من آلام الشباب صور الحلم I حلمتُ ذات مرة بحرارةِ الحبَّ الشديدة، بخصلاتِ شعرٍ جميلة، بالريحان وزهورِ البليخاء، بشفاهٍ عذبةٍ وحديثٍ مرير، بأغانٍ حزينة ذات ألحانٍ حزينة. بهتَتْ الأحلام وتذرَّت منذ زمن، تطاير أعزُّ أحلامي! بقي معي فحسب، ما سكبتُه ذات مرةٍ في قوافيَّ الرقيقة. بقيتِ أنت، أيتها الأغنيةُ اليتيمة! فلتتذرِّي الآن أنتِ أيضًا، ولتبحثي عن ذلك الحلم الذي غابَ عنِّي طويلاً، ولتُبْلغيه تحيَّتي، إذا ما عثرتِ عليه إلي ذلك الخيال الرقيق أبعثُ بنفْثَةٍ رقيقة. » لماذا يجيشُ دميَ العِرْبيد ويثورُ هكذا؟ لماذا يتأجَّجُ قلبي في النيرانِ الطاغية؟ يغلي دمي ويُزْبدُ ويمور، ويلتهم الوهَجُ الساخطُ قلبي. يُعْربدُ دمي ويَغْلي ويُزْبد، لأنني حلمت ذلك الحلمَ الشرير؛ جاء ابنُ الليلِ المظلم، وأبعدني لاهثَ الأنفاس. أحضرني إلي منزلٍ مضيء، حيث رنينُ قيثارةٍ وبحبوحةٍ من العيش وتبذير، ووهَجُ مشاعل وضوءُ شموع؛ وصَلْتُ إلي القاعة، وخطوتُ داخلاً. كان هناك احتفالٌ بعُرْسٍ بهيج؛ علي المائدة جلس الضيوفُ مرحين. وفيما أنظرُ إلي العروسين آه ياللأسي! كانت حبيبتي هي العروس. كانت العروسُ حبيبتي، ورجلٌ غريبٌ هو العريس؛ خلف كرسيّ العروس، ظللتُ واقفًا، دون أن أحدثَ صوتًا. تهدرُ الموسيقي فيما ظللتُ واقفًا؛ أصابتني ضَجَّةُ الفَرَح بالحزن. العروس، ترنو في منتهي السعادة، والعريس يشدُّ علي يديها. يملأ العريسُ الكأس، ويشربُ منها، ثم يناولها بلطفٍ لعروسِه؛ فتضحك شاكرة آهٍ يا للأسي، دمي كانوا يشربون. أخذت العروس تفاحةً لطيفة، وناولَتْها للعريس. فأخذ سكِّيَنه وقطعها آه ياللأسي، كانت هي قلبي. تغْمِزُ العروسُ بعينها في عذوبة، تغْمِزُ بعينها طويلاً، يطوِّقُها العريسُ بجرأة، ويقبِّلُها فوق خديها الأحمرَيْن آه ياللأسي، فيما تقبِّلني برودةُ الموت. كالرُصاص استلْقَي لساني في فمي، حتي إنني لم أستطعْ أن أنطقَ بكلمة. وما إن هدرتْ الموسيقي، حتي بدأَ الرقص، والعروسان المُزَيَّنان بالحُليّ يرقصان في المقدمة. وفيما كنت أقفُ صامتًا، يدور الراقصون مُحَلِّقين بخِفَّة؛ وينْبِسُ العريسُ بكلمةٍ خافتة، فتحْمَرُّ العروس، لكنها لا تغْضَب... الأغاني I في الصباح أنهضُ وأتساءل: أتأتي محبوبتي الرقيقةُ اليوم؟ في المساء أرْتَمي وأبكي: بقيَتْ اليومَ أيضًا في الخارج. في الليل مصاحبًا همِّي أستلقي مستَيقظًا دون نوم؛ وشِبْهَ غافٍ أتجوًّلُ حالِمًا في النهار. II ثَمَّة ما يدفَعُني هنا وهناك! كلُّها ساعاتٌ قليلة، وأتمتَّعُ برؤيتِها، هي نفسها، أجمل الجميلات؛ أيها القلبُ الوفيّ، لماذا تخفقُ متثاقلاً هكذا! بَيْد أن الساعاتِ شعبٌ كسول! تُجرجر خطاها متثاقلةً في ارتياح، وتنسَلُّ متثائبةً علي الطرقات أَسْرِعْ، أيها الشعبُ الكسول! إن جنونَ السرعةِ يتملَّكُني دافعًا إياي! بيد أن الساعاتِ لم تعرف العشقَ أبدًا خِفْيةً في عُصْبةٍ وحشيَّةٍ متماسكة، تسخرُ في خُبْثٍ من عَجَلة العشَّاق. IV محبوبتي اللطيفةَ، ضعي يدَكِ علي قلبي آهٍ، أتَسْمعين، كيف يخفقُ في تلك الحجرةِ الصغيرة؟ حيث يقِطُنُ نجارٌ ماكرٌ وشرير، ويَنْجُرُلأجلي تابوتًا. يطرقُ ويدقّ أثناء الليلِ وأثناء النهار. لقد أيقظني من النومِ كثيرًا. آهٍ، فَلْتُسْرِعْ، يا سيِّدَ النجَّارين، كيما أستطيع أن أنامَ قريبًا. V يا مَهْدَ أوجاعي الجميل، يا شاهدَ القبرِ الجميل حيث الراحةُ والسكينة، أيتها المدينة الجميلة، يجبُ أن نفترق وداعًا! أناديكِ. وداعًا، أيتها العتبةُ الطاهرة، حيث تتجوَّل حبيبتي؛ وداعًا أيتها البقعةُ الطاهرة، حيث رأيتكِ أوَّلَ مرة. لكنني لو لم أركِ، يا مليكةَ القلوبِ الجميلة! لما حدث أبدًا، أن كنتُ الآنَ بائسًا. ما أردت أبدًا أن أمسَّ قلبكِ، لم أستَجْدِ الحبَّ مطلقًا؛ كنتُ فحَسْب أريدُ أن أحيا حياةً هادئة، حيث تسري أنفاسُك. بَيْدَ أنك تدفعينني خارجًا، بكلماتٍ قاسية ينطقُ فمك؛ ينكأ الجنونُ عقلي، وقلبي مريضٌ وجريح. وأعضائى متهالكةً وثقيلةَ الحركة تتحرك بصعوبةٍ على عصا التجوال، إلى أن أضعَ رأسىَ المُتْعَب فى المستقبل داخلَ أحدِ القبورِ الباردة. VI انتظرْ، انتظرْ، أيها البحَّارُ الجامح، سألحقُ بكَ حالاً إلى الميناء؛ هناك سيِّدتان شابَّتان أودِّعُهما، أوربا وحبيبتى. ينبوعُ دماء، يجرى من عينىّ، ينبوعُ دماء، يتدفَّقُ من بطنى، حتى إننى بدمائى الحارَّة أدوِّنُ آلامى. آهٍ، يا حُبِّى، لماذا اليومَ بالذات تشمئزين، من رؤيةِ دمي؟ أعوامًا طوالًا تريننى أقفُ أمامك شاحبًا ودامىَ الفؤاد. ألا زلتِ تعرفين تلك الأغنيةَ القديمة عن الأفعى فى الفِرْدَوس، التى عبر إهداءٍ خبيثٍ لتفَّاحة رمتْ بجَدِّنا إلى الشقاء؟ جَلَب التفاحُ كلَّ مكروه! جلبَتْ حواء بواسطتِه الموت، جلبتْ إريس لهيبَ طروادة، أنتِ جلبْتِ كليهما، الموتَ واللهيب. VII تتطلَّعُ الجبال والقلاع إلى أسفل فى مرآةِ الراين الصافية، وتُبْحرُ سفينتى فى غِبْطة، حيث تعكس المياهُ ضوءَ الشمسِ اللامع. بهدوءٍ أنظر إلى لَعِب الأمواج الذهبية، تتحركُ مُجَعَّدة، فتستيقظُ فى سكونٍ تلك المشاعرُ، التى طويْتُها عميقًا فى صدرى. تغرى روعةُ النهرِ الواعد الذى يُحَيِّى فى ودٍّ بالنزول إليه؛ لكننى أعرفُه، يتألَّقُ سطحُه، وتخفى أعماقُه الموتَ والليل. على السطحِ الفَرَحُ، وفى الصدرِ المَكْرُ والخديعة، أيها النهر، أنت صورةُ المحبوبة! التى يمكنها أيضًا أن تنحنى محيِّيةً فى ودّ، وتضحكَ أيضًا بوداعةٍ ولطف. IX بالزهورِ، وأشجارِ السرو، والرقائق الذهبية أودُّ أن أزيِّنَ، بلطفٍ وحب، هذا الكتابَ كأنه تابوتٌ، وأحفظَ بداخلِه أغانىّ. آهٍ لَيْتَنى أضعُ فيه الحُبَّ أيضًا! داخل قبرِ الحبِّ تنَبْت زهرةُ السكون، ثم تزهرُ، ثم يقطفُها المرء أما فى قبرى، فإنها تُزْهر فحَسْب حينما أكونُ بداخله. ها هى الأغانى، التى تدفَّقَتْ ذات مرَّة بلُطْفٍ من أعماق الوجدان، مثلَ فَيْض الحِمَم البركانية السائلةِ من إتْنَا، وحولها يتطايرُ الشررُ اللامع! ها هى الآن ترقدُ خرساءَ وشبيهةً بالموتى، تحدِّقُ باردةً وشاحبةً كالضباب. ولكِنْ من جديدٍ ينتعشُ ذلك الأَلَقُ القديم، عندما تحلِّقُ روحُ الحبِّ فوقَها. وينبعث شعورٌ قويٌّ فى قلبي: أن روحَ الحب ستذوبُ ذاتَ مرَّة فوقها؛ عندما يقعُ هذا الكتابُ فى يدكِ، أيتها المحبوبةُ العَذْبة فى البلدِ البعيد. وعندها ينفَكُّ سِحْرُ الأغنية، وتحدِّقُ الحروفُ الشاحبةُ إليكِ، تحدِّقُ متضرِّعةً فى العينِ الجميلة، وتهْمِسُ فى حَسْرةٍ وألم. وأحكمُ الأرض! من رحلة هارتس مقدمة جونلاتٌ سوداء، جواربُ حريريَّة، أساورُ قمصانٍ بيضاءَ مُهَذَّبَة، أحاديثٌ رقيقةٌ، عناق آهٍ، لو لديكم فَقَطْ قلوب! قلوبٌ فى الصدور، وحُبٌّ، حُبٌّ دافئٌ فى القلب آهٍ، تقتلُنى عواطفُكم الجيَّاشةُ النابعةُ من آلامِ حُبِّكم الكاذبة. فوق الجبل أودّ أن أصعدَ، حيث تقومُ الأكواخُ الوَرِعة، حيث يتفتَّحُ الصَدْرُ بحُرِّية، وتهبُّ النسائمُ الحرة. فوق الجبلِ أودُّ أن أصعدَ، حيث تَسْمُقُ أشجارُ التَنُّوبِ الداكنة، تَهْدِرُ الجداولُ، تُغَنِّى العصافير، وتنطلقُ السُحُبُ الأَبِيَّة. وداعًا أيتها الصالوناتُ اللامعة! أيها السادةُ اللامعون، أيتها السيداتُ اللامعات، فوق الجَبَلِ أودُّ أن أصعدَ، ضاحكًا أتطلَّعُ نحوكم إلى أسفل. الغلام الراعي ملكٌ هو الغلامُ الراعى، التلُّ الأخضرُ عَرْشُه؛ فوق رأسِه الشمسُ هى التاجُ الذهبيُّ الكبير. على قدمَيْهِ ترقدُ الشياه، مُتمَلِّقَةً رقيقة، موَشَّحة بالصليبِ الأحمر؛ فرسانُه تلك العجول، التى تسيرُ فى زهوٍ وتِيه. الكباشُ ممثلو البلاط؛ والعصافيرُ والأبقارُ، بالناياتِ، والأجراس، موسيقى الحجرة. ترنُّ وتغنِّى بعذوبة، وبعذوبةٍ يهدرُ معها شلالُ الماء وأشجارُ التَنُّوب، فيَنْعِسُ الملك. فى أثناء ذلك يجبُ أن يحكمَ الوزيرُ، ذلك الكلبُ، الذى يتردَّدُ صدى نُبَاحِه المُزَمْجِر فى الدائرةِ المحيطة. ناعسًا يتمتمُ الملكُ الصغير: « الحكمُ أمرٌ صعب؛ آهٍ، ليْتَنى كنتُ فى البيتِ مع مليكتى! وبين ذراعيّ مليكتى يستريحُ رأسىَ الملكيُّ فى لين، وفى عينَيْها الجميلتَيْن تقعُ مملكتى اللانهائية. فوق جبل بروكن أصبحت السماءُ أكثرَ سطوعًا فى الشرق عبر البصيصِ الضئيلِ للشمس، واسعةٌ ورحيبةٌ قمَّةُ الجبل تسبحُ فى بَحْرٍ من الضباب. لو كان لديّ حذاءٌ عملاق، لجرَيْتُ بسرعةِ الريح، فوق قِمَّةِ الجبل تلك، نحو منزلِ الطفلةِ الحبيبة. من السريرِ، حيث تغفو، أشدُّ الستائرَ بهدوء، بهدوءٍ أقبِّلُ جبهتَها، وياقوتتى فمِها الحمراوين. وبهدوءٍ أكثر كنت أودُّ أن أهمسَ فى أذنيها الصغيرتَيْن الزَنْبقيتَيْن: « فَكَّرى فى الحلم، أننا نحبُّ بعضنا، ولا نفترقُ أبدًا. « من بحر الشمال الدورة الأولى I تتويج أيتها الأغاني! يا أغانيَّ الطيِّبة! انهضي، انهضي! وتدرَّعي! دعى الأبواقَ تُجَلْجل، وارفعينى فوق دِرْعِ هذه الفتاةِ الصغيرة، التى ينبغى الآن أن تحكمَ كملكةٍ قلبىَ كلَّه. بُوركتِ! أيتها الملكةُ الصغيرة! من الشمسِ هناك بأعلى أنتزعُ الذهبَ الأحمرَ الساطع، وأنسجُ منه تاجًا لرأسِك المقدَّسة. من غطاءِ السماءِ الأزرقِ الحريرىّ الخفَّاق، الذى تومضُ منه الماساتُ الليليَّة، أقصُّ قطعةً ثمينة، وأعلِّقُها، كمعطفِ تتويجٍ، حول كتفيكِ الملكيَّتَيْن. أهبُكِ حاشيةً من سوناتاتٍ مجلوَّة، ترَيْبيتاتٍ متباهيةً واستنزاتٍ مهذَّبة؛ كوصيفٍ أهبُكِ فطنتي، وكمُهَرِّجٍ أمنحك خيالى، وكحاجبٍ، بدموعٍ باسمةٍ فى شِعاره، تقومُ على خدمتكِ روحُ دعابتى. أما أنا نفسى، يا مليكتي، فأجثو أمامكِ على ركبتىّ، مبايعًا، وعلى الوسادةِ المخمليَّة الحمراء، أقدِّمُ لك القليلَ من العقل، الذى تركَتْه لي، على سبيلِ الرأفة، مَنْ سبقَتْكِ فى هذه المملكة. II الغسق على شاطئِ البحرِ الشاحب جلستُ مهمومَ الفكرِ ووحيدًا. مالتْ الشمسُ أكثر، وألقَتْ بأشرطةٍ حمراءَ متوَهِّجةٍ على الماء، والموجاتُ البيضاءُ الرحيبة، مدفوعةً من المَدِّ، أزبدَتْ وهَدَرَتْ أقربَ فأقرب خشخشةٌ غريبة، همسٌ وصَفير، ضحكةٌ وهَمْهَمة، تنَهُّدٌ وطنين، فى أثناء ذلك تنبعثُ تهويدةٌ خفيَّة كما لو كنتُ أنصتُ إلى أساطيرَ منسيَّة، خرافاتٍ قديمةٍ وطريفة، سمعتُها ذاتَ مرَّةٍ، وأنا صبىّ، من أطفالِ الجيران، عندما كنا نقرفصُ فى أماسىِّ الصيف، على درجاتِ السُلَّمِ أمام بابِ البيت، نستمعُ إلى الحكاياتِ فى هدوء، بقلوبٍ صغيرةٍ مُصْغية وعيونٍ فضوليَّةٍ رزينة؛ فيما الفتياتُ الكبيرات، كن يجلسن قبالتَنا فى النافذة، بجوار أُصَصِ الزهرِ ذاتِ الأريج، بوجوهٍ متوَرِّدة، باسمةٍ ومنيرةٍ كالقمر. VIII العاصفة تثورُ العاصفة، وتضربُ بسَوْطِها الأمواج، والأمواجُ تشِبُّ هائجةً وتتلاطمُ، وتتماوَجُ جبالُ المياهِ البيضاءِ فى حيويَّةٍ، وتتسلَّقُها السفينةُ، فى سرعةٍ ومشَقَّة، وفجأة تنقَذِفُ فى مهاوى المَدِّ السوداءِ العميقة آهٍ أيها البحر! يا أمَّﭬينوس! الجَمَال الذى انشقَّ عنه الموج! يا جَدَّةَ المحبوبةِ! محبوبتى الجميلة! يرفرفُ النَوْرَسُ الشبَحِىُّ الأبيض، متشمِّمًا رائحةَ الجُثَث، ويَشْحَذُ فى أعلى الصارى منقارَه، ويتحرَّقُ شوقًا، فى نَهَمٍ شديدٍ للطعام، إلى القلبِ، الذى يدقُّ مُمَجِّدًا ابنتَك، والذى اختاره حفيدك،الماكر الصغير كيوبيد، لعبة يلهو بها. عبثًا تَضَرُّعى ورجائى! يتبدَّدُ رَجْعُ ندائى فى العاصفةِ الثائرة، فى جَعْجَعَةِ معاركِ الرياح. تعْصِفُ وتَصْفِرُ وتَنْهَمِرُ وتعوى، كمستشفى مجاذيبَ من الأصوات! ومن حينٍ لآخرَ أسمعُ بوضوح أنغامَ الهَارْبِ الجذَّابة، غناءً مثيرًا للحنين، يذيبُ الروح ويمزِّق الروح، وأتعرَّفُ على الصوت. بعيدًا على صخورِ الساحلِ الاسكتلندى، حيث ينتصبُ القصرُ الرمادىّ سامقًا فوق البحرِ المُتَلاطم، هناك فى النافذةِ شديدةِ التقَوُّس، تقف فتاةٌ جميلةٌ مريضة، رقيقةٌ وشاحبةٌ كالمَرْمَر، وتعزفُ على الهَارْب وتغنِّى، والريح تفتِّشُ خصلاتِها الطويلة، وتحمل أغنيتَها الغامضة فوق البحرِ الرحيبِ العاصف. IX هدوء البحر هادئٌ هو البحر، تُلْقى الشمسُ أشعَّتَها فوق الماء، وفى الجواهرِ المُتماوجة تحفر السفينةُ الأخاديدَ الخضراء. بجوار الدفَّة، يرقدُ الملاح على بَطْنِه، ويغطُّ بصوتٍ خافت. وبجانب الصارى، يقعد صبيُّ الملاح الملوَّثِ بالقارِ ويَرتقُ الشراع. تحت الوسخِ تحمرُّ وَجْنتاه، وترتجفان بأسى حول فمِه الواسع، وفى ألمٍ تنظرُ عيناه الكبيرتان الجميلتان. لأن القبطانَ يقفُ أمامه، يغلى ويلعنُه ويسبُّه: « وَغْد! وَغْد! لقد سرقتَ سمكةَ رِنْجة من برميلي!« هادئٌ هو البحر! من بين الأمواج تخرجُ سمكةٌ ذكية، تدفئ رأسَها فى الشمس، وتُبَلَبِطُ فرِحَةً بذيلِها. لكن النورسَ يسدِّدُ نظرَه من أعلى، وهو فى الهواء، على السمكة، ثم يتمايلُ صاعدًا داخل الزُرقة، والغنيمةُ الطائشةُ بين مخالبِه.