جابر عصفور وأمل دنقل يعود الفضل إلي المفكر التنويري والناقد الأدبي الكبير جابر عصفور في قراءة التراث والحداثة العربيين والغربيين قراءة تجديدية معاصرة: نقدا ورواية، فكرا وشعرا، قديما وحديثا ومعاصرا. يحظي الشعر العربي المعاصر بمساحة هامة في الخريطة النقدية لدي جابر، تجلت في كتاباته عن محمود درويش وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وصديقه الحميم أمل دنقل بشكل أكبر، وقد ساعدته في ذلك عوامل عدة؛ منها مجايلته وصداقته. وتزخر الساحة الأدبية العربية بصداقات أدبية متينة عبر عصورها المختلفة، ولعل أمتنها الصداقة الشعرية النقدية، ففي زمننا الحديث يكاد يكون لكل شاعر صديقه الناقد، كما كان لكل شاعر راويه. ولعل الوقوف عند الأسماء التالية: أدونيس وكمال أبو ديب، محمود درويش وصلاح فضل، محمد الماغوط وكمال خير بك، أحمد عبد المعطي حجازي ورجاء النقاش، أحمد المجاطي ونجيب العوفي.. أمل دنقل وجابر عصفور... هذه الأسماء وغيرها، وإن ربطتها علاقة الصداقة،فإن الكتابة النقدية الموازية لهم انطبعت بالموضوعية التي يفرضها الشعر الحصيف، والغربال النقدي النظيف، فجاءت عالمة بأدق تفاصيل هذه التجارب الشعرية وكيفية تخلقها وتشكل وعيها الجمالي. جابر عصفور وأمل دنقل: ترجع علاقة الناقد الدكتور جابر عصفور بالشاعر الكبير أمل دنقل إلي فترة متقدمة من حياتهما الأدبية،من قصائده الأولي إلي مثواه الأخير، حيث دفن في »القلعة». يعود الفضل إلي الناقد جابر في التعريف بأمل، كما يرجع الفضل لأمل في كونه »تسلمه ناقدا أكاديميا متخشبا منغلقا علي عالم الكتاب، وساعده علي أن يكون ناقدا متحررا من الدوجما الأكاديمية، ومكتسبا للخبرة الحياتية»1، ومن ثم فإن علاقتها بنيت علي نوع من التكامل الأدبي. شعر أمل دنقل في نقد جابر عصفور: إن المتتبع للنتاج الفكري والنقدي لجابر عصفور، واجد لا محالة تمازجا بين المناهج والنظريات والأفكار والقراءات العميقة التأملية للتراث والحداثة عربيا وغربيا، وقد أتاحت له ظروفه السوسيو ثقافية في تمثل ذلك وهضمه والاستفادة منه في تنظيراته وتطبيقاته النقدية. فمنذ التحاقه بالجامعة سنة 1961، إلي أن أصدر كتابه المائز »الصورة الفنية في التراث البلاغي النقدي»، مرورا بما كتبه من قراءات نقدية للتراث الغربي والعربي، والرواية والشعر والنقد ونقد النقد والتأمل في المجتمع العربي... جعلت منه ناقدا ملتزما تأمليا نظريا عقلانيا، ثم فلسفيا تنويريا عبر مساره الفكري المتميز. كل هذا، لم ينسه في صديقه الشاعر أمل دنقل، فمن خلال تتبعنا له في الآونة الأخيرة، نتفاجأ بالكم الهائل من الدراسات القيمةعنه،وكانت مجلة العربي الكويتية وما تزال واجهة لإعادة أمل دنقل إلي شرفات الحياة الثقافية، من خلال مجموعة من الدراسات، نذكر منها تمثيلا لا حصرا: الشاعر الرائي/ سخرية المقموع/ عن شعرية أمل دنقل/ ذكريات أمل دنقل/ قصيدة مجهولة لأمل دنقل/ الاحتفال بأمل دنقل... دون أن نغفل كتابيه الهامين الصادرين مؤخرا: »أمل دنقل... ذكريات مقالات صور»(دار بتانة للنشر والتوزيع 2017)و »قصيدة الرفض: قراءة في شعر أمل دنقل»( الهيئة المصرية العامة للكتاب 2017) وهي ظاهرة قلّ نظيرها في أدبنا العربي الحديث؛ أن يخصص ناقد كتابين لتجربة شاعر واحد.لا يشبهه في ذلك إلا الناقد المغربي حسن الغرفي في كتابيه: »أمل دنقل: التجربة والموقف»(إفريقيا الشرق1985) و»النشيد الأبدي: أمل دنقل، سيرة شعرية ثقافية»(2003). في كتابه الأول، يضع الناقد التنويري جابر عصفور يد القارئ العربي علي مجموعة من الوثائق والمستندات الدالة إلي حياة وعالم »أمير شعراء الرفض»من صور شخصية وعائلية، ورسائل وحوارات وقصائد مهداة إلي الشاعر وأخري بخط يده، ومقالات نقدية وذكريات لا تنسي... أما الكتاب الثاني، فهو خلاصة سنوات من القراءات التأملية والنقدية للمنجز الشعري »الدنقلي»... وقد انطلق الناقد من الرفض أطروحة مؤسسة للكتاب وعصبا للقصيدة الشعرية في تحولاتها من البداية إلي النهاية، قارب فيه مجموعة من القضايا والاشكاليات كالرؤيا والمدينة والرفض والموت... خصائص ومميزات نقد جابر عصفور لشعر أمل دنقل: إن أهم ما يميز نقد الدكتور جابر لشعر أمل دنقل هو جمالياته وإضافاته؛ وتتجلي في المعرفة الدقيقة بخبايا الشعر العربي المعاصر، وشعر أمل دنقل تحديدا، وقد ساعده في ذلك اقترابه منه لمدة طويلة، ضف إلي ذلك أن جابر أخد مسافة من رحيل الشاعر، استشفاء من صدمة الموت، واختمارا للتجربة بالممارسة والاستيعاب والنقد، ومجابهة للموت الحياتي والشعري بالتجديد النقدي. كما تميز نقد جابر بمجموعة من الخصائص نجملها فيما يلي: الحقيقة النقدية، حسن التأويل، عدم جاهزية المنهج والتخييف من وطأته، أو الانتقال من صرامة المنهج إلي ليونة »القراءة»، المعرفة الشخصية الدقيقة بالشاعر والقصيدة، القراءة الثنائية نسقيا وسياقيا وفق رؤية متوازنة، كما أن نقده يحتكم إلي الذوق والعقلانية »فقد ظل أمل أقرب المبدعين من الشعراء إلي قلبي وعقلي،»2 كما أن نقده يمثل »شهادة» علي فترة عربية بعجرها وبجرها، تطلعاتها وانكساراتها. الملاحظ أن الكتابة النقدية للناقد جابر عصفور كتابة نقدية متطورة »مدنية» عقلانية تنويرية، أما في الشعر المعاصر فقد ظل وفيا لرموز الحداثة: محمود درويش، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، أمل دنقل.. فهل تجنبا منه للرداءة ورفضا للشعريات المتهالكة؟ أم أحس بأن صديقه أم لبدأ يتناسي؟ أم أن الزمن العربي راهنا، زمن الرفض ويحتاج إلي من يقول »لا» في وجه من يقولون »نعم».؟ وأهم ما أعطي القيمة لهذا النقد، هو أن صاحبه »آمن بالدور الّذي يقوم به كل من الشّاعر والناقد علي نحو تغدو به كتابة النقد مرادفة لكتابة الإبداع، بمعني الذي يحول الكتابة إلي حياة.»3. وقد ظل وفيا لروحه، محوِّلا الكتابة عنهُ إلي حياة متجددة. ومن جهة أخري، لا يمكننا أن ننفي حضور أمل دنقل في المدونة النقدية لجابر عصفور، وقد ساعد ذلك علي حضوره في ثقافتنا العربيّة الراهنة مشرقا ومغربا، وتواتره عبر تاريخ من القراءات والنقود، وذلك بفضل مجهودات الناقد التي دلّت الكثير من المهتمين إلي عالم شاعر الفرح المختلس والباكي بين يدي زرقاء اليمامة.! من هنا، نخلص إذن؛ والحالة هذه، إلي أن شعر أمل دنقل ونقد جابر عصفور في فَهْمِهِما العميق تكامل بين ثقافة الوعي النقدي، وجمال وعمق التجربة الشعرية وصدقها، من ثم، فهما لا يقرآن منفصلان، إنهما وجهان لعملة واحدة، ويكملا بعضهما البعض، أليس وراء كل شاعر عظيم ناقد كبير؟وأن الشاعر الكبير لا يناسبه إلا الناقد الكبير،أليس الناقد مكملا للشاعر.؟ وبذلك يكون الدكتور جابر عصفور قد قدم نقدا حيا ضد فعل الموت، محولا بذلك الكتابة إلي حياة متجددة متواترة، ضمن مشروعه الفكري التنويري المتواصل. المصادر والمراجع: 1 جابر عصفور، ذكريات أمل دنقل، مجلة العربي، عدد أغسطس 681،س 2015، ص: 20. 2 نفسه، ص: 21. 3 جابر عصفور، الناقد وثقافة الوعي الأدبي، حاوره أحمد عنتر مصطفي، مجلة الأقلام العراقية، عدد7، يوليو 1984، ص: 111.