إذا توافقنا علي أن الثورة تعني (جوهرياً)- علي الأقل في بعد من أهم أبعادها- القيام بمراجعة شاملة في كل الميادين، باتجاه التغيير نحو الأفضل والأنفع والأرقي.. الخ، وإذا تصورنا سريان نفس المعيار التغييري الشامل علي ميدان الأدب والفن بشكل خاص، وميدان الثقافة بشكل عام.. لوجب أن نكرس لمجموعة من المبادئ- أو نعيد التذكير بها- أغفلها التظام السابق تماما.. في حقول الثقافة والفكر والعلم والإعلام. إغفالاً تاماً، بل كان في ممارساته واختياراته وتجلياته المختلفة (ثقافياً) مضاداً لها علي طول الخط. أول هذه المبادئ، وأهمها علي الإطلاق.. هو الإقرار بالحرية التامة للمثقف (بالمعني الكامل).. إزاء السلطة (بالمعني الشامل). المثقف بالمعني الكامل.. أقصد به الكاتب والمفكر والمبدع.. الشاعر، الروائي، المسرحي، السينمائي.. والمؤرخ، والمحلل السياسي، والصحفي، والناقد.. إلي آخر تجليات وتبديات هذا الفصيل من طليعة المجتمع الذي اتخذ من الكتابة- بكل مستوياتها- أداة له في نقد الواقع، وتشوف المستقبل. هذا من ناحية.. كما أقصد بالمثقف بالمعني الكامل أيضاً.. ذلك المثقف (الناتئ)! المستعد، عن إيمان واقتناع، لخوض المخاطر بكل أنواعها، من أجل »قولة حق« ليس في وجه حاكم ظالم، أو سلطة غاشمة فقط.. وإنما في وجه حاكم عادل وسلطة ديمقراطية أيضاً.. بمعني أن مثل هذا المثقف (الكامل) سيظل صوتاً (أو سوطاً) دائماً في كل الأحيان، ليس بمنطق من لم يجد في الورد عيباً فاتهمه باحمرار الخدين.. من باب المناكفة والمشاكسة المجانية.. أو بمنطق خالف تعرف وخلاص.. وإنما هو ذلك المثقف الذي يري دائماً في واقعه ووطنه.. أبعد مما هو متحقق بالفعل.. ويسعي دائماً إلي كمال متصور لايني يحدوه الأمل في الوصول إليه، أو في الوصول إلي المزيد منه. المثقف الحق.. هو هذا الكيان الناقد (وليس الناقم) باستمرار.. بالمفهوم الواسع والشامل للنقد.. ليس باعتباره نقداً أدبياً أو فنياً أو اجتماعياً أو سياسياً فقط، علي أهمية كل هذه التجليات للنقد، وإنما النقد الذي أعنيه.. حاسة.. يقظة.. دائمة.. دائبة.. شاملة، وردار متوفز، متطلع باستمرار إلي الإمام، وقرون استشعار مشحوذة، متحفزة ومضبوطة علي المستقبل.. »النقد«- في مفهوم هذا المثقف- حاسة تقويم دائبة، وروح وطنية لاعجة تري في الجميل بالفعل.. ما هو أجمل، وتنشد للمكتمل حقاً ما هو أكثر كمالاً.. وأن يتوجه النقد بمثل هذه الحاسة النقدية الكلية المرهفة.. إلي بعض ما يشوب الأوضاع والسياسات (الرائعة)- فرضاً- من قذي ضئيل، وغبار هين، حتي تخلص- هذه الأوضاع- رائقة صافية لا تشوبها شائبة.. (بقدر الإمكان). والنقد- بهذه الكيفية- لهو أجدر وأنقي وأعظم درجات، من هذا النقد المعتاد الذي يتوجه إلي القبح البين، والظلم الشامل، والفساد الضارب، من أجل نفي القبح والظلم والفساد، وكلاهما مطلوب بالطبع. القصد من كل هذا الحديث، أن نثمن- إلي أقصي درجة- وجود مثل هذا المثقف الناقد اللاذع الدائم، الذي لا يرضيه شيء، ولا يقر لقلمه قرار، ولا يعرف المدح المطلق، ولا الرضا التام، ولا الموافقة الكاملة، ولا الخوف علي المال أو الرزق أو العيال أو المنصب، ولا يخضع للتهديد والوعيد، ولا يمكن إسكاته وإخراسه بالتخويف والمصادرات بأنواعها، لأن وجدانه مضبوط علي موجة واحدة.. هي مصلحة وطنه، وما يري أنه الحق والعدل والصواب في مواجهة السلطات، كل السلطات.. وهنا نصل إلي معني الإشارة التي وردت عند حديثنا عن المثقف بالمعني (الكامل).. والسلطة بالمعني (الشامل).. ولعلنا أوضحنا بعض المقصود من المثقف بالمعني الكامل.. أما السلطة بالمعني الشامل.. التي علي المثقف مواجهتها، فهي ليست السلطة الثقافية فقط، بمختلف تجلياتها في مؤسسات رسمية وهيئات ثقافية وجهات تنفيذية.. لسياسات وأفكار واستراتيجيات.. إلخ، وإنما مواجهة مختلف أنواع السلطات، السلطة السياسية، والسطوة المعنوية.. في أعراف اجتماعية، وعادات وتقاليد ومفاهيم وتصورات وقناعات وتيارات وعقائد وأيديولوجيات قد تجر المجتمع بقوة إلي الخلف، وتأخذه إلي التراجع عن لحظته إلي القرون الوسطي مثلاً، وربما ما قبل القرون الوسطي.. هذا المثقف (الكامل).. منوط به أيضاً مواجهة عسف وجبر وقهر هذه السلطات (بالمعني الشامل) سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً طبعاً.. هو حالة حاضرة من الضمير اليقظ الممثل للأمة والمنبري للدفاع عنها.. هو حالة من (زرقاء يمامة) معاصر.. يري للبعيد من الراهن.. ويتشوف المستقبل من الحاضر.. لا يهادن ولا يمالئ ولا يطامن ولا يساوم.. طبعاً.. أنا لا أشير- كما قد يتبادر إلي الذهن- إلي نوع من (السوبرمان) هنا.. ولكنني أتحدث عن المثقف الحق الذي تم نفيه ومصادرته وتدجينه وعجزوا عن (إدخاله إلي الحظيرة) كما ورد علي لسان وزير الثقافة الفنان! وأتصور، أن يكون من أولي مهام الثورة- ثقافياً- إعادة هذا الاعتبار الكامل لمفهوم (المثقف الثوري).. أو العضوي.. الذي لابد أن يحرس المجتمع بأكمله.. حريته، التي هي في نفس الوقت، حرية كاملة، ومسئولة.. لا يحدوها إلا مصلحة الناس، ومصلحة الوطن، وأن تضمن الهيئة الاجتماعية، بكل التقدير والحب لمثل هذا المثقف.. كرامة الحياة، وكرامة الوجود، وكبرياء القلم.. حتي تتجرد الرسالة وتؤدي الأمانة.. كما يجب أن تتجرد الرسالات وتؤدي الأمانات!