مع خالد عاشور تميز جيل الستينيات بالتنوع، فالغيطاني صاحب مدرسة في السرد المستلهم من الموروث الشعبي والتاريخي، وبهاء طاهر تميز بلغته الهادئة التي تميل الي الأناشيد الصوفية ولغة الناسك المتعبد، وانفرد خيري شلبي ويوسف القعيد ومحمد البساطي بالكتابة عن الريف، غير أن البساطي تميز في نظرته عنهما. خيري شلبي ويوسف القعيد كاتبان كبيران لهما نظرة وكتابة ماكروسكوبية عن الريف وحياته، أما البساطي كانت نظرته وكتابته عن الريف والمهمشين نظرة ميكروسكوبية تشريحية كجراح ماهر، يدخل عالم المهمشين ويعرضهم بصورة رائعة، غير ان الميزة الأخري التي أختلف بها البساطي عن جيل الستينات هي ذلك التكثيف والأقتضاب في لغته الشعرية للسرد. ربما لم يقترب أحد من عالم البساطي وحياته مثلما اقتربت، ظللت لسنوات أقرب الناس إليه، أصاحبه في أغلب اللقاءات الصحفية وكان يكرهها، يتصل بي يومياً كعادته التي استمرت لسنوات، يحكي لي عن قصة تدور في باله، يفاجئني بعد أيام انه انتهي منها، وامر عليه لأخذها، وكنت من لجنته السرية التي يعهد اليها بقراءة عمله قبل النشر، كانت اللجنة تضم بعض الأصدقاء المقربين منه، المخرج الكبير محمد كامل القليوبي والأستاذة مني أنيس وعزت القمحاوي ومحمد شعير، في السنوات الأخيرة ظللت وحدي لجنته السرية، يكتب كعادته ليلاً. وفي الصباح ينام، كنت الوحيد المسموح له بدخول بيته؟، يشبه في ذلك استاذنا الكبير نجيب محفوظ، كانت لقاءاتنا الأولي في مقهي بالحي السابع جوار بيته تسمي فوتبول، يسلمني العمل لأكتبه له علي الكمبيوتر، في البدء أقرأه بتأن، ثم يدور بيننا حوار مطول عن الرواية او القصة التي سلمها لي. كان مستمعاً جيدا ومتواضعا لا مثيل له/ يخشي الأضواء ويبتعد عنها، يكره دائرة السلطة وهو الذي لم يفز منها بشئ ولا سعي لذلك، وحين أخبرته أنه فاز بجائزة الدولة التقديرية في الأدب وكان قد دخل في تعب المرض، هز رأسه لي وابتسم ابتسامة خفيفة غير عابئ. محمد البساطي الكاتب الكبير الذي ظل لسنوات أقرب الناس إلي قلبي، تعلمت منه الكثير. جمله الشعرية، حرفيتيه في الكتابة، إنه هيمنجوي مصر من ناحية الوصف. فهو يدخل النفس البشرية ويصفها بصورة رهيبة تقترب من اللوحة الفنية التي حين تنظر اليها تشعر بروعة النفس وغرابتها وحرفية الرجل في تصويرها لنا حروف وكلمات، وهو يمثل أيضاً تشيكوف في رصده للمهمشين وهمومهم اليومية والحياتية. لسنوات ظللت اتعلم منه، عشت معه ولادة روايته الرائعة الخالدية، ثم جاءت روايته الاروع (جوع) والتي تميز بها عن (الجوع) لهامبسون، فجوع هامبسون جوع فرد في مجتمع غربي قلما يستشعر بمن يعانون من حوله، أما جوع البساطي، فهو جوع العائلة، جوع مؤلم نسجه فيلسوف الرواية العربية واستاذ التكثيف في الكتابة، دائما كان يقول لي: - ما تستطيع ان تعبر عنه بكلمة واحدة . لا تعبر عنه بأكثر من كلمة ثم عشت معه باقي رواياته وقصصة القصيرة، كان انساناً جميلاً. لم يستسلم للمرض ولا أحب ان يعرف عنه احد انه مريض، رفض بقوة أن يقترب من السلطة وكان علي خلاف دائم معها، حين زاره الكاتبان الكبيران جمال الغيطاني ويوسف القعيد في المستشفي وكنت ملازماً له، سألته بعد ان خرجا: - أنت عارف مين كان هنا يا عم محمد؟ نظر لي وابتسم وقال في صوت هامس: - جمال الغيطاني والقعيد.. ترك لي رواية لم يكملها للأسف وقال لي أكملها يا فتي. وكان لقبه المحبب لي حين يتخلص من ان يناديني بالأستاذ والتي كنت لا احب ان يناديني بها، أسعدته زيارة الغيطاني والقعيد جدا، وكان يتمني ان يري صنع الله، وبرغم ما كان به من وجع في ايامه الأخيرة كان قلقا علي صديقة العمر الروائية الكبيرة رضوي عاشور، كان انسانا حتي وهو يموت، ربما لم اشاهد في حياتي انسانا بقوة محمد البساطي ولا سخريته من المرض، لم يستسلم له ولا عاشه، فجأة ظهر المرض اللعين فأنهي حياة أكبر كاتب مصري كتب الرواية والقصة القصيرة وصنع عن جدارة مدرسة جديدة في كتابة القصة القصيرة متفوقاً ربما علي استاذنا يوسف ادريس، لغة التكثيف والسرد الشعري، هذا هو محمد البساطي، إنه من (الكبار) الذي كتب عن (حديث من الطابق الثالث) ليسرد حكايات (رجال قصار العمر) و(هذا ما كان) وهو جالس عند (منحني النهر) و(ضوء ضعيف لا يكشف شئ) في (ساعة مغرب) ليفتح طاقة نور للمهمشين وال(محابيس) و(الشرطي الذي يلهو قليلاً) ناظراً للمهمشين من (نوافذ صغيرة) ليشاهد معهم (فراشات صغيرة) تطير في وداعة لتحلق في (أضواء علي الشاطئ) وامرأة جميلة ترصد المشهد (وجلبابها مشجر) بينما (التاجر والنقاش) يقعدان في هدوء علي (المقهي الزجاجي) في (الأيام الصعبة) لأناس هدتهم الحياة وظروفها وفقرها، منهم من عاش في (بيوت وراء الأشجار) ومنهم من فضل أن يسحرنا ببقائه إلي جانب (صخب البحيرة) يتسمع (أصوات الليل) منتظرا أن (يأتي القطار) ربما في ليلتهم تلك، وربما في (ليال أخري) يستمعون إلي حكايات (فردوس)، ويفتشون في (أوراق العائلة) بحثاُ عن المدينة الرائعة والساحرة (الخالدية) بينما يعلو في المشهد صوت (دق الطبول) منهم من هو شبعان، ومنهم من هو في حالة (جوع) تحيط بهم (أسوار) الحياة العالية تمنع هروبهم منها، فيهربون إلي (غرف للإيجار) يرتاحون من متاعبها رجل كان أو امرأة (وسريرهما أخضر)، فما الحياة الا قصص بين (رجال ونساء) حاكها الكبير محمد البساطي بحرفية وسرد أسس به مدرسة جديدة اسميها من الآن مدرسة البساطي في الكتابة القصصية. مدرسة كبيرة سيتعلم فيها ومنها الكثير من الجيل القادم من الأدباء. كم أفتقدك صديقي الأعز والكاتب الكبير وصديق لا اظن ان الحياة ستمهلني حتي اري مثله، كم كان فقدك كبيرا استاذي محمد البساطي. وسأظل افتقدك وافتقد مكالمتنا اليومية كما كانت كل يوم، في اي وقت كنت تتصل، وكنت اهرب من همومي لأستمع اليك ايها الحكيم والفيلسوف الكبير، فيلسوف الفقراء وفيلسوف الرواية العربية، غير ان عزائي الوحيد أنك ستظل معي بكتاباتك الخالدة التي ستظل ضوءا يكشف أشياء كثيرة في عتمة الظروف التي تمر بها مصر وفي تاريخ الأدب العربي والمصري علي وجه الخصوص.