في رواية «شمس تشرق مرتين» للكاتبة زينب عفيفي، سعي السرد الروائي إلي اكتشاف الدافع النفسي للذات وراء الموقف والحالة والسلوك وذلك عبر الذاكرة وحركة الارتداد. وتوقف النص أمام محطات شكلت البعد النفسي للأنثي، وكذلك المكون الخارجي للذات. وجاء انحياز »شمس« الي الزواج تغليبا للمكون الخارجي الذي ينتشلها من الفقر. وصنعت الأنثي بذلك مأساتها التي سقطت فيها، وأدركت خطورة ما يمكن أن تقع فيه حين سعت الي احياء الحب القديم. بدأ النص بالوقوف أمام المرآة وصورة شمس تطل عليها وتكشف التغير في الملامح وآثار الزمان البادية، والدهشة التي تلاحقها منذ أن وقعت في حب خريفي اقتحم قلبها في غفلة منها. وتساءلت في قلق نفسي (هل الحب في خريف العمر جريمة ؟). وفاض الزمان، واستعادت شمس صورتها وهي في السادسة عشرة من عمرها ..جسما ممشوقا (يضاهي رشاقة غزال شارد في صحراء قاحلة )..لكنها في اللحظة الآتية امرأة في الخامسة والخمسين تستعد لزواج ابنتها. واكتشفت الخطأ الذي وقعت فيه حين أقصت الحب، واختارت الغني. فالحب يطهر الذات من حمأة المادة . رصد النص دقائق التجربة وقدم صورة فنية مقاربة لما هو كائن في الواقع وفي خبايا الذات وقدم نموذجا انسانيا له أبعاده وأشواقه وخطاياه..ووقائع حياة شكلت كيانه المادي والنفسي. ووضحت هذه الأبعاد منذ ارتجافة القلب حتي لحظة الميلاد الجديد في الميدان الذي شهد اشراقة الذات مع اشراقة الوطن. تخرجت (شمس) في كلية الهندسة وتزوجت زميلها محمود، الذي ورث ثروة كبيرة عن والده. كان زواجها بدافع عقلي بحت للخروج من حالة الفقر التي تحياها. وكانت من القوة بحيث نحت جانبا عواطفها التي كانت تكنها لجارها (صلاح) المغرم بالفن التشكيلي والمتيم بها. لقد شقيت بعقلها واقتربت من قول الشاعر: ذو العقل يشقي في النعيم بعقله. جاء لقاؤها بصلاح في زيارة لها لدبي. وتكرر اللقاء في القاهرة. وتعجبت أن تعود إلي حالة الحب القديمة وهي في الخامسة والخمسين. وراحت تتساءل عبر ضمير الخطاب (هل كان لصلاح مكان في قلبك أيام الصبا وأنت لا تدرين !).. وحمل النص وطأة الزمن الخريفي وتداعياته، واستدعت الصور التعبيرية التي تواكب الحالة والتي لا تصدق كما تري فما حدث (عاصفة خريفية مفاجئة) وهواؤها (محمل برياح ضبابية تشبه سنوات عمرنا الضائعة بين الحب.. وحياة زوجية تقليدية) وتساءلت ثانية:هل ما تحسه هو (شعور بمرور الزمن الذي جعلني أتلهف علي شعور كاذب بأنني امرأة مرغوبة). والكاتبة زينب عفيفي وهي تتوقف أمام الدوافع النفسية والاجتماعية للأنثي تعطي نوعاً من التبرير النفسي لاندفاعها تجاه صلاح حبها القديم .الذي اكتشفته في عمرها الخريفي والذي أقصاه الفقر، وقناعتها بأن زواجها من غني هو مخرج من الحرمان الذي تعيشه، وهو ما تولد عنه هذا الصراع الذي دار بين قطبي الذات الانسانية »القلب« و »العقل«. واكتسب الصراع بينهما شحنة انفعالية واكبت الحالة والموقف والزمن، ووشت اللغة بالمعاناة التي تكابدها الذات (أنا وحدي في هذا البيت الفسيح أتأمل جدرانه التي يكسوها البرد والصقيع.) ويتبدي أمامها تساؤل يتحدي دهشتها ويوحي بهشاشتها. (هل يمكن أن يزور الحب بيتاً قديماً آيلا للسقوط ؟) وتعترف شمس في يقين من وجد الحل والتبرير (أقسم أن كوخاً دافئاً خير من الف قصر فسيح بلا بشر ).وهو اعتراف اتخذ سمة الحكمة النابعة من التجربة . ومد الميدان يده لها.. انتشلها من الصراع الناشب بداخلها، وكتب ميلادها الجديد أو شروقها الثاني ليواكب ميلاد الأمة واشراقتها الجديدة بثورة 25 يناير 2011. وهو تحول بارز في حياتها نحو الأفضل، لقد عاشت عزلتها التي جعلتها لاتعرف شيئاً عن الثورة. فقط حين اتصل بها صلاح أدركت الأمر. أخبرها أنه في الميدان (والدنيا مقلوبة ..مظاهرات واحتجاجات في الشوارع ). اسرعت إلي التليفزيون ورأت المسيرات الشعبية المطالبة بالتغيير (الشعب يريد إسقاط النظام). وأخبرها أنه يفترش الارض ويرسم اللوحات.. وقررت الذهاب إلي الميدان.. وكانت لحظة حاسمة للمواجهة ..قارنت بين ما هي فيه.. وبين ما تراه في الميدان.. (ما هذه الوحدة التافهة التي أشكو منها..ويمكن في نصف ساعة أن تذوب في هذه الجموع المتلاحمة !).. وربطت في تساؤل دلالي بين وجودها وبين الوطن (هل بدأ تاريخ جديد لهذا الوطن ؟) وهو سؤال عن المسكوت عنه "هل بدأ تاريخ جديد لشمس يواكب الوطن وحركته ؟! شاركت الجميع في تضميد الجراح. وحماية الأجساد من القنابل، وتوزيع اللوحات، ودخلت في المشهد المتوحد (مصريون مسلمون يصلون علي أرواح الشهداء، ومسحيون يحيون قداس الأربعين لضاحايا كنيسة القديسين). ذابت همومها .. وعانقت صلاح، أمام كل هذه الحشود ..وقبلته قبلة مكتنزة بالحب.. وحين رأي (قلقي .. اسكنتي بقبلة طويلة.. كدت أفقد النطق بعدها..) تعبر شمس عن تلك اللحظة الفارقة في حياتها فتقول .. (أحسست بعد لقائي بصلاح بأنني امرأة مختلفة ..امرأة عادت الي وطنها بعد غياب سنين في الغربة والاغتراب ..مصر تتغير وأنا أيضاً). وأدركت في يقين حقيقي أن لا أحد (يقوي علي اطفاء شمس الحب التي عمت قلبي وقلوب كل المصريين ..). ..لكنها فوجئت بالأمر الجلل، بلغ الحزن مداه حين علمت بوفاة صلاح بأزمة قلبية .سيطر عليها حزن موصول، وخشيت أن تنكسر إرادتها التي ولدت علي يديه، خاطبته نفسياً بما يوحي بحاجتها الماسة إليه..وابتهلت إلي الله أن يمنحها الصبر علي فراق الحبيب وتتساءل في استنكار. (كيف ترحل عن دولتك هكذا دون علمي ؟). حرصت (زينب عفيفي) في نصها الروائي علي الوقوف علي التحول الحادث للشخصية. وابراز حالة التطهر التي تخلصها من شوائب الزمن الفائت بها إلي حياة تتجدد ويصبح الاعتراف طريقاً صحيحاً إلي السواء النفسي.. وهو نوع من المواجهة مع النفس والولوج إلي دواخلها وكشف أبعادها ونقاط ضعفها.. وهي حالة من الوجد الصوفي تعكس الصفاء النفسي الذي غلفها، وأخذ بيدها نحو الترقي في درجات التحول. ولقد قام ضمير الأنا..أكثر الضمائر التصاقاً بالذات الانسانية بآلية الاعتراف والغوص في الداخل وكشف أسراره، ولحظات انكسار الذات وإحباطاتها. تعددت الضمائر في الرواية ما بين المتكلم والغائب، والمخاطب، وأسهمت بتعددها في رسم صورة عامة للذات في صراعها وتحولها. وبرز ضمير الخطاب في عدد من المواقف التي تواجه النفس فيها ذاتها، ضيمرها الساكن، ويلح الذات علي المصارحة، والمحاسبة وجلد الذات أحياناً..والخطاب في النص يسلخ الشخصية من ردائها الخارجي ويوقفها أمام المرآة في صراحة واضحة. يحمل ضمير الخطاب إدانة نفسية لشمس وهي تسعي إلي مواصلة العلاقة مع صلاح، حيث يواجهها بخطئها تعلمه جيداً، وهو أنه كان يحبها واستتبع ذلك نوعاً من الأستدعاء لتأكيد الدلالة..ويصمه أيضاً بالأنانية، وإقصاء مشاعر الحب والجري وراء الثراء. وجاءت آلية التداعي متناغمة مع استخدام الضمائر، واصبح الماضي يتقاطع مع الحاضر ويشكل ملمحاً ضاغطاً علي السلوك. وقمعاً نفسياً علي الذات..ولعل المراوحة بين الزمانين، وزفاف الابنة في زفافها (نسرين سارت عروساً بالفعل، وبأنها ستزف الليلة إلي زوجها، وأنه لم يبق الاساعات قليلة وتذهب مع زوجها) وبدت كانها لا تصدق ما تري، وأنها في حلم بالرغم من الزغاريد والفرح وإيقاع الموسيقي.. وابنتها تبدو كالبدر المنور، وهو ما جعلها تستعيد ليلة زفافها هي.. واختلط الموقف بين مفردات الخارج وما يعمل في الداخل وكشف التداعي اختلاط الوعي والدلالة منذ بداية حياتها الزوجية (كانت الطرحة مزينة بتاج من اللؤلؤ والخرز الصناعي ..تزين رأسي المشحون بالمخاوف من حياة جديدة مع رجل كل ما يربطني به هو العقل وليس العاطفة .وكان شعري ينسدل من الخلف.. فيبدو كالسجين المقيد تحت الطرحه مثلي تماماً..) وانظر الي دلالة الألفاظ الواشية بالخوف والتوجس لحظة الزفاف، لتقف علي الاحباط الذي تحسه شمس من سعيها العامل إلي الزواج.. مخاوف، سجين، مقيد، (كنت أشبه السجين الذي يطمع في الخروج من سجن ضيق إلي سجن رحب اسمه الزواج). واذا كان التداعي قد عكس نوعاً من الصراع الناشب داخل (شمس) فإنه أدي الي بروز آالية فنية أخري تتكرر وبكثرة وهي التساؤلات. فضلا عن آليات تعبيرية كحديث النفس، وحوار الذات مع نفسها، واكتناز السرد بالذكريات وهو ما يشي بالتوتر وحالة الصراع التي مرت بها شمس بعد ان ظهر في حياتها من جديد (صلاح) ..وعاشت معه تجربة كانت تحتاجها ..تجربة عفيفة أحيت الموات في نفسها وأزهر داخلها وفتحت ذراعيها للحياة.