المتابع للفنان التشكيلي, فنان الكاريكاتير محمد عفت الذي نشأ في هذا المناخ الكوزموبوليتاني.. حيث حي شبرا العريق.. وسط جو شعبي يعتريه حسن الجوار وتسامح الأديان رغم اختلاف الثقافات والجنسيات.. وسط البيوت التي تمتزج صفوفها بالمساجد والزوايا والكنائس والأديرة في آن واحد دون تمييز أو تنافر.. والباعة الجائلين والأسواق المزدحمة.. سيدرك أن عفت لم يأت لينشأ في هذه البيئة عبثا. فقد كان من المفروض حسب ما هو مرسوم لخطه الدراسي الأكاديمي التقليدي أن يمارس تخصصه كمصمم للديكور بحكم دراسته بقسم الديكور بالمعهد العالي للفنون المسرحية أوائل السبعينات من القرن الماضي.. وهو تخصص يعتمد علي قراءة النص المسرحي ومعايشته للخروج بمنظور مترجم لأجواء النص ويطرحها علي المخرج لتكتمل المعالجة وسط أجوائها الدرامية. لكن عفت المتمرد يري ما لايراه الآخرون.. يسافر إلي أوروبا فترة الإجازة الجامعية ليبحث عن ضالته..ينقش بخطوط ساخرة علي الورق الأبيض فيحيله إلي حياة مختزلة بالأبيض والأسود وبدون تعليق.. فيندهش الآخر الذي لا يشاركه لغته ولا حياته اليومية ولا تعليقاته اللفظية الساخرة..لكن ثمة لغة إنسانية مشتركة تولدت من خلال هذه الخطوط البسيطة بينه وبين من حوله من الرسامين الأجانب علي الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط.. ليدرك مبكرا أن دور الكاريكاتير ليس مجرد الإضحاك..لكنه فن إنساني.. معني بالمرح والتأمل والفلسفة في آن واحد.. فيقرر العودة إلي مصر ليكمل دراسته الجامعية..ويغوص أكثر في عالم سري من الفنون الشعبية التي تثري حياتنا المصرية.. فيرصد مالا نراه من مخزونه البصري منذ فترات الطفولة فيجسد لنا لوحات عن (الحاوي) الذي كان يجوب الشوارع وتحلق الأطفال المنبهرين حوله.. والأراجوز بشخصياته وحكاياته..حتي ونس الجارات بالحكايات من الشرفات والشبابيك وهن ينشرن ملابسهن والسرادقات وميكروفونات المقرئين والعطارين وباعة الكشري بعرباتهم الملونة بألوانها الشعبية..فرحة الأطفال بالعيد ومراجيح المولد ولعبة (النشان) بالبنادق المصوبة لضرب البمب, حلقات الذكر في السرادقات.. حفلات الزار بأزيائها المميزة ودفوفها لإخراج العفاريت بالأهازيج والبخور..حتي سبوع المواليد الجدد وأكواب المغات والغربال الذي يوضع فيه الطفل والهون الذي يدق بجوار أذنه بالوصايا السبع وخلاصة حبوب السبع.. حتي الباذنجانة التي تضعها المرأة الوالدة حديثا (النفسة) والتي كانت تعلق بجوار السرير.. لعبة (السيجا) بخطوطها الطباشيرية..شهر رمضان بزينته وصناعة الكنافة..صواني كعك العيد..و(المستعجلة)الخشبية التي كنا نلعبها قديما.. عجلات الأطفال التي تستأجر..حلوي المولد النبوي من عروسة وحصان وغيرها من الأنواع.. صانع الحلاوة العسلية..باعة الترمس.. قدور الفول المدمس وباعة العرقسوس..وغيرها من اللمحات الشعبية المغرقة في المحلية..والتي يرسمها عفت ببساطة الأطفال وأرواحهم.. فجاءت أعماله أمينة حتي في الألوان الفجة التي كانت عليها الأشياء حينها..فهو لم يشأ أن يغير منها أو يجعلها أكثر تهذيبا.. لكنها تخرج إلينا آخر الأمر علي شكل لوحة فنية مكتملة بصريا وتشكيليا.. دالة علي بيئتها المصرية وأصالتها الشعبية.. وعلي النضج التشكيلي للفنان عفت الذي تمرس طويلا علي استخدام خامة الايكولين الشفافة لتخرج ألوان لوحاته أكثر بريقاً ونصوعا وروعة..عن عوالم اندثرت أو كادت تحت دعاوي المدنية والحداثة..وهو ما جعل اتحاد الكاريكاتير الاوربي (فيكو) يعتبره عضواً بارزا به منذ تأسيس الاتحاد ومديراً لفرعه بمصر.. واختياره قوميسيرا ومحكما دوليا للعديد من مهرجانات الكاريكاتير العالمية بأوربا وأمريكا اللاتينية.. وتصبح أعماله الفنية الموزعة في مصر وعواصم ومتاحف أوروبا المتخصصة في فن الكاريكاتير والفن الشعبي حافظا وشاهدا علي ما كانت عليه الحياة في مصر في عصر من العصور.