إن دور الصحافة الحقيقي في مشروع السد العالي هو ترجمة الأحجار التي ينشأ منها السد إلي قصص انسانية.. الرئيس دائماً يشتكي من الاعلام.. ودائماً يستشعر أنه لا يعكس حقيقة ما يجري علي أرض مصر ويقترب إلي أن يكون معجزة انسانية في زمن قياسي، ودائماً يتمني أن يلعب الاعلام - مرئيا ومسموعا ومكتوبا و»أون لاين» - دوره في كشف الحقائق أولاً بأول، وعدم ترك الناس فريسة للشائعات أو للكتائب الالكترونية الموجهة التي تشوه كل انجاز وتهيل التراب علي كل نجاح، وتضع السم في العسل وتزرع اليأس والاحباط في نفوس المواطنين حتي ينهزموا داخلياً، علي أيدي بعضهم البعض.. الرئيس تحدث ويتحدث في هذا الأمر كثيراً لخطورته.. وكثير من الزملاء الكتاب والاعلاميين تناولوا القضية باعتبار أن الاعلام الهدام، غير الواعي، أو الموجه، أو المستخدم، أو الممول تمويلاً خارجياً، أو المغيب، هو أداة طيعة من أدوات حروب الجيل الرابع. أحد أكثر الأشياء »اللي مزعلة» الرئيس من الاعلاميين هو -في تقديري- عدم نجاحهم في توصيل حجم الانجازات التي تتم في المشروعات القومية للمواطنين.. الرئيس لا يريد »تطبيلاً» ولا يريد من يهلل له.. فقط يريد أن تصل حقيقة وروعة وعظمة الانجازات التي تتم في المشروعات القومية، وأهميتها، وكيف ستغير من وجه الحياة علي مستوي مصر، وستنقل مستوي المعيشة فيها في 2020، هو نفسه يقول استلموا مني مصر تانية خالص في 2020. الرئيس له حق، وعتابه علينا في محله، وأنا في السطور التالية سوف أعرض كيف كان جمال عبدالناصر محظوظاً باعلامه -أي نعم كان موجهاً- بحكم التاريخ والظروف المحيطة، إلا أنه نجح في أن يجعل الرجل في الشارع يستشعر أحلام عبدالناصر، ويجعلها أحلامه الشخصية. في مدرسة أخبار اليوم الصحفية كان هناك اجتماع أسبوعي يعقد برئاسة الكاتب الراحل العظيم مؤسس هذه القلعة الصحفية مع توءمه علي أمين من أجل رسم خطة الاسبوع الصحفية، وتحديد الحملات الصحفية، وتوزيع التكليفات علي الصحفيين الذين أصبحوا فيما بعد نجوماً تتلألأ في هذه المدرسة العريقة التي كانت بمثابة مفرخة للنجوم، وكبار الكتاب. صباح يوم الجمعة 31 اكتوبر عام 1958 عقد الاجتماع الاسبوعي ل »الأخبار» في 6 شارع الصحافة برئاسة مصطفي أمين، وتم تخصيص الاجتماع المهم للحديث عن الدور الذي يجب أن تقوم به »الأخبار» تجاه مشروع قومي وعملاق هو مشروع انشاء السد العالي.. تعالوا نستمتع بجزء من نص محضر الاجتماع الذي هو أشبه بدرس صحفي وأدبي رفيع، اضافة إلي أنه رصد اجتماعي رصين لمصر، ولإعلامها في مرحلة حساسة من تاريخها. نحن أمام درس طازج رغم أن عمره تجاوز 60 سنة بشهرين. قصص انسانية يقول مصطفي أمين: إن دور الصحافة الحقيقي في مشروع مثل مشروع انشاء السد العالي هو ترجمة الاحجار التي يصنع منها السد الي قصص انسانية، وإلي آثار في حياة كل فرد: في خطبته، وزواجه، وحياته!!.. ولو أثبت موضوع صحفي لأي زوجة شابة أنها ستجد حياة جميلة في أسوان وقامت الأخبار بعمل ونشر موضوع صحفي عن الحياة هناك ستحب كل زوجة الحياة في أسوان. يتساءل مصطفي أمين: لابد أن نبحث هل هناك سينمات كافية في أسوان، وهل فيها كورنيش وكازينوهات وفنادق حديثة؟ يجب علي الأخبار أن تدعو علي صفحاتها إلي تحويل أسوان إلي جنة قبل الشروع في انشاء السد أو متوازية مع انشائه لجذب أحسن العائلات والاسر لنقل حياتها الي أسوان! نريد أن نرصد تأثير بناء السد علي شكل الحياة في أسوان كيف يستقبل أهل أسوان هذا العمل العظيم؟ في أي شيء يفكر صاحب »القهوة» في ميدان المحطة في أسوان؟ هل سيأتي اشخاص من خارج اسوان لعمل »قهوة جديدة»؟ وهل تكفي الفنادق الحالية في أسوان لاستقبال حشود المهندسين؟ وهل استعدت بلدية أسوان لاعادة تخطيط المدينة لتساير التطور نتيجة انشاء السد العالي؟ جملة ذهبية وهنا يقول مصطفي أمين جملة ذهبية تتعلق بضرورة »أنسنة» كل الاخبار.. لأننا لو قصرنا التغطية علي القرارات فلن يهتم بها القارئ وسوف ينصرف عنها وعنا، والحل في أن ننقل له تأثير القرار عليه، وعلي حياته، وأسرته ومحيطة.. الخ وفي حالة السد، القارئ يريد أن يعرف مثلاً سعر تأجير الشقة الآن وبعد انشاء السد، وهل ستنشأ مدارس جديدة لكي يفكر المهندس بأن ينقل حياة أسرته كاملة إلي أسوان؟..الاجابة عن هذه التساؤلات مهمة للغاية.. لابد أن نبين للناس كيف ستكون الحياة في المستعمرات التي انشئت للمهندسين والعمال في أسوان، لابد أن نحكي عن معجزات صنعتها زوجات مرافقات لازواجهن. يقول مصطفي أمين: الفكرة التي أريدكم أن تعملوا في اطارها هي ترجمة مشروع السد العالي الي مشروع انساني، ممثلاً عندما نسأل سيدة مرافقة لزوجها في أسوان كيف استطاعت أن تكون سعيدة، مثل هذا الموضوع سيجعل بنات مقبلات علي الزواج يرحبن بأن يتقدم لهن عمال أو مهندسون سوف يستقرون في أسوان! في الاطار نفسه: أنا لاحظت أن هناك خبر جاء به مندوب وزارة التربية والتعليم يقول إن الوزارة سوف تسير 410 بعثات الي المشروع.. هنا الخبر غير كاف ولابد أن يسأل: هل كلهم رجال؟ أنا رأيي- يضيف الراحل مصطفي أمين- لو أن هناك 4 فقط من الفتيات فلابد أن يكتب عنوان الخبر هكذا: البنات يتقدمن للسد العالي! كتيبة من الصحفيين يقول مصطفي أمين: دورنا أن نوجه المسئولين إلي أن تكون أسوان جميلة وفيها الخدمات، لأن الحياة اذا كانت شاقة هناك، فستجد المهندس متضايقا ويريد العودة الي مصر كل أسبوع، وبالتأكيد سوف يقل انتاجه، ويتأخر المدي الزمني لانجاز المشروع. يبتسم مصطفي أمين ويقول: نعمل موضوعا نقترح فيه علي صاحب مطعم أبوظريفة- كان أحد أشهر مطاعم القاهرة في الخمسينيات- أن يعمل فرعا له في أسوان! هذه التكليفات- يضيف مصطفي أمين تستلزم سفر كتيبة من عشرة محررين الي أسوان.. أريد منهم أن يقوموا بعمل مسح شامل لكل شيء في أسوان: البيوت، أسعار الأراضي، الأراضي التي يمكن تحويلها إلي حدائق وحالة السينمات وهل هي حقيرة أم جيدة، وهل الوضع يحتاج إلي انشاء سينمات جديدة؟ واجب الصحافة أن تسبق المشروع وجمال عبدالناصر سيذهب في اكتوبر القادم ليضع حجر الاساس، وقبل هذا يجب أن تكون أسوان جديرة باستقبال هذه الاعداد من المهندسين والصناع. ويستمر مصطفي أمين في اطلاق درره: نريد أن نمهد المجتمع المصري ليزوج بناته من هذه الطبقة، طبقة العمال الفنيين الذين سيشاركون في تحقيق معجزة السد العالي، وهي طبقة غير موجودة في مصر، وقد يدهشكم أن العامل الفني في مصانع »فورد» للسيارات يتقاضي مرتبا يساوي مرتب وكيل الوزارة ورغم ذلك لاحظت أن العامل عندما يريد أن يتزوج يرفع كلمة عامل ويقول: الموظف فلان في شركة كذا رغم أن يوميته تصل الي 150 قرشا، وهناك بعض العمال تصل رواتبهم الي 120 جنيها شهرياً!!! ما أتحدث فيه قد يكون سابقا لأوانه ببضعة شهور.. ولكن »أخبار اليوم» تحاول دائماً أن تسبق ما سوف يحدث. إن الطبقة الجديدة التي تريد أخبار اليوم أن تحتضنها هي طبقة العمال الفنيين »لاحظ أن هذه الدعوة مازالت قائمة وبصورة ملحة بعد مرور 60 عاماً» لأن العامل العادي لن يصل راتبه الي 200 جنيه كما هو الحال في العامل الفني يجب أن نمهد لهذه الطبقة ولا نشعرها أنها مغبونة أو محتقرة! لو كنت محرراً لو كنت محرراً، فأول شييء أفكر فيه هو أن أطلب من السفارة الروسية أو الامريكية كتبا عن الخزانات والسدود التي انشئت في الدولتين، وأقرأ كتبا عن الاثر الاجتماعي الذي خلفته في المناطق التي انشئت فيها.. عندما تقرأ ستجد تساؤلات تثور.. ستجد مثلاً هجرة الي أسوان وليس منها.. فهل ستتحمل المدينة؟ هل الناس بدأوا يشترون اراضي في أسوان؟ هل عدد الغرف في »كتاركت» كاف.. يجب أن ندعو الناس لاستثمار أموالهم في أسوان.. وعندما ننشر خبرا عن شخص اشتري 100 متر بثلاثين جنيها، وباعها ب300 جنيه هذا الأمر سيكون حافزا للناس.. كذلك البنوك هل ستفتح فروعا لها في أسوان؟ وهل المحلات الكبري مثل هانو وشيكورل ستفتح هي الأخري فروعا لها في أسوان؟ أحد المحررين الحاضرين للاجتماع قال إن لدي صورة لزحام شديد في أحد مكاتب البريد في أسوان لأن الناس تنتظر الحوالات المالية التي ترد من ابنائهم العاملين في القاهرة.. فرد عليه مصطفي أمين يمكن أن ننشر الصورة ونقول إنه بعد سبع سنوات سيجتمع الناس في القاهرة حول مكاتب البريد انتظارا للفلوس التي ستأتي من اسوان. من مصطفي أمين إلي السيسي وهكذا استطاع مصطفي أمين بعبقريته تحويل مشروع السد العالي الي لحم ودم من خلال موضوعات وصور تخاطب قلب وعقل وضمير القارئ.. استوقفني أن ما فعله الرئيس عبدالفتاح السيسي عندما استوقف الست نحمدو أثناء جولته التفقدية في العاصمة الادارية لأنها لفتت انتباهه باعتبارها سيدة وتقود ميكروباص، وفين؟! في العاصمة البعيدة. ما فعله الرئيس كنا أولي به كإعلام، بأن نسلط الضوء علي هؤلاء.. هناك العشرات والمئات والآلاف أمثال نحمدو. ما فعله الرئيس السيسي في العاصمة درس عملي للاعلام.