فى فترة الشباب مع عبدالفتاح الجمل وزين العابدين وفؤاد وآخرين مجموعتان تروجان للنقد المشاع الضار تسعيان لتهميش القيمة الأدبية للأدب الجديد الجاد، منذ بزوغ أعمال مبدعيه في بداية الستينيات وهلم جرا . أحيانا ما يكون هذا بقصد ، وأحيانا لنوايا طيبة تودي للجحيم . الأولي : مجموعة" الشعبويين" الذين ضلوا الطريق من العمل الاجتماعي إلي الأدب فأساءوا للأدب كما أضروا بالعمل الاجتماعي، وتجدهم يظهرون علي حقيقتهم وهم يروجون لأعمال هابطة باعتبارها اكتشافات تاريخية ، هذا علي الرغم من أن التاريخ نفسه القي بها في سلة المهملات. الثانية مجموعة الأكاديميا المدرسية التي لابد تبدأ باستعراض مناهج الآخرين ، خاصة في الغرب ، وكأن هذا هو "موسوعية الثقافة" في الوقت الذي لا يمكن أن يكون هذا إلا مجرد اجترار لما هو موجود في ملخصات الملازم التي يقررونها علي طلبتهم وهو أمر قد يكون محمودا في المرحلة الثانوية لكنه معيب علي الجامعة العيب الذي قد يصل إلي حد الجريمة . هؤلاء ينسون أو يتناسون ( وقد يكون بعضهم لا يعرف أصلا ) أن هناك مقياسا بديهيا يحدد بشكل لا تزيد فيه ما هو أدبي وما هو غير أدبي في علم الجمال هو مقياس " القيمة الأدبية " literary Value . تتعامل القيمة الأدبية مع النص باعتباره أولا كلا متكاملا لا يمكن فصل شكله عن مضمونه ، عبر صياغة بلاغية تضيف قيمة جديدة أو لنقل اجتهادا جديدا ومن هنا يصبح العمل المكرور خارج القيمة وعلي من لا يستطيع الإضافة في كل عمل جديد أن يصمت ، فهذا أفضل للجميع . هنا تصبح القضايا النوعية للعمل الأدبي مثارا للتأمل ودافعا لبعث نقد خلاق مواز له هو أيضا ، قيمته الأدبية لأنه أولا يضيف جديدا ولا يعتمد اجترار مناهج الآخرين دون تأمل . وإنني لأقرر هنا وبكل وضوح انه علي الرغم من مرور أكثر من قرن علي الرواية العربية إلا أننا لم نر كتابا واحدا ذا قيمة كبري في مجال نقد الرواية العربية ، أعني بالطبع كتابا يقرأ النص الروائي العربي بالعرض مستخرجا منه قوانينه العامة وملامحه الرئيسية ( ربما باستثناء نصف كتاب هو العالم الروائي عند نجيب محفوظ لإبراهيم فتحي ) الذي توقف عند المرحلة الثانية من نتاج الكاتب الأشهر ثم ألحقه بمجموعة مقالات مفردة قطعت سياقه ، وكان هذا هو النص النقدي العظيم الوحيد لا غير . لقد واجهت جابر عصفور مؤخرا في حديقة المجلس الأعلي بهذا الرأي وفي وجود الصديق الكاتب المجدد محمد إبراهيم مبروك فأقرني علي رأيي بان ما كتب ويكتب ما هو إلا عروض نقدية صحفية تبذل للقارئ العام بقصد التعريف بالأعمال الروائية لا أكثر ولا اقل ،ثم تجمع في كتب وقد يكون هذا مفيدا في مجال الترويج للرواية من بين الكتب لكنه لا يمكن أن يكون مفيدا في مجال الدرس الأدبي بمعناه العميق . أقول هذا وأنا في معرض الإقرار بأهمية عمل محمد البساطي الذي يقف وحده بلا سند من مؤسسة ، وهو الذي لم يتحول هو نفسه إلي مؤسسة كما فعل البعض الذين اقتنصوا مالهم وما ليس لهم فاجترأوا عليه وعلي عمله المميز . أنني لأثمن مجموعة أعماله القصصية الوسيطة " مجموعة حديث من الطابق الثالث " ومثيلها المتناثر في عدة مجموعات تالية وأضعها في الصدارة من نتاج قصص الستينيات المجيدة ، وأزعم انها في حاجة لدرس نقدي خلاق يليق بها وللآسف لم يحدث هذا حتي الآن . أقول مجموعته الوسيطة لأن البساطي بدأ بكتابة القصة التقليدية ( مجموعة " الصغار والكبار " ) ثم اندمج مع حركة التجديد الذي كان دليله إليها الكاتب والناقد الأردني الكبير غالب هلسا الذي رأيته ولسنوات طوال يبدي لعمل البساطي أهمية خاصة حتي وصل الأمر ( كما شاهدت وعاينت بنفسي لم يكن يطلع البساطي أحدا علي ما كتب قبل أن يطلع غالب هلسا عليه ) ورأيته يستمع لرأي غالب باهتمام شديد حتي انه مزق إحدي قصصه أمامي وعلي مقهي ريش بعد أن رأي غالب أنها قصة لا تليق به ، وقد كرر البساطي أمامي مقولة (سمعتها بعد ذلك علي لسان يحي الطاهر عبد الله) : " غال هلسا مفيد جدا " . ثم وبمرور الأيام وبعد أن قدم قصص مرحلة " حديث من الطابق ... " كتب عددا من القصص والروايات القصيرة من ملخصات الأعمال ، أقصد أن القاص هنا يقدم ملخصا إجماليا للقصة ولا يقدم القصة نفسها ككائن حي متحرك تجري وقائعه في زمان ومكان وعبر شخوص تحيطهم أشياء الحياة اليومية لتظهر وجودهم الحي المتكامل . قد يبدو هذا الرأي متسرعا في هذه العجالة التي لابد في حاجة لتدليل واثبات بالفقرة والعمل ، مما أدعو الله أن يمكنني من عمله في مقبل الأيام ( وأدعو النقاد لعمله من باب أولي) ،ولكنني لابد أن أضيف ملاحظة هامة وأساسية في عمل البساطي . هذه الملاحظة تتعلق باهتمامه الطبيعي والفطري بالطبيعة وكائناتها من حيوان ونبات وطير لأن أرتالا من كتاب القصة تقرأهم فلا تجد طيرا ولا حيوانا بل إن شخوصهم نفسها لا تأكل ولا تشرب ولا تستحم ولا تمارس الجنس كما لا تذهب لبيت الراحة : كائنات مجففة يراد بها أن تكون رموزا لأفكار هي غالبا ساذجة تذهب مع أول هبة ريح إلي الصحراء الواسعة التي تنثر ها في فضائها اللامتناهي فتذهب إلي العدم. لا ، لقد كانت عوالم البساطي غنية بالحياة كما كان هو يفيض حياة وحيوية فترك لنا تراثا معدودا ضمن درر أعمال الستينيات النابهة .