عرفناه دوما محلقا في الآفاق كصقور الحمي الرابضة في الأعالي.. المتأهبة فوق القمم في كل آن لنجدة الأوطان، وحفظ هويتها وملامحها وقيمها، فقد بدت حياته المديدة الخصيبة كمعركة شرسة طويلة، ظل فيها المقاتل بالقلم، قابضا علي جمره، حاضنا قيمه، متشبثا بقناعاته وقوام أمره، ماضيا في طريقه لا يعبأ بخذلان الحمقي، أو انهزامية المستلبين، حيث عاش عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد الذي تحتفل مصر هذه الأيام بذكري رحيله عن دنيانا الغاربة حتما - كصقر متأهب دوما للذود عن المبادئ والقيم التي آمن برقيها، وتربي في حجرها، ونشأ في كنفها، وفي سبيل حمايتها قضي سنواته المؤرقة بحشد من الشواغل والهموم، المزدحمة بالمعارك النبيلة السامية، ولم يندم يوما رحمه الله - علي إنفاق عمره في التصدي للتهديدات التي برزت لتهدم الكيانات الآمنة المطمئنة، فالمبادئ والأوطان والقيم، ومهود الصبا، ومراتع الفتوة والشباب جديرة بأن يتبتل من أجلها الإنسان، وأن ينكفئ علي صيانتها وحمايتها مضحيا بهناءة عيشه، ورغد حياته، وهكذا مضت رحلة العقاد الخصبة، كفاح مرير من أجل المبادئ، وتأهب مستمر لمحاربة الأباطيل، والانقضاض علي الأكاذيب كما صقور القمم، والفارق ما بين صقر الفكر المحلق وجوارح الطيور القوية ان صاحبنا كان يفضل صيد الأعالي والقمم الشماء، حيث يقتنص الأفكار البعيدة والمعاني المتسامية، لا ليفترسها ويلتهمها وحده، وإنما كي ينزلها من الأفق الأعلي إلي أجواء الاستيعاب والإدراك، وأوساط الأذهان المتعطشة للفهم ومعرفة الحقائق، ولم يكن العقاد قانعا بصيد السفوح، فقد كان ينقض علي الأباطيل والفتن والأكاذيب بمخالب الصقور المجنحة ليفتك بها، وينسفها بمنطق ناصع أمضي من حد الحسام، وأحد من نصل السكين، فقلم المقاتل في يده مضي يطيح بالأكاذيب التي اعتاد المدمرون في كل عصر وأوان أن يغطوا بها الأجواء، ويسمموا بها الأوساط، فكان ينبري »عقادنا» كالصقور لافتراسها بمنطقه الباهر، وحججه القاهرة، وأدلته الدامغة، وهنا فقط لم يكن يأنف من الهبوط إلي السفوح، كي يفتك بفرائس الأباطيل والأراجيف، حيث وجدناه دوما مدافعا عن الكيان وسمات الهوية، فكم امتطي قلمه للدفاع عن اللسان العربي، وتراث اللغة العربية.. أجمل لغات الأرض، وما كتاب »اللغة الشاعرة» إلا درة في عقد كفاحه، وعن فرسان الوحي الأخير، جرد العقاد قلمه ليدفع طوفان الأحقاد الذي حاول النيل من شمس الرسالة الأخيرة ونجومها من الآل الكرام، والصحب العظام، حيث تضافرت الهجمات الشرسة علي الرسالة السمحاء، من الخارج والداخل معا، من المتطرفين المتمثلين في المتعصبين من غلاة المستشرقين، وفي الداخل من المندسين بيننا والمرتدين ملابسنا ولكنهم يتربصون بأوطاننا وبرسائل السماء المنزلة، ومن أهل الشر الخوارج، وقد رأيناه في تلك الآونة الحرجة ينبري لكتابة سلسلة »العبقريات الإسلامية».. ذروة نتاجه الفكري الفذ، إلي جانب كتابه المذهل عن »المسيح».. أمير الوجهاء، وسيد المصلحين، ومما لا يعرفه الكثيرون أن كتاب »عبقرية المسيح»، كان في الأصل يحمل عنوانا آخر في طبعته الأولي وهو »حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث»، ثم استسحن العقاد، أن يلحقه بسلسلة »العبقريات»، علي اعتبار أن الهداة والمصلحين وأصحاب الرسالات المنزلة ركب واحد. الشعراء الثلاثة الكبار! ومن النور الساري الذي يملأ الأكوان بهاؤه يقتبس العقاد، ليقدم لنا رائعته الفريدة المتمثلة في كتابه »الله»، وهو أعمق دراسة تتتبع نشأة العقيدة الإلهية وتطورها عبر العصور، أما رمز الشر المطلق.. ووسم الظلمة والبغضاء.. »إبليس» الطريد فيبسط »العقاد» حكايته كاملة في واحد من أروع من مؤلفاته، وعن نجوم الفكر الإنساني وشموس الإبداع العالمي، قدم لنا باقته المتألقة عن »جوته».. شاعر الألمان الفذ، و»شيكسبير» شاعر الإنجليزية العظيم، و»خمينيث» شاعر الإسبان المبرز، ومن هذه الأعمال الجادة المتعمقة إلي أخري قد تبدو أقل جدية لم يستنكف »العقاد» أن يتناول قلمه شخصية مثل جحا في كتابه »جحا.. الضاحك المضحك»، أو شخصية شاعر ماجن مثل »أبو نواس.. الحسن بن هانئ»، وشاعر العشق جميل بثينة، كل ذلك فضلا عن علامات مسيرته المضيئة: »أنا»، و»حياة قلم»، و»بين الكتب والناس»، »في بيتي»، و»عالم السدود والقيود». وبالإضافة إلي دواوينه كشاعر فذ ظلمته نجوميته كمفكر عظيم، حيث لا يمكن أن تنسي الأجيال: »أعاصير مغرب»، »وحي الأربعين»، و»هدية الكروان»، وغيرها من الدواوين، وأزعم أن قصيدة له بعنوان »رثاء طفلة» تعد من أرق القصائد في ديوان الشعر العربي علي إطلاقه، علي الرغم من اتهام خصومه له بأن تجربته الشعرية اتسمت بالجفاف والجهامة والتعقيد، وبعيدا عن ذلك الصرح الفكري والأفق الإبداعي، يتبدي جانب مجهول من تجربة العقاد الخصبة، وهو يمثل جزءا قيما من تراثه المذهل، وأعني به إسهاماته في الترجمة عن الإنجليزية إلي العربية، حيث كان يجيد هذه اللغة العالمية كأحد أبنائها، فعلي هذا الصعيد قدم ابن مدينة »أسوان» البار إلي المكتبة العربية تراثا فذا من الترجمات الدقيقة لعشرات النصوص الرائعة من شتي أنحاء الدنيا، وقد تناثرت ترجماته تلك علي مئات الصحف والمجلات، وقد ضمتها ثلاثة مؤلفات بارزة، الأول كتاب »ألوان من القصة في الأدب الأمريكي» ويضم مختارات العقاد وترجماته من النصوص النثرية المتمثلة في عيون القصة الأمريكية القصيرة لرواد هذا الفن ونجومه في الأدب الذي يعد ضمير تلك الأمة، وقد صدرت الطبعة الأولي من هذا الكتاب عام 1954، ثم صدرت الطبعة الثانية عن مكتبة الأنجلو عام 1963، وللأسف ظل الكتاب شبه مجهول، إلي أن أعاد المركز القومي للترجمة إصداره في طبعة جديدة منذ سنوات أربع، بعد مرور ستين عاما علي ظهور طبعته الأولي، وقد قدم له المفكر والناقد الكبير د.ماهر شفيق فريد الذي أوضح في تقديمه: أن العقاد اختار إحدي عشرة قصة قصيرة لعشرة كتاب أمريكيين من القرن التاسع عشر والقرن العشرين وقد وطأ لها بمقدمة عن الأدب الأمريكي وأخري في القصة القصيرة لعشرة كتاب، مع تعريف وجيز بكل أديب يسبق العمل الذي اختاره له، ويضم الكتاب قصصا مختارة من عوالم الأدباء البارعين ومنهم: »إدجار آلان بو»، »مارك توين» و»واشنطون إيرفنج»، و»وليم فوكنر»، و»ويلا كاثر»، و»ستيفن فنست بنيت»، و»شتاينبيك». الجانب المجهول! ويوضح »العقاد» غاية كتابه في أسطر قليلة جاءت في ختام المجموعة المختارة بقوله: »قد توخينا في اختيارها أن تشتمل علي مثال من كتابة كل أديب معروف من كتاب هذه القصة، فلم تخل من آثار أحدهم إلا لضرورة تقضي بها حقوق التأليف والترجمة، وفيما عدا ذلك نرجو أن تكون المجموعة وافية بالدلالة علي القصة القصيرة في الأدب الأمريكي من عصر الاستقلال إلي العصر الحاضر، وعن أسلوبه في الترجمة يقول العقاد: »أما طريقتنا في الترجمة فهي مراعاة الأصل غاية المراعاة، ما لم يكن حشوا لا محل له من لباب المعني ومن الوجهة الفنية، ففي هذه الحالة نكتفي بالمفيد ولا نلتزم بالحشو، وهو لا يزيد في الكتاب كله علي بضعة أسطر، وقد أردنا ترجمة صادقة في نقل العبارة بمعانيها وظلالها، لم نرد نسخا كنسخ الوارقين من لغة إلي أخري، فمن سمي ذلك نسخا أو مسخا، فقد أصاب التسمية!» من النثر إلي الشعر وعلي طريق العقاد مترجما نمضي، فبعد تعرفنا علي كتابه غير المشتهر »ألوان من القصة في الأدب الأمريكي»، نتجه إلي كتابه الذي لم يعرف هو أيضا علي نطاق واسع مثل سائر مؤلفاته، وهو كتاب »عرائس وشياطين »، وإذا كان كتابه عن القصة الأمريكية يضم مختارات من السرد العالمي فإن كتابه »عرائس وشياطين» يتضمن مختاراته من الشعر العالمي، ويكشف المؤلف سر تسمية كتابه بقوله في التصدير: »اتفقت الأساطير علي أن الشعر من وحي العرائس أو من وحي الشياطين، فاختار الأوروبيون أن يتلقوا وحيهم من عروس، واختار العرب أن يتلقوا وحيهم من شيطان»، والعقاد يشير بذلك إلي مختاراته من ديوان الشعر العربي إلي جانب نماذجه المنتقاة من الشعر العالمي، وترجماته الرائعة لها، عبر الإنجليزية اللغة التي يجيدها بصورة مذهلة، حيث يترجم العقاد مقتطفات ومقطوعات وقصائد لشعراء من أعراق مختلفة، وجنسيات شتي، وعصور متباينة، ومنهم: الشاعر الألماني »هنريك هيني»، والشاعر الفرنسي »بول فرلين»، والشاعر الصيني »يوان مي»، والشاعر التشيكي »ريلكه»، والشاعران الإغريقيان: »سوفليكس»، و»ماركوس ارجنتاريوس» والشاعر الإيطالي »جبرائيل داننزيو» والشاعر الروسي »يسنين»، والشاعر الأمريكي »كونتي كلن: ومن شعراء الإنجليزية »بن جونسون»، و»توماس هاردي» و»كرستينا روزتي»، و»هارولد مونرو»، »أوليفر جوجارتي»، و»إرنست داوسون»، و»باكس كلوفورد»، و»هوسمان»، و»وليم هنري دافييز» و»جون دون»، و»روث بتلر»، إن عشرات القصائد والمقطوعات والعبارات التي نقلها قلم العقاد الفذ إلي اللسان العربي والتي نثرها كالأزهار في عدد من مؤلفاته ومقالاته في الصحف والمجلات ومنها يومياته الشهيرة بجريدة »الأخبار» العريقة لتؤكد أن صاحب الذكري »عباس محمود العقاد» كان مترجما بارعا مدققا تماما وبنفس القدر الذي اتسم به جانب المفكر الفذ في العقاد، وأفق المبدع المذهل في عالم ذلك العملاق الفارق الذي يزهو بعطائه بلده مصر وأمته العربية.