تذهب إليه الجوائز مثل نجمات تهبط عليه من السماء. خلال مشواره الأدبي حصد ممدوح عبدالستار (59 عاماً) ثلاث عشرة جائزة مصرية وعربية، وارتبطت حكاياته المروية في قصصه ورواياته وأعماله المسرحية بعالم القرية التي يقيم فيها وتعيش في وجدانه منذ ولادته. يكفي أن تقرأ له عملاً واحداً ليختطفك إلي دنياه الساحرة، فتجد نفسك قارئاً مسلوب الإرادة في رحلة بحث مستمرة عن باقي أعماله الأدبية، لتصل إلي أحدث محطة حط فيها ركاب إبداعه: روايته الجديدة »جواز سفر»، الصادرة أخيراً عن دار »ديير للنشر والتوزيع». وتحمل الرواية معني فلسفياً، فهي رحلة لمعرفة الذات والآخر، ومن أجوائها في رحاب القرية المصرية انطلق حواري معه. القرية ملهمة لك في الكثير من أعمالك ويبدو ذلك حتي في أحدث رواياتك »جواز سفر». ما السبب؟ لم أبرح مكاني، منذ ولادتي. كانت بلدتي »الدلجمون» بمحافظة الغربية بكراً، لم تفض بكارتها، وكانت في مرحلة مخاض، وتغيير كبير، وقد لاحظت ذلك، وشربت كل التغيرات، وخزنت سلوك أهل قريتي، وحكاياتهم. هذا ما جعلني متمسكاً بالمكوث فيها حتي الآن، فالمكان لديّ له رائحة خاصة، تخرج مني مرغماً في كل أعمالي، حتي أن كثيراً من النقاد والأصدقاء مازحوني بأنهم يعرفون قريتي من واقع روايتي »أوراق ميت»، كما فعل ماركيز في »مائة عام من العزلة». وظفت الأسطورة في أعمال سابقة مثل روايتك »منامة الشيخ»، هل ثمة تفاصيل مماثلة في »جواز سفر»؟ الأسطورة هي التأويل المستمر لحكاية ما، لا يحدها الزمن، وتكون رمزاً صالحاً لكل زمن، وكأنها خلود الحكاية. »منامة الشيخ» لم تنهل من الأسطورة، بل استلهمت كل الخرافات التي نصنعها، ونمجدها، وجعلتها صالحة لكل وقت، مثل الأسطورة. هي ضد الزمن. طازجة في كل وقت، كأنها مكتوبة الآن. ورواية »جواز سفر» تنهل من نفس المنهل، لكنها بشكل عصري، وحداثي، لها من التأويل الكثير، ف »جواز سفر» هي الموافقة علي الخروج من الوطن، سواء رحلة إرادية، أو جبرية، أو هي رحلة لمعرفة الذات، أو معرفة الآخر. إنها غُربة في الوطن، وغُربة في النفس، والغريب أعمي ولو كان بصيراً. كل منا يحمل جواز سفره، منا المقيم، ومنا المهاجر. الجميع يبحث عن تحرره من قيود هذا العالم، بلغة عصرية لا تستخدم المجاز الكثير، هذه روايتك، وروايتي، وحكايتي وحكايتك. أنا والآخر معاً نملك جواز سفر. وفي كل زمن يملك البشر جواز سفر حقيقي، أو روحي، فالعالم ثابت، ونحن نرتحل بحب، أو معاناة. نلت العديد من الجوائز المصرية والعربية. ماذا تمثل الجوائز بالنسبة إليك؟ حصدت 13 جائزة مصرية وعربية، أبرزها جائزة سعاد الصباح في القصة القصيرة عام 1988، وجائزة سعاد الصباح في الرواية عام 1989، وجائزة محمد تيمور المسرحية عام 1995، وجائزة الثقافة الجماهيرية في الرواية عام 1996، وجائزة إحسان عبدالقدوس في الرواية 2006، وجائزة نادي القصة بالقاهرة في الرواية لعام 2007. الجائزة لها حياة، وحكايات معي، من منا لا يحب الجائزة، سواء كان صغيراً، أو كبيراً. في البدايات، تعطي الجائزة دفعة قوية للكاتب، للدوران في فلك الكتابة، وتجعله يثق في قدراته الذاتية، ثم يصبح كاتباً بفعل الجائزة، لكن إذا استمر بالكتابة، وطوّر نفسه، ونجح في أن يكون مختلفاً، ومتمرداً علي كل ما هو ثابت، سيصبح كاتباً حقيقياً، ولن تغريه الجائزة بعد ذلك، لأنه استنفد طاقتها، ويريد أن يكون مقروءاً بشكل جيد. الجائزة الآن بالنسبة لي هي: مبلغ مالي يعينني علي الحياة الصعبة، ويجعلني متفرغاً لبعض الوقت لعمل أدبي يعيش بداخلي، ولا أستطيع إخراجه لظروف المعيشة، وتلقي بعض الضوء علي العمل. ما الجائزة الكبري التي تحلم أن تتوج بها مشوارك الأدبي؟ أمنيتي أن أحصل علي جائزة توسع من قاعدة قرائي، ولم يتبق لي غير الحصول علي جائزة البوكر العربية، وجائزة الشيخ زايد، لكن أمنيتي أن أجد كتبي مترجمة بشكل واسع، هذه جائزتي الكبري التي أتمناها. عملت لفترة في القوات المسلحة، لماذا لم تفكر في كتابة عمل أدبي عن أبطال الجيش المصري الذين يخوضون حرباً ضد جماعات الإرهاب؟ العمل بالقوات المسلحة يسلحني بالشجاعة، والمواجهة، لكن الكتابة عن بطولات الجيش المصري يحتاج إلي رواية ملحمية، وإلي كمية معلومات غير متوافرة لديّ كفرد، لكن لو تم تكليف بعض الكُتاب بعمل أدبي ما عن الجيش المصري، وتتوافر لهم كل المعلومات، والإمكانيات، يمكن أن يخرج عمل أدبي فذ. حتي الآن لم يخرج عمل أدبي عن حرب أكتوبر، لأن الحرب بشر، وأفكار، وأرض، وصراع. لكن إذا مسني فعل ما، أو عرفته بشكل شخصي يمكن أن أعيش الرواية مع أصحابها علي الورق مرة أخري، وأتمني ذلك. لك رصيد سابق مع القصة القصيرة، فهل ستصدر لك أي مجموعة قصصية قريباً؟ القصة القصيرة غير مرحب بها في دور النشر، لهوس الناشرين بالرواية، علي الرغم من أن القصة القصيرة تناسب تماماً الحياة العصرية التي نحياها. والآن بدأت دور النشر علي مضض نشر المجموعات القصصية. ربما لكسر الجمود، أو للتنوع، أو المغايرة، لكنني بفضل الله وعونه قد عرفني القراء، والنقاد أنني كاتب قصة جيد، وحينما تسلمت جائزة سعاد الصباح في القصة القصيرة عام 1988 هرول إليّ الدكتور محمد برادة، وضمني إلي صدره، وشجعني علي الاستمرار، وكانت جائزتي مضاعفة. وحينما أردت نشر مجموعة قصصية أخبرت ناشراً من تونس برغبتي في ذلك، ولحسن حظي وجدته متابعاً لأعمالي القصصية، ووقعت العقد، ورسم غلاف المجموعة، وسوف تصدر قريباً، وأتمني أن تحوز رضا القراء، والنقاد مثل بدايتي. اتجهت مؤخراً إلي إصدار أعمال جديدة في دور نشر خارج حدود مصر، حدثنا عن هذه التجربة؟ أغلب دور النشر المصرية الخاصة تتحصل من الكاتب علي ثمن طباعة الكتاب، إنها تستنزف الكاتب مادياً، ومعنوياً، حتي الدعاية لا يقومون بها. وبما أنني متابع جيد لحال الثقافة المصرية والعربية، ومتابع لدور النشر أيضاً، فخاطبت أكثر من دار عربية، وأصدرت رواية »أوراق ميت» طبعة ثالثة بدار مداد في الإمارات العربية، والحقيقة أن دور النشر العربية لها تأثير جيد علي الثقافة بوجه عام. ثم أنني أود أن تتسع رقعة قرائي بأي شكل ممكن، فكان لابد من التعامل مع دور النشر العربية، وخصوصاً في الإمارات العربية التي تتعامل باحترافية وجدية ولا ينقصها سوي الدعاية الحقيقية للكتاب وتوزيعه بشكل قوي في كل أرض الضاد، وأنا سعيد بالتعامل معهم، وهي تجربة مفيدة بالنسبة إليّ. رغم أنك كتبت للمسرح من قبل إلا أن السنوات الأخيرة لم تشهد صدور أعمال مسرحية جديدة تحمل توقيعك، لماذا؟ المسرح أصبح مشكلة كبيرة بالنسبة للكتَّاب، بعدما أصبح المسرح للضحك، والأفيهات المكرورة. لقد اعترضنا قديماً علي فكرة الفن للفن، أو الجمهور عاوز كده. لقد ارتبط المسرح بالقضايا الكبري لكل الأمم الحديثة، وأيام تحررنا. والمشكلة الحقيقية في إنتاج النصوص المسرحية، فلا يستطيع مخرج أن ينتج نصاً مسرحياً جيداً، وجديداً لكاتب ما. الكل مساهم بشكل ما في تردي الحالة المسرحية. والكل مبسوط من هذه الحالة الثابتة، فكيف لي أن أنشر نصاً مسرحياً لن يتم إنتاجه، أو قراءته. ورغم ذلك، لدي مسرحية للكبار، وأخري للصغار، أتمني أن أجد لهما ناشراً. اللغة أم التكنيك، أيهما يشغل بالك أكثر أثناء كتابة أي نص جديد؟ حينما تلبسني شخصية الكاتب، ذلك الكائن الليلي. أعيش مع النور الشحيح الذي يتساقط من شباك الليل، ومع إعادة مشاهد يومي، الذي مضي مرغماً عني، وعن الحياة، رغم أنني أشتاق لأول النهار، وبزوغ الشمس عنوة من مرقد الظلام، وأُذني تود سماع صخب الباعة، ورنّة الأقدام المتسارعة، وهي تخبط الأرض بقوة. ناهيك عن زقزقة العصافير، وهديل الحمام. وأنفي المزكوم من برد الليل، يتمني- ولو مرة واحدة- اشتمام الندي علي الأشجار، وأريج الزهور والمحاصيل المزروعة أيّاً كانت. وفمي يحاول تذوق الكلمات الصباحية دون تكلّف، أو افتعال، يحاول أن يصنع جسراً مع الحركة اليومية، ويشتاق لطبق الفول والبصل الأخضر علي العربة المكشوفة لعين الناس. أنا الآن غاضب جداً، ورغم ذلك فإنني مبتسم ابتسامة شحيحة، مثل النجوم التي تبخل بضيائها في هذا الوقت. الكون أيضاً يحاصرني، ويتفاعل مع حالتي. حتي أنت أيها الكون الصامت! هل يمكن أن أكون مبتسماً، وراضياً بعض الشيء مع غضبي من الحياة، ومن نفسي، ومن ذلك الجسد الذي يكبلني؟! أعتقد أنها حالة لا ترضي الجميع من البشر، وغير معقولة. الآن، أريد أن أكتب. ماذا أكتب؟. الغضب يُكبلني؛ لأنني حاولتُ أن أستعيد يومي، ووجدته يوماً رتيباً، ومملاً، ليس فيه ما يحفزني للفرح الذي أنشده. لكن- للأسف - كان يوماً عادياً. هذا هو غضبي. ومن أين تلك الابتسامة التي أتتْ إليّ شحيحة. لقد أتتْ من ليلي، والعالم من حولي ساكن، أو ميت، وأنا الوحيد الحيّ في تلك اللحظة النادرة. في النهاية، العمل هو الذي يكتبني. كيف تري مستوي الحركة النقدية حالياً، وهل تراها مواكبة للمنتج الأدبي أم ثمة تراجع؟ لا توجد حركة نقدية مواكبة للمنتج الأدبي كلياً، لكن ثمة أفراد. كلٌ علي حسب طاقته. هذا الضعف النقدي جعل الميديا هي العامل المؤثر الآن، فتجد كُتّاباً يعرفون الميديا أكثر من الإبداع، حتي أنهم لم يطلعوا علي أجيال سابقة لهم عربياً، أو مصرياً، أو عالمياً. إنهم كتاب بلا أساتذة، فقط لهم جمهور في الميديا، هؤلاء هم الكتاب الذين يحظون بالشهرة، والتي تبحث عنهم دور النشر، حتي الجوائز تبحث عنهم. من فعل هذا في الحقيقة، وتم رفع الأدني إلي الأعلي، عدم الفرز، وعدم اشتغال الحركة النقدية بمهمتها، لكن رغم ذلك، توجد حركة نقدية في المغرب العربي، أنا شخصياً أراهن عليها منذ وقت طويل. النقد موجود في الجامعات، وفي نوادي الأدب، وفي كل ملتقي. ظاهرة اتجاه عدد كبير جداً من المؤلفين إلي الرواية، بمن فيهم أصحاب التجارب الأولي، كيف تراها؟ حينما حصل نجيب محفوظ علي جائزة نوبل، حينها أطلق الدكتور جابر عصفور مقولة: »زمن الرواية»، بعدها اتجه الجميع إلي الرواية، ليس حباً فيها، لكنها تجربة جديدة يحاول أن يكون له فيها دوراً. حتي أن الشعراء تركوا الشعر واتجهوا إلي الرواية، وبعض النقاد أيضاً. هذه الحالة السائلة، جعلت المؤسسات الثقافية الخاصة والحكومية تهتم بالرواية فقط. بعدها، أجبر الجميع علي ترك ما يحبه، ليواكب موضة الرواية. وأصبحت الروايات كثيرة في رفوف المكتبات. لا نستطيع شراء كمية هذه الروايات حتي لو كانت جيدة، ولا نستطيع قراءة هذا الكم منها، فكيف يستطيع ناقد النفاذ إلي الجيد منها. وتقوقع النقاد علي شلتهم، وأحبابهم، ومن ينضم لهم كرهاً، طمعاً في مقالة نقدية مدفوعة الأجر مقدماً. لكن في النهاية، ستعيش الرواية الجيدة رغم حصارها، ورغم الجميع.