زحزح أحد الكهلين مقعده هربا من أشعة الشمس الحارقة في الظهيرة .. يساعد صديقه ، يسنده بصعوبة إلي ظهر المقعد ، ما إن وقف .. وضح انه مشمر جلبابه إلي وسطه يبدو الصديري أسفله وساقاه نحيفتان .. إعتدلت أتأمله جيدا .. أوقف السيارة فجأة .. الشارع مزدحم أكثر من زمان .. كنت علي وشك تنبيهه إلي غطاء بالوعة مرتفع ، عند إنحناءة الشارع .. الغطاء كما هو .. نعشق الآثار .. قال لي بسرعة ، بعينين محذرتين : - لا تنزل من السيارة ، أنا سايب المفاتيح علشان تكييف الهواء و الراديو .. إسمع النشرة وانا جاي بسرعة .. بابتسامة خفيفة أقفل الباب .. يعرف المكان جيدا .. كيف ؟ إتجه إلي الشارع الضيق ، علي ناصيته محل الحاج حسن الفطاطري .. لكن ، أين المحل ؟ .. كهلان جالسان ظهراهما للشارع ، مقاعد جلدية حمراء تملأ المحل .. تشبه مقعدي الكهلين .. أدقق النظر .. إتسع المكان بمرايا وأرضية لامعة ملونة .. صور للعجائن التي يقدمها أعلي الجدار المواجه للمدخل ، أسفلها مسطح رخامي ناصع .. هو مكان تقديم الطلبات . يقف شابان في زي أصفر .. علي رأسيهما غطاءان مرتفعان بنفس اللون ، يتوسطهما شعار أحمر لديك شرس .. هو نفسه يتوسط لافتة المحل علي المدخل .. حل الديك محل "الحاج حسن الفطاطري" علي اللافتة التي رسمها عم قرني الخطاط منذ سنوات يصعب عدها .. يتوسط الديك حروف لاتينية .. تعني عجائن !! ولا حسن . لزمن طويل يغضب مني زميلي في العمل حسن الفطايري ، كنت أناديه "فطاطري" .. أقضي اليوم في مصالحته .. تري ماذا يخبئ لي هذا العفريت ، تركني في سيارته وغاص مني فجأة في بحرٍ شهد مولده .. لكن كيف يعرفه ؟ غادرنا المكان وهو بعد أقل من الإدراك .. كفنارة كان يبدو محل الحاج حسن .. ضوء خافت يقطّره مصباح يكوّر الأشعة ، فيبدو المحل كجزيرة من آخر الشارع المظلم .. بحر في ليل شتاء مظلم . يلقي المصباح ببقعة صفراء علي الأرض خارجه ، والباقي علي المصطبة الرخامية امام فوهة الفرن .. كهف خافت الضوء ، أزرق باهت .. عدة أجولة دقيق وأوان منتثرة في أرجاء المكان . يتحول الضوء إلي الأحمر حال وصولي .. يلقي الحاج أحمد ببضعة أعواد من الجريد في الكهف ، تصدر طقطقات الحرق بينما أحييه .. يقف أمام الفتحة نصف الدائرية ، مشمراً جلبابه الأبيض إلي وسطه ، ويلف عليه فوطة سميكة بيضاء . يتفنن في إيقاعات صفعاته للفطيرة التي يفردها قبل أن يطأها بنشابته اللامعة .. تمهيداً لطيرانها في الهواء عدة مرات .. يطبقها بصفعتين بنفس الإيقاع .. يودعها مثواها بالفرن .. ينظر إلي ليلتقط نظرات إعجابي لتطبيقه لقوانين الحركة المعقدة في حركات بسيطة نموذجية .. يرشف الشاي من كوب بالقرب من الفرن .. نتبادل الحديث إلي أن تنضج الفطيرتان بينما يراقص اللهب خيالينا علي الجدار المتهرئ علي أنغام الطقطقة وغناء من جهاز تسجيل خافت خلفه .. زحزح أحد الكهلين مقعده هربا من أشعة الشمس الحارقة في الظهيرة .. يساعد صديقه ، يسنده بصعوبة إلي ظهر المقعد ، ما إن وقف .. وضح انه مشمر جلبابه إلي وسطه يبدو الصديري أسفله وساقاه نحيفتان .. إعتدلت أتأمله جيدا .. ترتعش يداه ، إبيضت لحيته تماما وعلي رأسه الطاقية البيضاء المثقبة .. التقت عينانا .. نفس الحدة ، هو الحاج حسن ، بصعوبة يزيح مقعده .. إحتضنتنا الحاجة سونة .. زوجين شابين صغيرين .. بدأنا هنا .. ثوار علي التقاليد ، صاحبنا غليان يناير77 . تجلت فطنتها في معاملتنا بطريقة غير باقي السكان في بيتها .. جنبتنا نظرات المتطفلين بما لها من قوة و حضور، صاحت بشراسة في إحدي الجارات "عرايس و فرشهم اتأخر .. " وفعلا تأخر .. وتقاطر كثيرا .. متابعِة جيدة للأحداث والتلفزيون .. لم تهتم من نحن ، ولم تقلق أننا بلا زيارات .. نخرج للعمل صباحا ، لم تتساءل كثيرا كما أخبرتني زوجتي- بل تؤنسها عندما أتأخر ليلا .. ولم تفاجئها الزيارات عندما انتفخت بطن زوجتي بطفلنا الأول .. صاحب السيارة .. تري لماذا أحضرني هنا بعد صلاة الجمعة ؟ يلتفت جهتي لعدة ثوان ، ثم يدير رأسه .. عيناه الماكرتان في تلك الليالي .. يحاورني بهما ليعرف من أنا .. كانت تنعشني تلك الدقائق آخر الليل المرهِق .. في انتظار إنضاج الفطيرتين علي النار الهادئة .. يحاورني .. للّيل عِنده ناسه ، أفصحت عيناه عن هواجس ، خاصة وأنا وزوجتي حديثا عهد بالسكن هنا وجئنا بلا جلبة .. ومؤكد أنه عرف أنني أذاكر مع إبن سونة في الثانوي وزوجتي مُعلمة .. نظراته بينما يضيف الجريد تظهر التلصص .. لماذا أتأخر ليلا ؟ .. يبتكر حدوته لأكملها .. مرة وزارة الصحة وموظفوها الغلابة .. يسهرون بلا بدلات بينما الأطباء يملكون سيارات ، أو موظفون السكة الحديد والنقل العام .. يرمونهم علي رأس الشارع الكبير بره.. وأخري مسئولين وردية إعادة التيار الكهربي الذي كثيرا ما ينقطع .. فجاة أصبح صامتا ، مضطجرا .. أدركت أنه توجس من الشرطة .. فصديق عمره سيد القط يلوح دائما في أفق ضبطيات الحشيش في الحي كما حذرتنا سونة- ويبدو أنه يختبئ عنده بين كراكيب الدكان .. لكن الدخان الأزرق المنبعث من المقهي المقابل له ينبئ بأن الدار أمان .. والمسألة فيها تفاهم .. لا يعوق عمل الطرفين .. فتوجُس حسن كان "لربما تغيرت بنود الاتفاق .." . تأملني القط ذات ليلة .. أشار له قبل أن يغادر .. فهمت أنهما مطمئنان .. فعادت اللعبة و المحاورة .. تأخر إبني .. أعرف أن هناك مفاجأة .. قصة .. لكن في مثل هذه الظروف .. سأموت مندهشا .. أو لعلي زهقت ، أو وهذا ما يداعبني فعلاً- أريد الحديث مع الكهلين .. أو أعرف ماذا يقولان بعد هذا العمر .. مازال يتلفت ليلمحني .. ثم يدير رأسه ، لكني لا أعرف شيئا عن هذه السيارة ولا نوافذها .. وأخاف فالظروف عصيبة ، والسرقات تهدد الجميع في هذه الأيام .. تلك الليلة البعيدة ، ينساب صوت ثومة هادئا "إسأل روحك .." يناديني حسن : - يا أستاذ .. يا أستاذ .. إنتبهت .. يناولني لفافة الفطيرتين .. نظرت إليه ليعذرني : - أصل الأغنية دي رائعة .. لكن حظها وحش ، الناس أحسوا أنها صعبة علشان المقام والإيقاع .. استرسلت أشرح له .. يهز رأسه و يحملق فيّ .. إنتبهت فجأة ، يصفق فرحاً كمن وجد ضالته " تبقي مزيكا يا أستاذ .. يا سلام .. مزاج زي الفل.." .. من ليلتها .. كل ليلة إسأل روحك إلي أن انتهي موسم "المزيكا" .. لمحته يقترب مني .. أفلحت في إنزال النافذة قليلا .. يحملق في : - أنت بتاع إسأل روحك ..؟ - إزيك يا حاج حسن .. دمعت عيناه .. يضع يديه علي النافذة ، لم أفتحها خوفا من نظرات القط الرابض هناك ، قد تدب فيه الحياة فجأة .. بصوت بائس يشكو حسن : - شايف العيال عملوا فيا إيه ؟؟ .. ركنوني جنب الحيط .. حضر إبني فجأة ، ينظر إلي بعتاب .. استدرت أفتح له الباب .. يتتطلع حسن إليّ بعينيه الكليلتين دامعتين .. يصيح إبني بلهجة تمثيلية : - هي دي المفاجأة .. ينحني يفتح الباب الخلفي لحسناء واقفة إلي جواره ، قالت كلمات لم أسمعها فقد كنت أتابع حسن في الجهة الأخري .. يكمل إبني بينما يدير مفتاح السيارة : - هي دي يا سيدي .. إحنا رايحين التحرير .. وها ننزلك عند محطة المترو