الأراجوز .. تلك العينُ السوداء (قره قوز) كما في الفارسية .. تلك الشخصيةُ الممسوخةُ التي توجَدُ ولا توجَد .. بطلُ الأراجوز بطل رواية أحمد سميرالرواية يطاردُ وجودَهُ عبرَ صفحاتِها ليكتشف بنهايتِها أنَّهُ عينٌ سوداءُ يطلُّ من خلالِها الأبُ الذي كان، ولا شيءَ غيرُ ذلك .. ظِلٌّ لأبيه .. تبدأ الحكايةُ مع بائع الفول الذي يُلَعّبُ الأراجوز للأطفال ليلاً، وولادة طفلٍ له (هو بطل الرواية) إثرَ بشارةِ (السيدة زينب) رضي الله عنها لزوجته في المنامِ بطفلٍ مبارَك .. الزوجةُ تلاحظُ ظاهرةً خاصةً في جلدِ وليدِها وهو أنه يتغيرُ لونُهُ تبعًا لألوان الأشياء التي تقتربُ منهُ كالحرباء! يكبرُ الوليدُ ليصيرَ أراجوزًا بشريًّا طفلاً، وتموتُ أمُّهُ وتتولي تربيتَه الدايةُ التي ولّدَتها .. يُبَشَّرُ أبوه برزقٍ واسعٍ حين يدخلُ الصبيُّ بلاطَ (الثَّرِيّ) الذي يتولي تعليمه وتربيتَهُ بنفسِه .. يكبرُ مع الفتاةِ بنت الثريِّ التي تقعُ في غرامِهِ ويُضطَرُّ أبوها لتزويجهِ منها لتُشفَي من الداء الذي ألمَّ بها .. وحين يقتربُ الثريُّ من الراقصةِ المثيرةِ بنت الغجريةِ المقيمةِ في قصرِهِ، ويكتشفُ أن الأراجوزَ سبقهُ إلي افتضاضِ بكارتِها، يصممُ أن ينتقمَ من الأراجوز زوجِ ابنتِهِ ويدسُّ له السُّمَّ الذي يكادُ أن يودِيَ بحياتِهِ لولا المناعةُ التي أكسبته إياها زوجتُهُ بنتُ الثريِّ التي جعلت تُجَرِّعُهُ جرعاتٍ متزايدةً من السُّمِّ كلَّ يومٍ ليفقدَ حساسيتَهُ له .. لكنَّهُ يمرضُ مرضًا شديدًا حتي يخيلَ إلي الجميعِ أنه ماتَ ويكفنونه ويدفنونه حيًّا .. وبينما هو في قبرِهِ يفاجأُ بحفّار قبورٍ لِصٍّ يحفِرُ عليه قبرَهُ ليسرقَ كفنَهُ، وينقذه حفار القبورِ ويأخذه معه إلي البيتِ وترعاهُ أختُهُ النائحةُ (صفية) حتي يستردَّ عافيتَه .. ويعملُ الأراجوز مع حفّار القبور، حتي يصادِفَ الشيخَ صاحِبَ الكراماتِ ويصبحَ من أخلصِ مريديهِ فيضمُّهُ صاحبُ الكراماتِ إلي عمالِ متجرِه للأقمشة، ويزوجُهُ ابنتَهُ، ثم يعطيهِ العهدَ بخلافتِهِ علي أهل الطريقة .. ويولَدُ للأراجوزِ صبيٌّ تتكررُ معهُ بشاراتُ البركةِ، كما تهاجمُ أباهُ الأراجوزَ نُذُرُ ضياعِهِ، ويضيعُ الصبي بالفعل حين يبلغ السابعةَ كما لو أنَّ تاريخَ الأب يُكتَبُ من جديد .. وتموتُ زوجةُ الأراجوزِ في إثرِ ذلكَ، ويشعرُ الأراجوزُ أنه فقدَ بركتَهُ حين يَرقي مصروعًا علي عهدِ شيخهِ ويموتُ المصروعُ بين يديهِ ولا تنفعهُ الرُّقيَة .. حينذاكَ يعودُ الأراجوزُ علي عقِبَيهِ مقتفيًا آثارَ نفسِهِ، فيصادفُ أولاً حفارَ القبورِ ميتًا ويدفنُهُ بنفسِهِ، ثُمَّ يصلُ إلي بيتِ أبوَيهِ، ويعودُ إلي مهنةِ أبيهِ فيبيعُ الفولَ صباحًا ويلعب الأراجوزَ مساء. نلمحُ في رحلةِ الأراجوز إحالةً إلي رحلة السيميائيِّ في الرواية الأشهر ل(پاولو كويليو)، إلاّ أنّ بطل روايةِ (كويليو) يرحلُ نحوَ المعرفةِ بالذاتِ التي هي معرفةٌ بالعالَمِ وينتهي في نقطةِ بدايتِهِ ليدركَ أنَّ الكنزَ الموعودَ هو الرحلةُ ذاتُها .. أمّا الأراجوزُ هنا فيرحلُ في خطٍّ مستقيمٍ نحوَ أفقٍ من المعرفةِ الروحيةِ يتمثلُ في خلافة صاحب الكراماتِ، ثم لا يلبثُ أن يعودَ من حيثُ أتي لينتهي نهايةَ أبيه .. ينتهي خاويَ الوِفاضِ وكأنما كلُّ ما فاتَ كان لَعِبًا .. يبدو أنَّ كنزَ رحلةِ الأراجوزِ هو التصالُحُ مع الخواء، وهو إدراكٌ خاصٌّ للمعرفةِ يقترحهُ صاحبُ الرواية فيما يبدو لنا .. وهو إدراكٌ صوفِيٌّ راضٍ بالدورِ المحدودِ الذي يلعبُهُ الإنسانُ في مسرحِ هذا العالَمِ، وتؤيدُ هذا الإدراكَ تيمةُ التكرارِ المتجليةُ في مستوي الأحداثِ كما في مستوي لغةِ الوصف .. فالتكرارُ الأعظمُ في مستوي الأحداثِ أهمُّ أمثلتِهِ حدثُ ضياعِ ولدِ الأراجوزِ في سن السابعةِ (ليبحثَ عن شيخِهِ الخاصِّ، فهو غيرُ محسوبٍ علي طريقةِ أبيهِ وجدِّه لأمه)، كما حدثَ أن اغتربَ أبوهُ الأراجوزُ عن أهلهِ وذَويهِ في شبابه .. أما التكرارُ علي مستوي لغة الوصفِ فيتجلي في مفاتيح (كيوهات) الأدوار المختلفةِ للشخصياتِ، فلحظاتُ النشاطِ الأوفر للأراجوزِ في العمل واللعبِ والمغازلةِ وحتي الذِّكر توصَفُ دائمًا بعبارةٍ واحدةٍ: «الأراجوز يهزُّ الخصرَ، يديرُ الرأسَ، يداورُ بلسانهِ الكلمات»، وكأنما لُبُّ كلِّ نشاطٍ يقومُ به الأراجوزُ واحدٌ مهما تعددت صورُ هذا النشاط، فالمسألةُ لعبٌ مرسومٌ قَدَرًا محددٌ سلفًا وخلفَهُ لا شيء .. أمّا الراقصةُ فلحظةُ توهجِ نشاطِها دائمًا توصفُ فيها بأنها: «ترفعُ الرِّجلَ تُدَوِّرُ الخصرَ تُرعِشُ الصدرَ تهزُّ الأرداف» .. وثمةَ ملمحٌ آخرُ في تقنيةِ الحَكيِ هنا يُقَوِّي قناعتَنا بمسألة التصالُحِ مع الخواء، وهو الإصرارُ علي تسمية عددٍ من أهم شخصياتِ الروايةِ بأسماءِ أدوارِها في الدراما فقط، كالأراجوز، وصاحب الكراماتِ، والراقصة ابنةِ الغجرية، والثّرِيّ، وابنةِ الثّريِ، وحفّار القبور .. بل لا نكادُ نجدُ شخصياتٍ تحملُ أسماءَ أعلامٍ إلا الشخصياتِ الهامشيةَ المساعدةَ التي لا تظهرُ إلا قليلاً مثل (صفية) أخت حفار القبور، و(غانم) و(محروس) صديقَي طفولة الأراجوز .. كأنَّ العبارةَ التي يقولُها (نزار قباني) علي لسان المرأةِ اللامباليةِ في يومياتِها: «أسخفُ ما نحملُهُ يا سيدي الأسماءُ» مكرسةٌ هنا إلي أبعدِ الحدود .. اختارَ (أحمد سمير سعد) في هذه الروايةِ الطريقَ الأوعرَ، أعني تيارَ الواقعيةِ السحريةِ، حيث تنضفرُ الوقائعُ اليوميةُ الموصوفةُ بدقةِ الوصّافينَ الكبارِ كتنظيف (قِدرَةِ) الفول وكَمرها، ولفِّ النحلةِ اللعبة (المخروطة الخشبية الدوارة)، وكتعامل موظفي محلِّ القماشِ مع الزبائن، تنضفرُ هذه الوقائعُ مع تفاصيلَ أسطوريةٍ تنهلُ من معينِ التراثِ الشعبيِّ المصريِّ والإسلاميّ، والروايةُ مكتنزةٌ بالفعلِ بهذه التفاصيلِ الأسطوريةِ فلا تكادُ تخلو صفحةٌ منها من تفصيلةٍ جديدةٍ فيما يجعلُها سجلاًّ روائيًّا للتراثِ الشعبيِّ المصريِّ والإسلاميِّ، ومن أمثلةِ ذلك: أسطورةُ الوَحَم، ومصيرِ الجنين المرتبط بنوع الثمرةِ التي تَحِمُ عليها أمُّه، وظهور الثمرةِ في جسدِهِ كتشوهٍ بارزٍ إن لم تتناول أمهُ هذه الثمرةَ كما طلبتها حكاية (أم البنين) الجنية التي تسكنُ تحتَ الأرضِ وتترصدُ أرواحَ المواليد الذكور وحكايةُ زواج الجنياتِ من الإنس حكايةُ الدُّمَي والثمار المرتبطة بالأمراض، وهي هنا ثمرةُ الباذنجانِ التي اتخذتها الدايةُ علامةً علي مرضِ بنت الثريِّ وجعلَت ذبولَها علامةً علي شفاءِ الفتاةِ ووجوبِ تزويجِها من الأراجوز حكاية عيون ملَك الموتِ التي بعددِ الأحياءِ والتي ما إن ينطبق جفنا عينٍ منها حتي ينتهيَ أجلُ الشخصِ الموكلةِ به تلك العين .. إلي آخر ذلك .. إلاّ أنَّ حكايةً أسطوريةً كتلوّن الصبي الأراجوزِ كالحرباءِ، تبدو غير مستغلةٍ بما يكفي لأن تُصَدَّرَ الروايةُ بمقولة: «يقولون إن الإله قد منح الحرباء المقدرة علي التلون بلون ما تقف عليه حتي تختفي من أعدائها الطبيعيين .. الحرباء باتت لا تعرف اللون الذي خُلِقَت عليه» .. فالأظهَرُ طيلةَ الروايةِ هو اللعبُ علي تيمة الأراجوزِ اللاعب، وفي رأيي أنه لم يتم استثمارُ تيمة التلون الحربائيِّ رغم ثرائها، وكانت تيمة الأراجوز كافيةً تمامًا بما يخدمُها من أساطيرَ أصغر تظهر من صفحةٍ لأخري .. لكنَّ هذا الزحامَ من الأساطيرِ بالإضافةِ إلي تسمية الشخصياتِ بأدوارِها والجمل القصيرة كما في هذه الفقرة: «أخت زائر القبور تنتزع نفسها من مقيديها. تهرع صوب الأراجوز. تجثو أمامه. عيناها باكيتان. لسانها عامر بالشكر العرفان. يتركها وينصرف دون أن يعرّف نفسه. تطلعوا إليه وهو يبتعد وقد شملهم الصمت» .. لغةٌ سينمائيةٌ مشهديةٌ تشبهُ لغةَ كتابةِ السيناريو .. جماعُ هذه الحقائقِ السرديةِ يخلقُ حاجزًا عاطفيًّا بين القارئ وبين شخصياتِ الرواية، فلا يصبحُ التعاطفُ والتوحدُ مع أيٍّ من الشخصياتِ شيئًا مبذولاً في يُسرٍ، وأظنُّ هذا الأثرَ الجانبيَّ لهذه التقنياتِ يكاد يقتربُ من الحتمية، ورُبّما يكونُ مقصودًا في إطارِ الحسِّ الپانوراميِّ الذي يروي به (أحمد سمير) روايتَه، ليبقي في وعي المتلقّي في النهايةِ إدراكٌ معقَّدٌ مستسلمٌ لحتميةِ التكرارِ ولانهائيةِ الأحداثِ وللخواءِ الكامنِ في لُبِّ عالَم الرواية .. وأخيرًا، فعنوانُ الروايةِ يكرّسُ هذه الحالةَ المتصالحةَ مع التكرار واللعب والقدَريةِ والخواءِ، فهكذا تنبجسُ الدلالاتُ اللغويةُ من لفظة (سِفر) المرتبطةِ في الوعي الجمعيِّ بأسفارِ العهد القديمِ المقدسة .. (سِفر الأراجوز) هو كتابُ اللعبِ المقدَّس!