كانت دعوة علي الغداء لا أنساها تمتعت فيها بالاستماع إلي أحاديث ومحاورات الشاعر بيرم والشيخ زكريا أكتب هذه الخواطر في اليوميات في مناسبة مهمة بالنسبة لأبناء وادي النيل شمالا وجنوبا وهي انعقاد اللجان السودانية المصرية لبحث تنفيذ الاستراتيجيات المشتركة الهادفة إلي توثيق العلاقات بين مصر والسودان وفي هذه الخواطر سأترك السياسة لأهل السياسة وإنما سأذهب إلي ميدان الثقافة لأن الثقافة هي الأساس المتين لكل عمل ولكل تطور ونمو وأذكر هنا قول الشاعر السوداني الكبير التجاني يوسف بشير في قصيدته الشهيرة ( ثقافة مصر ) والتي قال في ختامها مخاطبا أبناء مصر والسودان ( ووثقوا من علاق الأدب الباقي ولا تحفلوا بأشياء أخري ).. والحديث عن ثقافة أبناء النيل المشتركة يأخذنا إلي اسم الموسيقار محمد عبد الوهاب والذي عرض له فيلم ( يحيا الحب ) في أربعينيات القرن الماضي وكان واحدا من أنجح الأفلام المصرية التي عرضت في السودان وكان اسم الفيلم جريئا وجديدا ومبتكرا وقد أخذ هذا الاسم الشاعر السوداني خضر حسن سعد وهو من رواد الصحافة والأدب ومن شعراء الأغنية وكتب تحت عنوان يحيا الحب أغنية تقدم بها لأول مسابقة تجريها الإذاعة السودانية بين شعراء الغناء، وقد كانت يحيا الحب إحدي الأغنيات الفائزة في المسابقة وقام بتلحينها أمير العود حسن عطية وقد وجدت الأغنية نجاحا كبيرا في ذلك الحين خاصة وأن شاعرها استطاع بذكاء شديد وصياغة فنية جديدة أن يتجاوز رقابة البريطانيين علي الأغنية السودانية في ذلك الحين خاصة الأغنيات التي تتحدث عن العلاقة بين أبناء وادي النيل، وكان خضر حسن سعد بهذه الأغنية يسير علي ذات النهج الذي سار عليه رائد الغناء السوداني خليل فرح الذي كتب عام 1924 الأنشودة الشهيرة ( نحن ونحن الشرف الباذخ دابي الكر شباب النيل ) والتي ختمها بقوله ( مفيش تاني مصري سوداني نحن الكل أولاد النيل ).. وكان الموسيقار إسماعيل عبد المعين يقدم هذه الأغنية في احتفالات السودانيين والمصريين المشتركة بالقاهرة وذلك خلال أيام دراسته بمعهد فؤاد الأول للموسيقي بالقاهرة.. وكانت أغنية يحيا الحب سببا في دعوة حسن عطية ليغني في الاحتفال لزواج الملك فاروق من ناريمان بمطلع خمسينات القرن الماضي وقد جاء إلي القاهرة ومعه اثنان من زملائه هما أبو الفن إبراهيم الكاشف وعميد الغناء الحديث أحمد المصطفي وفي حفلات الزواج الملكي غني حسن عطية ( يحيا الحب ) وغني أحمد المصطفي ( يا بنت النيل النيل أحب النيل يا جميل ) وهي من تأليف الشاعر الثائر بشير عبد الرحمن أحد ثوار سنة 1924 والذي لجأ إلي مصر هربا من ملاحقة المخابرات البريطانية أما إبراهيم الكاشف فأنه قدم أغنية جديدة من تأليف الشاعر صادق عبد الله عبد الماجد الذي صار فيما بعد أحد قادة السياسة البارزين وتقول كلمات الأغنية ( سلوا قلبي سلوه عن مدي حبي لهذا الكوثر العذب ومصر حبيبة القلب) ويقول في مطلعها الأول (سنحيا فوق وادينا كراما كيفما شئنا نعادي من يعادينا وماء النيل يروينا).. وقدمت الإذاعة المصرية في ذلك الحين سهرة خاصة مع المطربين الثلاثة الكبار الذين شاركوا في حفلات الزواج الملكي وكان ذلك قبل نشأة ركن السودان في الإذاعة المصرية والتي كانت بعد ثورة 23 يوليو.. والحديث عن ركن السودان يأخذني إلي تلك الجائزة التي حصلت عليها وفي بعض الأحيان يكتب الإنسان عملا لا ينتظر منه جائزة ولا حمدا لكن الجائزة تأتيه من حيث لا يحتسب، وتعود بي الخواطر إلي نهاية العام 1959 كنت في زيارة إلي القاهرة وذهبت إلي مبني الإذاعة المصرية القديم في شارع الشريفين لتحية الزملاء في إذاعة ركن السودان بالدور الرابع وعندما دخلت إلي مكتب مدير إذاعة ركن السودان الدكتور محمد المعتصم سيد وجدت معه الشاعر الكبير بيرم التونسي وشيخ الملحنين زكريا أحمد وقام الدكتور المعتصم بتقديمي لهما ووصفني بأنني من شعراء الأغنية البارزين في السودان، وطلب مني الشاعر بيرم التونسي أن أسمعه آخر أغنياتي وكانت بالمصادفة أغنية تتحدث عن مصر والسودان وقد غناها وسجلها فيما بعد فنان المامبو سيد خليفة ويقول مطلعها ( ملاح النيل ميل ميل يا جميل.. شوف الوادي حسنه البادي ما ليهو مثيل ) ثم قلت المقطع الأول (عاين واتفرج في الشطآن.. النيل يهديك جنة رضوان وجمال في مصر والسودان.. يا شعب النيل يا شعب أصيل ).. وقد سمعت عبارات مشجعة من الشاعر بيرم التونسي ومن الشيخ زكريا أحمد ومن المصادفات في ذلك اليوم إنني ذهبت إلي أحد المطاعم التي اشتهرت بتقديم فتة العدس وكان المطعم يسمي جوهرة الميدان وهو مواجه لجامع الكيخيا المعروف في منطقة الأوبرا وكانت المفاجاة أن وجدت الشاعر بيرم التونسي والشيخ زكريا يجلسان في أحد الأركان وما أن شاهدني الشيخ زكريا حتي ناداني قائلا تعال يا شاعر السودان، وكانت دعوة علي الغداء لا أنساها تمتعت فيها بالاستماع إلي أحاديث ومحاورات الشاعر بيرم والشيخ زكريا، وبعد عودتي إلي السودان بشهور قرأت في أخبار اليوم خبر رحيل شيخ الملحنين زكريا أحمد فحزنت حزنا كبيرا وانفعلت انفعالا شديدا وكتبت قصيدة عنوانها ( زكريا مات ) مازلت أذكر مطلعها ( زكريا مات.. مات النغم والأغنيات.. ضاع الأمل والذكريات.. زكريا مات ).. وأخذت القصيدة وذهبت بها إلي الشاعر محمد الفيتوري الذي كان يتولي رئاسة تحرير مجلة الإذاعة السودانية فنشرها بالبنط الكبير وعلي صفحة كاملة من مجلة الإذاعة وتتوسط الصفحة صورة الشيخ زكريا أحمد وقد أحدثت القصيدة في ذلك الحين صدي كبيرا بين أهل الفن، ولكن ما حدث بعد ذلك بربع قرن كان أعجب فقد كنت في القطار ذاهبا إلي الإسكندرية في مهمة صحفية وبعد أن تحرك القطار من محطة القاهرة فتحت الراديو الصغير الذي أحمله معي لينطلق منه صوت زكريا أحمد وهو يغني ( الورد جميل ) فطلبت من الزميل الذي كان يجلس بجور الشباك أن نتبادل المقاعد حتي أستمع إلي أغنية الشيخ زكريا بوضوح، وبعد نهاية الأغنية دخل معي جاري وزميل الرحلة في نقاش مطول عن الشيخ زكريا أحمد وعن مكانته لدي الجماهير السودانية وإن كانوا يستمعون إلي ألحانه ويعرفون أثره علي تطور الغناء وأسهبت في الحديث عن الشيخ زكريا وإعجابي به وكذلك إعجاب الكثيرين من أهل الفن وعشاق الغناء في السودان.. واستمر هذا الحديث حتي وصلنا إلي محطة سيدي جابر في الإسكندرية ثم ودعت زميل الرحلة الذي هبط معي من القطار وذهبت إلي الميدان الصغير أمام المحطة ليأخذني إلي شركة النحاس المصرية القريبة من محطة سيدي جابر وكنت علي موعد مع مدير الشركة المهندس أحمد الميرغني واخترت أن أبدأ به تفاؤلا بالاسم السوداني وقد كان اسم أحمد الميرغني هو نفس اسم السيد أحمد الميرغني رئيس مجلس الدولة السوداني في ذلك الوقت، ورحب بي الرجل في ذلك الحين ترحيبا شديدا ولكنه اعتذر عن اجراء حوار للمجلة التي كنت أمثلها وحتي لا أخرج خالي الوفاض كتب لي خطابا صغيرا موجها إلي مدير العلاقات العامة بالشركة ليعطيني بعض كتيبات عن الشركة وكانت المفاجأة الكبري أنني حينما دخلت إلي مكتب مدير العلاقات العامة وجدت أنه ذات الشخص الذي رافقني في رحلة القطار وكانت المفاجأة المدوية الأخري أنني قرأت اسمه علي لافتة صغيرة علي مكتبه والاسم هو ( إحسان زكريا أحمد ) فسألته مندهشا هل أنت ابن الشيخ زكريا فقال لي نعم فقلت له لماذا لم تقل لي ذلك في القطار فقال لي لم تكن هناك مناسبة لأقول لك ذلك بل إني اعتبرتك ابن الشيخ زكريا أيضا، ثم أعطاني »كارتا» وطلب من سائقه أن يذهب بي إلي إحدي الشركات فذهبت وقدمت الخطاب إلي مديرة العلاقات العامة لتسهيل مهمتي الصحفية وعندما عدت إليه أصر أن أتناول معه طعام الغداء بالمنزل وكانت المفاجأة المدوية الأخري أني وجدت مديرة العلاقات العامة التي ذهبت إليها تستقبلنا في المنزل وعرفت فورا أنها زوجة الأستاذ إحسان زكريا أحمد.. وخلال الغداء استمعنا إلي العديد من الأغنيات بصوت الشيخ زكريا وهكذا نلت جائزة كبري من الشيخ زكريا أحمد بعد رحيله بأكثر من ربع قرن.. وارتجلت أبياتا من الشعر أذكر منها: وما مصر والسودان إلا عشيرة وأهلهما إلا مشوق وشيق نجمة العلالي والموجي في منتصف السبعينات في القرن الماضي طلبت مني إذاعة ركن السودان كتابة أغنية مشتركة يشارك في غنائها صوت مصري وصوت سوداني فكتبت أغنية ( نجمة العلالي ) التي قلت في بدايتها ( يا نجمة العلالي غني ليا وتعالي.. النيل فرحان معاكي شايف نورك بيلالي ) وبعد أيام أبلغني سكرتير اللجنة التي تجيز الأغاني الشاعر الكبير فاروق شوشة بأن الأغنية نالت الاستحسان وتم تسليمها للملحن الكبير محمد الموجي وقال لي الأستاذ فاروق إن الأستاذ الموجي يريد أن يراك وكتب لي عنوان مكتب الموجي في شارع الشواربي بالقاهرة وصباح اليوم التالي ذهبت إلي هناك ورحب بي الأستاذ الموجي ترحيبا حارا وأبدي إعجابه بالكلمات وقال لي إنه يرشح المطربة الجديدة أميرة سالم وطلب مني ترشيح مطرب سوداني يؤدي الأغنية أمامها فاقترحت عليه اسم الفنان السوداني الجيلاني الواثق الذي كان حينها في دراسات عليا بالموسيقي بالقاهرة ولكن الذي أدهشني هو أن الموجي طلب مني أن أسمح له بحذف حرف واحد من الأغنية وقال لي أنت تقول ( شايف نورك بيلالي ) وهو يقترح حذف حرف الباء لتصبح ( نورك يلالي ) وقال لي مازحا بيلالي دي تودينا ورشة السيارات فأعجبني جدا هذا التفكير العميق من الموسيقار الموجي وودعته وخرجت، وأمام أحد محلات الكاسيت بشارع الشواربي وجدت المطرب محمد حمام يجلس مع أحد الأشخاص فاتجهت إليه محييا ومباركا له نجاح أغنيته الشهيرة في ذلك الحين يا بيوت السويس، وعندما قدمني للشخص الذي يجلس معه كانت المفاجأة أن ذلك الشخص هو صاحب إحدي شركات إنتاج الكاسيت فأخذني من يدي وقال يا أخي أنا بدور عليك، سيد خليفة سجل لك أغنية وأخذني إلي مكتبه وسلمني عقد تنازل عن الأغنية وقمت بالتوقيع عليه وسلمني بعد ذلك مظروفا به 150 جنيها عدا ونقدا وكان ذلك مبلغا ضخما في ذلك الزمان ولم يخطر ببالي أن أعود من رحلة الموجي بهذا المبلغ.. والجدير بالذكر أن أغنية نجمة العلالي تم تسجيلها بدون أي مقابل للملحن أو للشاعر أو للمطربين أميرة سالم والجيلاني والواثق.. وبعد هذه خواطر خاصة وعامة عن العلاقات الفنية والثقافية بين أبناء وادي النيل أكتبها بمناسبة اجتماعات اللجان العليا من أجل تحقيق المصالح المشتركة بين أبناء القطرين وأختم بما بدأت به وبكلمات الشاعر خضر حسن سعد ( يحيا الحب دام صفانا.. وعاش النيل الروانا ). • كاتب سوداني مقيم بالقاهرة