حين تجلس إلي العالم الجليل د. حسن الشافعي الذي يعد رئيسا «شابا» بمجمع اللغة العربية، وقد عبر بنجاح إلي عقده السابع - أطال الله عمره- يفيض عليك إحساس بأنه رجل موسوعي، فتحار من أي باب تدخل إلي عالمه الثقافي؟ أمن باب اللغة فلسفة وجمالا وحسنا؟ أمن باب التصوف الذي وصل إليه بعد أن اتصل، لكنه لم ينفصل طبقاً للتجلي الصوفي.. من وصل اتصل، ومن اتصل انفصل..؟ أم من السياسة وهو صاحب رؤية ثورية كامنة في الأعماق منذ فترة الخمسينيات ولم يزل متوهجا وإن اشتعل العمر شيبا فما وهن الفكر لحظة أو يري أن ثورة 25 يناير ستكون المحركة للذات الحضارية المصرية والعربية لابتعاث نهضة كاملة شاملة. أم من باب العالم الأزهري وهو عضو هيئة كبار العلماء وكبير مستشاري شيخ الأزهر، ورئيس وفد الأزهر بالتأسيسية؟ عتبات كثيرة تفضي إلي القلب النابض بالحيوية الفكرية والوجدانية والعلمية - لكن »أخبار الأدب« آثرت أنسب العتبات، باعتبارها منبراً ثقافيا وأدبياً.. صحيح أن الحوار كان شاملاً ومتداخلاً، الا أنني سلكت خيطا واحداً. في الطريق إليه.. تسلقت شجرة الذاكرة منذ أربعين عاما عبر متابعتي «لمجمع الخالدين» نشاطا وبثا، واحتواء، وحراسة للغة الضاد. مؤتمرات شتي تصرخ في كل مرة لحماية العربية، توصيات لاحصر لها كلها ترفرف حول الرعاية والحماية والحراسة والصيانة والصياغة ليس فقط للغة كلغة بل لجمالياتها وعبقريتها وفلسفتها وفقهها.. أما آن الأوان.. لكسر دائرة »الرجاء« واللجوء إلي »الفعل« و»الفعل الثوري» إزاء «انتهاك» حرمة اللغة العربية، و »انتهاء« العبث بجواهرها وظواهرها. ماذا أنتم فاعلون أيها الرئيس؟ قال رئيس مجمع الخالدين: علي الرغم من أن السنوات الأخيرة من النظام السابق صدر عنها، عبر البرلمان، قانون يعطي للمجمع قوة الضبطية وحق مقاضاة المخالفين لتصوياته وقراراته، فهذا القانون - وهو في الأصل صدي للدساتير العربية التي تنص علي ان مصر دولة عربية، دينها الإسلام، إلا انه وقد تعجب. من انه »الوزراء المباركيين« ومن بعدهم حتي في أوائل الثورة، لم يسمحوا بنشر القانون في الجريدة الرسمية حتي تصبح ملزمة لأجهزة الدولة وهيئات المجتمع، لكن وزراء التعليم العالي لم يسمحوا بنشر هذه الأشياء وقد صارحنا الوزير، فجاءتنا بشري من جريدة »الوقائع العربية« وفي صدرها توصيات مجمع اللغة وقراراته والاعتراف بها. ولكن المجمع رأي ان نبدأ الأمر بالترغيب قبل الترهيب. وأقمنا لذلك صندوقا - أو وقفا- نستطيع من خلاله ان نكافيء أحسن مذيع، وأحسن صحفي يحترم لغته، وأحسن صحيفة وأحسن قناة فضائية، لأن الحديث بالعامية.. في هذه الوسائل إهانة للغة العربية في عقر دارها. هذا الصندوق الذي يعتمد علي تبرعاتنا الخاصة، نرجو أن تدعمه الدولة، وبعض المؤسسات في الداخل والخارج. نحن سنلجأ إلي سلاح التشجيع والترغيب، فاذا لم يجد، سنبدأ من العام القادم برفع الدعاوي إلي النائب العام ضد هذه الهيئات المخالفة رسمية كانت أم خاصة، حتي يلتزم الناس بدستورهم وقانونهم وروح مجتمعهم. ان الكنيسة المصرية، منذ القرن الثالث والرابع الهجريين غيرت لغتها لغة الخطابة والدعوات والتوجيه إلي اللغة العربية، وفي هذا اعتزاز بطبيعة الشعب المصري، وهنا تبدو الغرابة إذا بعد أكثر من ألف وخمسائة عام وفي الألفية الثالثة للسيد المسيح نعود إلي استخدام العامية ونقول هذه لغتنا. هذا ليس إلا عودة إلي دعوات استعمارية مضللة هي التي دفعت الشاعر الكبير حافظ ابراهيم ليقول قصيدته الشهيرة: أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي وقانا الله السياسة يضيف د.الشافعي: ان مهمتنا علمية وبحثية وجهة مشورة، ولنا الآن حق الضبطية اللغوية بمعني مقاضاة المخالفين الذين ينتهكون حرمة اللغة لكني لا احب ان اخلط عمل المجمع بالأمور لانسمح للسياسة أن تتدخل في شئون المجمع.. وقانا الله شرها ويفسدونها فالمجمع ربما كان المؤسسة الوحيدة التي لم تتأثر بالسياسة في العهد الأغبر السابق، واذكر لك ان الدكتور احمد هيكل -رحمه الله- لم ينتخبه أعضاء المجتمع إلا بعد ان ترك وزارة الثقافة، رغم انه رشح عدة مرات، لأن لدينا قناعة بان المرشح اذا كان يشغل منصبا لاينتخبونه إلا بعد ان يخرج منه. فهذا المجتمع وقاه الله تدخل السياسة والسياسيين ومع ان الكثيرين كانوا يطالبوننا بالتمثيل في الجمعية التأسيسية باعتبار ان ذلك عمل وطني وان لدينا كنوزا من الخيرة المصرية في فروع العلم المختلفة حيث لدينا 12 لجنة في علوم الكيمياء والفيرياء والرياضيات وغيرها، الا انه ليس من المستحب ادخال السياسة في شئوننا. حاولوا توريطنا قلت للدكتور حسن الشافعي: لكن الساسة والبرلمانيين حاولوا «توريط» المجتمع في اللعبة السياسية الحزبية حين طلبوا اللجوء اليكم لتفسروا كلمات الشتائم والسباب التي اطلقها ذلك العضو في حق المشير حسين طنطاوي قبل فترة؟ نعم.. كانت محاولة لتوريط المجمع في النواحي السياسية، وكنا يقظين، اذ امتنعنا عن ابداء الرأي الا اذا استمعنا وشاهدنا «الوسائط» التي سجلت هذا الموقف من العضو البرلماني وعندما احضروها، نحينا الآراء الشخصية التي ابداها البعض ورأينا المعاني والاشارات والتلميحات و كلها لاتليق في الكلام والخطاب بل هي تدخل ي باب السب وشتم الإنسان بما لايقتضي. برلمان الجلاليب! قلت لرئيس مجمع الخالدين الذي يضم حراس لغة الضاد: كيف ترون مستوي الأداء اللغوي والفكري بالتبعية من قبل أعضاء البرلمان وهم يسبون بعضهم ويشتمون الآخر، بلغة اقرب الي السوقية، بعيدة كل البعد عن تاريخ هذا البرلمان العريق حيث كان النواب يتبارون ويتجملون باللغة السليمة والمنطق الواضح والبيان الرفيع حتي في ازيائهم وملامحهم عكس الذين يذهبون الان- قبل الحل- بالجلاليب والشباشب؟ هل يرتقي الأعضاء في لغتهم لعلهم يرتقون في فكرهم واللغة والفكر لاينفصلان.. أليس كذلك؟ وعفوا ان اطلت السؤال.. فالغيظ ينفجر؟ كلامك هذا لفت نظري فيه انهم حتي اذا سبوا فانهم كانوا يسبون بلغة راقية لابلغة ليبست سوقية، ولا تحمل اية اهانات، وقد ذكرتني بالبيروني الذي ذكرناه، رغم انه فارس اللغة، فانه كان يقول: لان يشتمني احد بالعربية خير من ان يمدحني بها. كنت اذهب- وانا ازهري صغير- الي محكمة الاستئناف واستمع الي المحامين والقضاة خاصة مكرم عبيد، احد كبار المحامين المصريين حيث يتحدث بلغة راقية رفيعة، وكذلك مصطفي النحاس باشا وغيرهم، وكان مكرم عبيد يقول انا قبطي الدين، مسلم الثقافة، وكان يقول ذلك وهو في فلسطين اثناء رحلته الي العالم العربي. فهؤلاء كانوا متعلمين ومثقفين ويحترمون شعبهم ومستمعيهم. منذ منتصف القرن الماضي وبعد عام 1952 للأسف كنا علي عهد فيه بعض الفساد ولما حكمنا الذين لم يتثقفوا ولم يكونوا اهلا لان يصونوا اللغة العربية منهم من اذا تكلم ينزل، لا اقول اضعف وانما احط مستويات اللغة، ويشتم بالأم والأب -كما نعلم جميعا- وجاء بعدهم من لايحسن مباديء القول، وكنت عندما استمع الي زعيم عربي يتكلم مع رئيس مصر اشعر بالاشفاق. الحقيقة ان كل ذلك لن يتغير الا اذا تغيرت اخلاقيات وثقافة الخمسين سنة الأخيرة الي مستوي رفيع واساليب عربية جميلة، كان يستعملها السياسيون المصريون قبل ان يستعملها الأدباء والمثقفون والسياسيون الآن. البرلمان حاول توريطنا في قضية العضو الذي سب المشير طنطاوي أقول للأعضاء القادمين ان مجلس الشعب هو انعكاس لحالتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والعامة.. هل توافقني الرأي وماذا انت قائل للقادمين الي البرلمان؟ أقول لهم اذا كنتم صادقين في انكم تمثلون الشعب وانكم تغارون علي دينه، فان العربية هي لغة القرآن الكريم، وان العربية هي وعاء ثقافتنا وهي عمود خصوصيتنا الحضارية، ونحن بدونها لاشيء ومالم نتكلم العربية ونفكر بها، ونتذوق الحياة بها، ونعبر بها ونبدع -ايضا- في العلم والفكر بها ، فلن نستطيع أن ننتقل من عملية استهلاك أدوات الغرب وأفكار الغرب، إلي إبداع الفكر وإبداع التكنولوجيا، فالمرء لايبدع إلا في لغته. مصطفي أمين كان إضافة للجميع قلت للدكتور حسن الشافعي صاحب العديد من المؤلفات والكتابات الأنيقة: آخر عضو صحفي دخل مجمع اللغة العربية كان استاذنا مصطفي أمين قبل عشرين عاما أو يزيد. فأين الأعضاء الصحفيون لديكم، والصحافة خدمت اللغة كثيرا؟. قال الذي عنده علم من الإعلام واللغة وعالم الماوراء: اولا الاستاذ مصطفي أمين كان اضافة للمجمع وان كان في الحقيقة ظروفه المهنية ووقته لم تسمح له بأن يحضر الإجتماعات أو يشارك في اللجان، عندنا العضو لابد ان ينتظم بحضور، المجمع يدرس منذ 1934، من الحادية عشرة من كل يوم اثنين ينعقد بأغلبية محسوسة، ولابد للعضو من الاشتراك علي الأقل بلجنتين علي الأقل سواء كانت علمية أو خلافه ونحن نود أن يشارك أعيان الصحافة المصرية، في المجمع، ولكن يكون لديهم من الوقت مايعينهم علي الإسهام، لأن عضوية المجمع في الحقيقة، وإن كان المجتمع المصري ينظر عليها بإحساس رفيع، ويسميها «الخالدين» فهي ليست تكريما فقط، وانما هي عمل وجهد وآخر أعضائنا الذين انتقل إلي رحمة الله وكان صاحب مكانة عالمية، وهو الاستاذ الدكتور محمد عبدالفتاح القصاص الخبير الأول للبيئة في هيئة الأممالمتحدة، كان يقول ليتكم جئتم منذ عشر سنين وأنا في قدرتي علي العطاء. نحن نعترف بأن الصحافة لها دور كبير في خلق اللغةيوية المرنة السهلة التي نسميها بفصحي العصر، نحن لانريد العودة إلي فصحي التراث بالضرورة، فمن شاء فليفعل، ولكن نريد اللغة الفصيحة، فصحي العصر الحاضر، وأنتم صانعوها أو من بين صانعيها. اذكركم ب»توفيق دياب« أنا أقول لكل من يكلمني: أنظروا إلي العدد الأول مثلا في مجلة الهلال، وانظروا إلي لغته اليوم، فستجدون ماذا قدمت الصحافة المصرية، ونحن في العامين الأخيرين، خصصنا الموضوع المحوري للمؤتمر السنوي للمجمع، مرة اللغة العربية في التعليم المصري، ومرة اللغة العربية في الإعلام العربي. فنحن نعرف قيمة الإعلام ونرجو ان ينضم وان كان بين الأعضاء الحاليين من له اهتمامات صحفية شارك في بعض الإصدارات الصحفية هنا وفي الخارج ، لكن أن يكون صحفيا، يجعل للمجمع من وقته مايسمح بالعطاء والأداء، فنحن سنكون الأسعد، وأنا أذكر الأجيال الصحفية الموجودة الآن باسم الصحفي الكبير «توفيق دياب» ، خطيب الثورة المصرية والحياة السياسية، ان هذا الرجل لن يتكرر. الآن ، نريد الصحفي الأديب، المتهم باللغة العربية، ونود أن يتي إلينا، البعض يقولون رشحنا نساء ورشحنا من إخوتنا الأقباط، وأنا من رشح أكثر مرة الاستاذ وديع فلسطين، وهو أديب محترم من الحراس القدامي للغة العربية، هذا الرجل لديه العديد من أسرار الحياة الأدبية المصرية. ومازال يكتب ويحرر في العديد من المجلات الأدبية ولدينا الآن أماكن شاغرة ليست بالقليلة، لعل وعسي ان نرزق بصحفي ماهر وأديب وخطيب، وهذا ما نحرص عليه.