بالتأكيد أنتم لا تعرفون الشيخ أبو المحاسن الصواف ولكني أعرفه وأحترمه وأقدره رغم مرور تلك السنوات منذ الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كنت طالبا بالمرحلة الاعدادية وكان يدرس لنا مادة النحو والدين، كانت دروس اللغة العربية لها مدرسها الخاص ولمادة النحو والدين مدرسها ايضا، وكان الشيخ أبو المحاسن الصواف وهو شيخ أزهري يرتدي الزي الأزهري يدرسنا مادة النحو أو قواعد اللغة العربية والدين. كان في هيئة وشكل الفنان يحيي شاهين في دور الشيخ حسن في فيلم جعلوني مجرما، وقورا هادئا، له هيبة، وكنا نجلس في درس النحو وأبصارنا معلقة به كلما راح أو جاء، كنا نهابه ونحترمه ونحبه في ذات الوقت لم يكن قاسيا ولم يكن متهاونا ولكن كان جادا بطريقة ترغم من أمامه علي إلتزام الوقار والإحترام في التعامل معه، وكان له طريقة لم نعهدها من قبل في تدريس مادة النحو، رغم أن علوم التربية وطرق التدريس لم تكن قد تطورت في الخمسينيات بالشكل الذي هي عليه الآن، إلا أنه كان لديه القدرة علي شد انتباهنا واستقطابنا وجمعنا حوله بمشاعرنا وعقولنا منذ أول دقيقة في بداية حصة النحو. وقد لا يصدقني البعض إذا قلت إنه قد جعلنا نحب مادة النحو ونحبه هو شخصيا، وخلق لدينا ملكة استعمال العقل في دراسة موضوعات النحو وأقنعنا بأسلوبه الشيق المتميز أن علم النحو يفهم ولا يحفظ، وأن علم النحو يقوم علي المنطق والتفكير وليس الاستظهار، كان يبدأ الحصة بتحديد موضوع الحصة القادمة ويطلب منا قراءته وكتابة ملخص عنه، وكان يشجعنا فيقول اكتب ملخصك في حدود ما فهمت ولا تهتم بالصعوبات التي تجدها في موضوع الدرس القادم وليس مطلوبا من أي واحد، منكم أن يشمل كل نقاط الدرس. وفي الحصة التالية يبدأ بالمرور بين صفوف المقاعد وكلنا صامتون ثم يسأل طالبا فجأة هل قرأت الدرس وكتبت ملخصا له؟ كانت له طريقة في توجيه السؤال تجعل الطالب ينطق فورا بالحقيقة، لا يعاقب الطالب المقصر من أول مرة ولكن يطلب منه ألا يكررها فإذا تكررت فقد حان وقت العقاب، وكان العقاب هو أن يضربه بسن المسطرة الخشبية علي ظهر كفه علي عظام أصابعه وكان عقابا مؤلما حقا. وذات يوم كنت قد أعددت ملخص الدرس، ولكن نسيت كتاب النحو فضربني علي ظهر أصابعي بالمسطرة الخشبية وحدث أن عقلة من أصابع يدي جرحت ونزل الدم منها ولكنه لم يلاحظ ذلك، في الحصة التالية بينما كان يصحح كراستي لاحظ الجرح فسألني ما هذا الجرح؟ أجبت في ارتباك وأنا أشير إلي المسطرة أمامه بكلمة واحدة المسطرة سكت وأكمل تصحيح كراستي، بعد ذلك لم يعد يضرب طالبا علي ظهر يده، وأصبح يضربنا عند الضرورة علي كف اليد ولكن المسطرة استبدلت بعصا صغيرة، وقد ترك هذا الجرح أثرا في عقلة أصبعي مازال موجودا حتي الآن ، كلما نظرت اليه تذكرت شيخنا الجميل أبوالمحاسن الصواف. وفي ذات يوم كلفنا بإعداد موضوع الدرس القادم، وكان عن جزم الفعل المضارع وأدوات الجزم، وفي الحصة التالية سأل أحدنا كعادته فجأة عن إعداده لموضوع الفعل المضارع المجزوم وبدأ الطالب يتكلم مثل ما هو مكتوب في الكتاب، وقاطعه الشيخ أبوالمحاسن برفق وقال له لا أريدك أن تكون كتابا ناطقا ولكني أريدك أن تكون عقلا مفكرا، قل ما فهمت من الموضوع وليس ما حفظت، ثم اردف قائلا أريدك أن تعبر بكلامك أنت عما فهمته من الدرس حتي لو كان كلامك لا يشمل كل نقاط الدرس، اريد أن اسمع منك فكرة عامة عن الموضوع ثم توجه الينا وسألنا من منكم يمكن أن يعطينا فكرة عامة عن هذا الدرس وكالعادة رفعنا أيدينا وأصابعنا وطرقعنا بأصابعنا ونحن نقول أنا أنا أنا . فنظر الينا الشيخ أبوالمحاسن نظرة رادعه فأنزلنا أيدينا ووضعناها علي الادراج ورفعنا أصابعنا فقط في صمت . كانت هذه هي طريقة الشيخ أبوالمحاسن الصواف في تدريس مادة النحو بأن يجعل كل الطلبة يشاركون في مناقشة موضوع الدرس ويترتب علي ذلك أن كل طالب يكون متيقظا أكثر وراغبا في منافسة بقية الطلبة في الفصل وإثبات وجوده هذه الطريقة العبقرية التربوية في إدارة الفصل لم تكن في الخمسينيات في اعتقادي قد وصلت إليها نظريات طرق التدريس وعلومه، خاصة تدريب الطالب علي الفهم والتفكير وليس الحفظ والاستظهار. وقد استوحيت الكثير من أساليب إدارة الشيخ أبوالمحاسن الصواف للفصل بعد ذلك عندما عملت لمدة أربعين عاما مدرسا للغة الانجليزية، وهي طريقة تجعل الطالب حاضرا أثناء الدرس بذهنه وعقله وليس بجسده فقط وألا يجلس ليتلقي المعلومة ولكنه يشارك في التفكير والتوصل اليها واكتشافها وحتي ان فشل في ذلك فهو علي الأقل قد حاول واعمل عقله وتفكيره. قال الشيخ أبوالمحاسن الآن أفتحوا كتب النحو وراجعوا الدرس ثم يحاول كل واحد منكم ان يلخص الدرس في ذهنه في كلمات قليلة: ويبحث عن إجابة للأسئلة التالية 1 ماهي الأفعال التي تجزم؟ 2 وما هي أدوات الجزم؟ 3 وما هي علامات الجزم؟ 4 وما معني علامات الجزم؟ بعد قليل قال أغلقوا الكتب وسأل عن الافعال التي تجزم، وكالعادة تبارينا في إجابة السؤال ثم سأل ما هي أدوات الجزم؟وما علامات الجزم؟ ولما كنا نتباري في الاجابة كانت تظهر علي وجهه ابتسامة رضا لانه تأكد أن الدرس قد فهم ثم بدأ في ذكر بعض أمثله الفعل المضارع المجزوم الآخر فكتب علي السبورة الآية الكريمة (ألم تر إلي ربك كيف مد الظل) فنرد عليه في صوت واحد، يشبه الكورال في الموسيقي ونجيب علي اسئلته بسهولة، ثم كتب مثالا آخر وهو الآية الكريمة(ولا تهنوا ولا تحزنوا) فتسابقنا في الاجابة وخرجنا عن النظام قلنا الفعل المضارع هنا تهنوا وتحزنوا وسبب الجزم وجود لا الناهية وعلامة الجزم هو حذف حرف النون من الفعلين المضارعين ثم طلب من احدنا جملة مجزومة بالسكون ولا ينتظر إجابة منا ويقرأ الآية الكريمة (وعلي الله فليتوكل المؤمنون ) ويشرح لنا أداة الجزم ونوع الجزم ثم يعقب تلاحظون أن الفعل يتوكل قد الحقت به في اوله لام الامر وهي جازمة ويكون الجزم بسكون اللام الاخيرة في الفعل يتوكل ثم كتب علي السبورة الآية الكريمة من سورة نوح مالكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم اطوارا ثم قال هذه الآية الكريمة فيها حرف لا وفيها فعل مضارع وهو: ترجون ولكن نلاحظ أن الفعل المضارع لم يجزم ومازال حرف النون في آخره ثم قال السبب في عدم جزم الفعل المضارع هنا هو كلمة (مالكم) وبعدها حرف (لا) ففي هذه الحالة تتعطل صفة حرف (لا) الجازمة وتشترك كلمة (مالكم) مع حرف (لا) فيصبح لدينا سؤال استنكاري بمعني أن كلمة مالكم نفت عن حرف (لا) صفة النهي التي تستوجب جزم الفعل المضارع تماما كما لو حذفنا كلمة مالكم ووضعنا مكانها كلمة كيف وهكذا اجتهد العالم الجليل بن مالك منذ سنين لا احصيها عددا افترض ضرورة حفظ قواعد اللغة العربية فصاغها في ابيات من النظم وليس الشعر وهي المعروفة بألفية بن مالك والتي يدرسها طلبة الازهر الشريف في مدارسه ومعاهده وكلياته وكليات دار العلوم حتي الآن علي انها الطريقة المثلي لاستيعاب قواعد اللغة العربية، وقد ايد فكرته في ضرورة حفظ قواعد النحو المقولة الازهرية الشائعة من حفظ المتون حاز الفنون وايضا احفظ تقل ان الكلام من الكلام والحقيقة ان قواعد اللغة العربية هي نسق من التفكير المرتب والمنظم والذي يحفظ اللغة العربية من اختلاط واختلال معانيها والامثله في ذلك كثيرة، انظر الي المثال الشهير في الآية الكريمة (انما يخشي الله من عباده العلماء) وانظر كيف يتبدل المعني تبدلا كاملا بوضع فتحة او ضمة علي هاء اسم الجلالة. ولا أكون مبالغا إن قلت إن قواعد اللغة العربية كان لابد ان تكون احد مباحث علم الجمال بل وأري ان قواعد اللغة العربية او الانجليزية يجب ان تكون أهم مباحث علم الجمال، لكن ألفية بن مالك جعلت دارسي اللغة العربية يفرون من قواعدها ونحوها ولهذا لابد ان توقف دراسة الالفية واعادة تدريس النحو علي ضوء النظم التربوية الحديثة والي ان يحدث ذلك لابد ان نقول.. تسقط ألفية بن مالك.