التقيت به عام 72 في دار الأدباء، وكان ظهوره عاصفة، حيث ألقي قصيدة له، كما ألقي زميله الشاعر رفعت سلام قصيدة. استنكر معظم الحضور في تلك الليلة قصيدتيهما بسبب الخروج عن المألوف والتمرد البالغ والشطح والعبارات والمفردات الجديدة علي الأذن والخروج علي الكتابة الشعرية في ذلك الوقت، وقد تصدي في تلك الليلة أمل دنقل للدفاع عنهما معلناً أن من حقهما التمرد والتجريب والبحث عن لغة جديدة. بعد ذلك وفي نفس العام صدر العدد الأول والأخير من مجلة "الشعر"، التي رأس تحريرها صلاح عبدالصبور، وفي هذا العدد أعلن عبدالصبور عن الشعراء الجدد الذين تقدّمهم المجلة وكان من بينهم الشاعر حلمي عبدالغني سالم، وفي نفس العام أصدر حلمي سالم مع رفعت سلّام المجموعة الشعرية الأولي، وكانت علي ما أظن بعنوان "الغربة والانتظار"، ثم بعد عامين أي في 74 أصدر ديوانه الثاني ونشر معنا في مجلة "الكاتب" حينما رأس تحريرها صلاح عبدالصبور، وقدّمَنا في منتصف السبعينيات رجاء النقاش في مجلة "الهلال" حينما أعد ملفاً، هو الأول عن شعراء السبعينيات، بعنوان "عشرة شعراء وعشر قصائد"، وكان من بينهم حلمي سالم، ثم حدث ذلك الانهيار الذين نعرفه جميعاً، وهو إغلاق المجلات وسفر عبدالصبور إلي الهند وحجازي إلي باريس وعفيفي إلي العراق، ولم تعد هناك مجلات أو نقاد، وربما كان هذا الغياب للأدباء والنقاد سبباً أساسياً في تشكيل الجماعات الشعرية، حيث تشكلت "إضاءة" في 77 و"أصوات" في 79، وكان سالم هو المحرك الأساسي لمجلة "إضاءة"، فهو الذي يسعي لجلب المادة ويذهب إلي المطابع. كانت لديه قدرة ودأب وعشق للشعر ولإبراز وجود الشعراء الجدد، خاصة بعد أن سافر صديقه حسن طلب إلي الدوحة. ثم أصدر ديوانه الثالث في أوائل الثمانينيات ثم سافر إلي بيروت، وحضر الغزو الإسرائيلي للبنان، وعاش لمدة عام علي الأقل هناك، وأصدر ديوانه "الأبيض المتوسط" في 85 و"سيرة بيروت" وهو الديوان الخامس في 86، وكان معظم زملائه في ذلك الوقت بلا دواوين منشورة نشراً حقيقياً. كان الأغزر إنتاجاً والأكثر حرصاً علي النشر، وأذكر أنني في سنة 90 كنت أحاول نشر ديواني الثالث "سليمان الملك" وكان هو نشر ديوانه السابع "دهاليزي والصيف ذو الوطء". أريد القول إن حلمي كان يعيش للشعر ويري كل شيء تقريباً في الحياة شعراً، كان يري أنه من الممكن توظيف الأحداث العامة والتفاصيل اليومية في الشعر. ولا بد هنا من الإشارة إلي تجربته الحياتية المتميزة، حيث كان الأكثر التصاقاً بالعمل السياسي، بسبب وجوده في جريدة "الأهالي" وحزب "التجمع"، ومن ثم علي مدي أربعين سنة نشر العديد من الدواوين. كان أكثرنا نشراً وأغزرنا كتابة وأظنه كان يقاوم بالشعر، يقاوم القبح والفساد والجمود والمرض والضعف. نعم.. فهناك ديوان له بعنوان "الثناء علي الضعف"، وآخر بعنوان "مدائح جلطة المخ"، وقبل وفاته بيوم واحد كان يحدثني عن ديوانه الجديد، الذي يتناول فيه أزمته الصحية الأخيرة، وكان قد قرأ قصائده في "التجمع" في أمسية شعرية قبل أيام. كما فاجأنا أيضاً بالحضور إلي بيت الشعر قادماً من المستشفي وهو مرهق للغاية وأظنه كان يتقوّي بزملائه الشعراء وبالشعر ويحاول باستمرار أن يتّخذ من الشعر سلاحاً يواجه به الضعف والموت. في الشهور الأخيرة كنت دائماً في حالة صراع معه لأنه كان يفرّ من المستشفيات قبل أن يستكمل علاجه. بعد الجراحة الأولي منذ 6 شهور فر من المستشفي. الأطباء كانوا يريدونه أن يمكث لمدة عشرة أيام وهو كان يريد أن يهرب، كانت المستشفيات بالنسبة إليه هي الأماكن العقابية كما قال ميشيل فوكو. في كل مرة دخل المستشفي كان يخطط للفرار وأذكر قبل أيام حينما ذهب للغسيل في المعادي ارتفع ضغطه بشكل مخيف فقرروا حجزه ليلة، لتضبيط الضغط والاطمئنان عليه، ولكنه رفض وكتب إقراراً يتحمل فيه المسئولية. المستشفي بالنسبة له كان سجناً مخيفاً ومفزعاً وكان يري الحياة في الشوارع والمقاهي وبين الأصدقاء، ويري المستشفيات مخازن تعد الناس للموت، والبقاء فيها إعداد للوفاة. هذا الشاعر الذي أنتج كل هذه الأعمال أظنه بحاجة إلي نقاد. لم يلتفت النقد كما ينبغي لشعراء السبعينيات. لا أزعم أننا كن متفقين فنياً. كنا نتبادل الصراع أحياناً حول قصائدنا ودواويننا. كنت ضد الثرثرة وغواية السرد والتسرع في النشر وكان هو يتهمني بالالتصاق بالتقاليد والمحافظة، لكن كل هذه الخلافات لم تُحدِث بيننا شرخاً أبداً، فكل شاعر له انحيازاته التي تصنع وجهه الشعري المتميز، ومن ثم علينا أن نعترف بحق كل شاعر في اختيار تقنياته وتشكيل تجربته كما يهوي.