصف الهجوم علي العراق بأنه »غزو» وكان هذا في جلسة مجلس الأمن عندما سعت واشنطون إلي الحصول علي اعتماد المجلس لبدء الحرب. وفي هذه الزيارة الثانية ووسط المحادثات كانت هناك زيارة للبنان ومازلت حتي اليوم احتفظ ببطاقة دعوة العشاء الموجهة لي من رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري رحمه الله.. ولما كانت هذه الجولة تركز علي عملية السلام فقد شملت الزيارة، زيارة رام الله حيث القيادة الفلسطينية وكنت في طريق ذهابي من نيويورك إلي لندن لألحق بالوفد الصحفي المرافق للسكرتير العام قد التقيت في الطائرة بالسفير ناصر القدوة الذي كان يشغل منصب مندوب فلسطينبالأممالمتحدة وهو بالمناسبة ابن شقيقةالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.. وقد توقف السكرتير العام وبصحبته الرئيس عرفات لتحية الوفد الصحفي المرافق بعد تناول طعام الغداء مع القيادات الفلسطينية وقال عنان للرئيس عرفات: اعتقد أنك قد تريد الحديث مع ثناء يوسف التي تمثل أكبر صحيفة عربية قبل سفرك غدا إلي مصر.. ولم اكن اعتقد أن لقاء صحفيا لجريدة أخبار اليوم مع الزعيم الفلسطيني يمكن أن يتم بهذه السرعة. وفي العاشرة مساء كان هناك من يطرق عليّ باب حجرتي في الفندق وتقدم شاب مهذب ليقول: لقد حضرت لمرافقتك للقاء الرئيس عرفات.. وبالفعل ذهبت ومعي زميلة لبنانية شابة كانت تعمل لجريدة الشرق الأوسط إلي منزل الرئيس عرفات وهو منزل بسيط للغاية حيث استقبلتنا زوجته الفاضلة وبعد قليل حضر السفير ناصر القدوة والأستاذ صائب عريقات ثم ما لبث الرئيس الفلسطيني أن حضر.. وكان كريما للغاية وهو يتحدث عن مصر وأهلها وكيف أنه يقدر تضحيات شعب مصر وكرمه تجاه الشعب الفلسطيني.. وعندما سألني الرئيس عرفات عن الحي الذي كنت اعيش به في القاهرة وقلت: مصر الجديدة ضحك وقال لقد قضيت سنوات بهذا الحي عندما كنت ادرس بكلية الهندسة وعندما انتهي الحديث الصحفي بادرت لطلب القاهرة حتي أقوم بنقله لجريدة »أخبار اليوم» لينشر بعد ساعات من وصول الرئيس عرفات للقاء رئيس مصر.. مع مون في الرياض وفي عام 2007 وبعد تولي السكرتير العام الجديد بان كي مون لمهام منصبه بثلاثة أشهر أخطرت بأنني سأكون ضمن الوفد الصحفي المرافق له لحضور مؤتمر القمة العربية في الرياض ثم القيام بجولة في منطقة الشرق الأوسط.. ويجدر بالإشارة هنا أن أيا من الوفود الصحفية المحدودة العدد التي يتم توجيه الدعوة لها من قبل الأممالمتحدة للقيام بزيارة دول الشرق الأوسط لم تشمل في أي وقت من الاوقات أي صحفي يحمل الجنسية الإسرائيلية.. وكانت هناك مفاجأة فقبل بداية الجولة وفي مطار هيثرو بالعاصمة البريطانية علمنا بانضمام صحفية من جريدة ايدعوت احرونت الاسرائيلية للوفد.. ودهشت كيف حصلت هذه الصحفية علي موافقة لحضور قمة عربية تعقد بالرياض.. المهم ان الوفد علم بأن السكرتير العام قد تدخل شخصيا للسماح لها بالحضور وأن هذا الأمر تم في آخر لحظة. وقد كانت هذه القمة قمة صاخبة حاول السكرتير العام أن يلعب دور الوسيط للتوصل إلي اتفاق للرؤي حول الخلافات والتقي السكرتير العام بالعاهل السعودي بطبيعة الحال، كما التقي بالرئيس السوري بشار الأسد وبالرئيس الصومالي وكان الوقوف ببهو القصر الذي عقدت به القمة أمرا مثيرا للاهتمام فالحضور جميعا من الشخصيات والقيادات العربية البارزة.. وقبل مغادرة الرياض اجتمع السكرتير العام بمانوشر متقي وزير خارجية إيران حيث ناقش معه البرنامج النووي الإيراني وطالبه بضرورة اطلاق سراح 15 من أفراد البحرية البريطانية كانت طهران قد اعتقلتهم.. ولما كنا كوفد صحفي مرافق علي طائرة السكرتير العام إلي لبنان فقد تم إخطار مسئول تنظيم الرحلة أن بيروت ودمشق ترفضان استقبال الصحفية الإسرائيلية وبالتالي لابد من عودتها إلي لندن.. وقد تم ذلك بالفعل.. وفي هذه الفترة كانت الأمور متوترة وعندما وصلنا إلي بيروت تم حجز فندق بعيد عن طريق الرئيس ووضعت حراسة مشددة عليه وتم التنبيه بعدم مغادرة الغرف إلا وفقا للمواعيد المحددة.. وتم تسكين الوفد الرسمي والوفد الصحفي المرافق في جناح واحد لضمان الأمن بل كانت اللقاءات الرسمية والصحفية تعقد بالفندق لتفادي الخروج.. ومازلت أذكر حضور ميشيل عون الذي كان يرأس البرلمان في ذلك الوقت وكذلك النائب سعد الحريري وغيرهما من الشخصيات السياسية للاجتماع بالسكرتير العام وإلقاء مزيد من الضوء علي تطورات الموقف اللبناني الملتهب خاصة بعد مقتل رئيس الوزراء رفيق الحريري.. وكانت هذه الزيارة للبنان أشبه بالبقاء في معتقل وربما أراد بان كي مون سكرتير عام الأممالمتحدة أن يضفي بعض البهجة ويخفف من معاناة الوفد الرسمي المرافق له وكذلك الوفد الصحفي وكان ذلك اثناء حفل عشاء أقامه قبل مغادرة بيروت حيث لم يتردد في مشاركة بعض أفراد الفرقة الموسيقية المحدودة في رقصة الدبكة اللبنانية.!