في نهاية ثمانينات القرن الماضي أنتج التليفزيون المصري مسلسلا مبدعا للعبقري الراحل أسامة أنور عكاشة، وهو مسلسل »الراية البيضا»، كان المسلسل يجسد صراع الثقافة والجمال في مواجهة القبح والعشوائية، ممثلا في المعركة بين السفير مفيد أبو الغار (جميل راتب)، والمعلمة فضة المعداوي (سناء جميل). هذا المسلسل وبعد أكثر من ثلاثين عاما علي إنتاجه يتكرر في واحدة من أجمل المدن المصرية الجديدة، وهي مدينة الشيخ زايد، التي ما إن تزينت واستكملت بهاءها أو كادت، حتي زحفت إليها »فضة المعداوي»، وهذه المرة بموافقة وعلم ومباركة الحكومة ورئيس وزرائها، وهو وللغرابة أحد سكان المدينة ويدرك أفضل من أي شخص قيمة المدينة وطابعها المعماري، وكان طوال شغله لمقعد وزير الإسكان حريصا علي الالتزام بأقصي ضوابط البناء بالمدينة للحفاظ علي طابعها المعماري الهادئ. هذه الهجمة »المعداوية» الجديدة علي الشيخ زايد تمثلت في موافقة الحكومة لأحد كبار رجال الأعمال ببناء مجموعة من الأبراج في قلب المدينة، بما تتضمنه تلك الأبراج من فنادق ومقاهٍ ومحال تجارية وخلافه، وبما يخالف الطابع المعماري المتبع داخل المدينة التي لا يزيد أعلي ارتفاع بها عن أربعة أدوار فوق الأرضي، ورغم إصدار وزارة الإسكان لبيان حاولت فيها طمأنة السكان الذين تملكهم الغضب عن حق، إلا أنها استخدمت لغة »خشبية» لا تحمل أي تجاوب حقيقي مع مخاوف الأهالي للحفاظ علي المدينة التي كان ينبغي أن تكون الوزارة أشد حرصا عليها من السكان. والأغرب أن الوزارة التي تدافع عن قرارها »المريب» وتبدي تحديا لمشاعر واعتراضات السكان، تشير إلي أن تلك الأبراج التي سيتجاوز عدد أدوارها العشرين لا تمثل مخالفة للطابع المعماري، بل هي ضمن مخططات المدينة، فأين كانت تلك المخططات عندما ظهرت المدينة إلي النور؟ ولماذا انتظرت الوزارة كل تلك السنوات لتمنح التراخيص بعدما استكملت المدينة رونقها وزينتها؟! وألا يعد ذلك نوعا من »تسقيع» الأراضي الذي تجرمه الحكومة علي الأفراد، بينما تبرره لنفسها وتسهله لبعض رجال الأعمال؟!! والمدهش في الأمر أيضا أن ذلك الإصرار الغريب علي تنفيذ المشروع يأتي في وقت تبني فيه مصر عشرات المدن الجديدة في مختلف المحافظات، وتلك المدن أحوج ما تكون إلي التنمية علي اختلاف مستوياتها وأنواعها، وربما تكون الأبراج المرفوضة في الشيخ زايد محل ترحيب في تلك المدن لأنها ستكون بالفعل موضع تخطيط وإعداد مسبق لا يضر بالمرافق ولا يهدم الطابع المعماري لتلك المدن. وبعيدا عن البيانات »الخشبية» والمخططات التي ظهرت بأثر رجعي، ومع كامل الاحترام لما قيل وسيقال، ألا يعد الرضا الجماهيري عن أي مشروع يقام في منطقة ما عنصرا رئيسا وشرطا لازما لاستكمال ذلك المشروع؟؟ وإذا كانت الدولة تعلي من احترام إرادة المواطنين التي أنقذت وطنا، فكيف لا تصغي الوزارة لكل تلك الاعتراضات علي المشروع، وتحترم رغبة الآلاف من سكان المدينة، بدلا أن تأخذها العزة بالإثم، وتصر علي الانتصار لنموذج »فضة المعداوي»، وتنتظر من أهالي الشيخ زايد أن يرفعوا »الراية البيضا» أمام الأبراج.. ولا أظنهم يفعلون.