تركتها، وأنا أعرف هذه المرة الضريح -الأخير- الذي أريد الوصول إليه، وهو ضريح سيدي الأربعين، أو سيدي محمد المغازي، والذي يعد من أشهر أضرحة عابدين، إذ يقع في شارع حسن الأكبر، أمام سور القصر. كانت هذه المعلومة التي لديّ، والتي لم تكن محددة؛ لأن سور القصر طويل جداً، ولأن شارع حسن الأكبر كذلك. مشيتُ، لأخرج من شارع الشيخ ريحان، الذي كان مجهداً للغاية. تهتُ قليلاً. إذ دخلت من الشارع الذي به قسم عابدين، لكنني في النهاية استطعت الوصول لشارع حسن الأكبر. لا أعرف لم نويت في البداية أن أسأل أي أحد عن ضريح حسن الأكبر، الشقيق الأكبر لسيدي أحمد البدوي، رغم علمي أنه مدفون داخل قصر عابدين، ربما لأنني أعوّل هنا علي المعلومات التي لدي الناس. دخلت أول محل صادفته، والذي لم أركز فيه، إذ شدني الرجل الذي يجلس أمامه، والذي كان يقرأ إحدي الصحف، ويرتدي قميصاً وبنطلوناً، وعلي وجهه تستقر نظارة طبية، وابتسامة بشوشة. اتكأت بذراعي اليمني علي طاولة المحل، ودخلت مباشرة في الموضوع. قهقه، وقال: ياه.. نادر جداً لمّا ألاقي حد يعرف ضريح حسن الأكبر. - اسمك إيه يا حاج - حاج إيه بقا.. اكتبي الأستاذ كمال عبد الفتاح.. أنا كنت مدير إحدي المدارس. وراح يعطيني درساً في التاريخ؛ أن الخديوي إسماعيل أمر ببناء قصر عابدين فور توليه الحكم عام 1863، وأن اسم القصر يرجع لعابدين بك أحد القادة العسكريين في عهد محمد علي باشا، والذي كان يمتلك قصراً صغيراً، اشتراه إسماعيل، وهدمه، وضم إليه أراضي شاسعة، والتي كانت بها بالمصادفة ضريحان، هما ضريح سيدي بدران، وضريح حسن الأكبر، فأصدر فرماناً بعدم الاقتراب منهما، لأنه يعلم أن الأضرحة شيء كبير عند المصريين، وجزء من ثقافتهم الدينية والشعبية، فقام بضمهما للقصر. كما أمر بالتزامن بتخطيط القاهرة علي النمط الأوروبي. ابتسمت، وسألته عن ضريح سيدي الأربعين. صمت قليلاً. وأشار إلي بناية. وقال إن بجوارها ضريح. لا يعرف إن كان هو أم لا. لكنه قال إن قبل هذه البناية بشارعين يوجد ضريح اسمه أبو الشوارب. قررتُ أن أذهب إلي أبو الشوارب أولاً، لكنني وجدتهُ محض مسجد، وهو مسجل كأثر، وأنشأه محمد شريف باشا عام 1860. ندمتُ قليلاً لأنني سمعت كلامه. لكنني سامحته حين وجدتُ أن وصفه لضريح سيدي الأربعين كان صحيحاً. الضريح، أو بالأحري المقام، منفصلاً بذاته. هو أشبه ببيت. لا لا. هو بيت. له باب خشبي مطلي بالأخضر، وشباك محاط بسياج حديدي مطلي أيضاً بالأخضر، وقبة، أما واجهته فكانت غريبة بعض الشيء، إذ كانت مطلية بشكل مخطط باللونين الأصفر والنبيتي. لا أذكر بالضبط إن كان باب المقام مفتوحاً، أم أنني طرقته. لكنني أذكر جيداً ملامح الرجل الذي ارتبك حين رآني، كما لو أنني جئت في وقت غير مناسب. سادت بيننا ثوان من الصمت. وحين دققتُ وراءه، وجدتُ كنبتين، ففهمت أنه يقيم بالداخل. أخبرته أنني جئت لأجل سيدي الأربعين. لأجل أن أعرفه. قال بلعثمة إن الورقة التي بها معلومات عنه ليست معه الآن. لم أكن أعرف ماذا بإمكاني أن أفعل. شعرت أنه يطردني. وهو ما جعلني أعطيه معلومات زائدة عني، وعما أفعله، كي يطمئن. فبسط كفه اليمني، لأدخل. طبعاً دُهشت. رغم أنها ليست المرة الأولي التي أري فيها أحداً يسكن داخل ضريح. ربما دُهشت من التفاصيل الكثيرة الموجودة؛ الشيشة، والمروحة، والتليفزيون، وخزانة الملابس، والساعة المُعطلة، والصور المُعلقة علي الجدران، والتي كانت عبارة عن بورتريهات لأشخاص، خمنت أنهم من أقاربه. سمحت لنفسي أن أتجول، فوجدتني أدخل إلي المطبخ، والحمام. وحين رفعتُ رأسي رأيت غرفتين بالأعلي. تعجبت. ولاحظ الرجل هذا. فأخبرني أن الغرفتين كانتا مخصصتين للنساء لينمن فيها. - يعني أهلك كانوا عايشين هنا؟ - أيوا.. والدي اتولد هنا.. والمقام دا مِلك، وليس وَقف، بدليل أن جدي أبو والدي مدفون هو كمان هنا اسمه سيد حسين محمد حسن. وحسب كلامه. هو من نسل الشيخ محمد إبراهيم فخر الدين المغازي الذي أتي من المغرب ليتلقي العلم علي يد العارف بالله سيدي إبراهيم الدسوقي، وكان تلميذه الأربعين، لذا سُمي بسيدي الأربعين. - طيب أنت مش متجوز.. مش عندك ولاد؟ - كنت متجوز.. وولادي كل واحد منهم راح في مكان.. وأنا حاليا بشتغل سواق تاكسي. يعتقد أن سيدي الأربعين، جرده من كل شيء، كي يجعله يقيم بجواره، فهو ليس له بيت غير هذا، ولم يتبق من عائلته سوي أمه، التي تأتي من حين لآخر، لتجلس معه. يعتقد أيضاً أن بينه وبين سيدي الأربعين رابطاً روحياً، فهو يزوره كثيراً في المنام، ويري نوراً يشع من مقامه، ويتمني لو يطلب منه أن يدفن بجواره، كما طلب من جده! كنتُ أسمعه، ولا أقاطعه، إذ كان في حالة من النشوة. يتحدث بصوت منخفض، ويصمت بين العبارة والأخري، كما لو أن أحداً يملي عليه ما يقوله. سألته عن سبب رفضه للحديث معي في البداية، قال إنه كان يحاول أن يطفشني، لكن جاءت له إشارة بأن يتحدث. وقال أيضاً إنه ارتاح إليّ.