ينتمي فيصل يونس إلي هذا الجيل الذي ولد في نهاية أربعينيات القرن الماضي، وعاش طفولته علي أصداء المبادئ الثورية لثورة 23 يوليو1952، وما لبس أن ذاق مرارة نكستها وانكسارها. لم تكن حياة هذا الجيل سهلة، بل كانت حياة تعرف صوراً عديدة من المشقة والمعاناة. وأكاد أجزم بأن هذا الجيل هوالجيل الذي أعطي الكثير، وتحمل كل المشاق التي سببتها الهزيمة، وما تلتها من تحولات كبيرة في حياة الناس، وفي حجم المشاق التي كان عليهم أن يتحملوها. وإذا كان هذا الجيل هوالذي تحمل مشاق الهزيمة والانكسار، فهو أيضاً الذي تحمل أعباء الانتصار والعبور؛ فقد أعطي لهذا الحدث الكبير علي قدر الفرحة التي جناها منه. ولقد آثرت أن أبدأ الحديث عن فيصل يونس بالحديث عن الجيل الذي ينتمي إليه، لأن حياته ومسيرته تعكس بجلاء هموم هذا الجيل وطموحاته، ونجاحاته، وانكساراته أيضاً. فقد ولد فيصل مثله مثل الكثيرين من أبناء جيله في قرية صغيرة من أعمال كفر الشيخ، وكان والده من صفوة أبناء القرية مكانة وقوة، وتفتحاً. فقد دفع بابنتيه وولده الوحيد إلي التعليم، ونقلهم للعيش في المدينة، وإن كلفه ذلك الكثير من المال. ومن مدينة طنطا التي حصل منها علي الثانوية العامة (من مدرسة طنطا الثانوية) انطلق فيصل إلي الجامعة في عام 1968، والتحق بكلية الآداب، وفي قسمها الناشئ (حينئذ) وهو قسم علم النفس (كان القسم فرعاً من قسم الفلسفة وانفصل عنها كقسم مستقل). لم تكن الحياة الجامعية سهلة بالنسبة إلي فيصل الذي كان يضطر إلي العمل من أجل أن ينفق علي نفسه، بعد أن شعر أن والده قد أُثقلَ عليه من فرط الإنفاق علي تعليم أبنائه وعلي جودة وطيب عيشه. ولقد منحته الحياة الشاقة هذه قوة كبيرة. فقد كان يعود أحياناً من عمله في الصباح المبكر ليلتحق بمحاضراته في الثامنة صباحاً. بل إنه كان أحياناً ينتظم في العمل أيام الامتحانات. وإذا كانت مشقة الحياة قد منحته قوة، فقد تدعمت هذه القوة عبر الزيارات المتقطعة التي كان يقوم بها لجده الأزهري الشيخ عبدالجليل عيسي، والذي أظن أنه كان يمده بطاقة نفسية واجتماعية تمكنه من أن يستمر في تعليمه وفي تفوقه مهما كانت الظروف. ولقد دأب فيصل –خاصة في سنواته الأخيرة- علي ذكر الشيخ، ورواية حكايات كثيرة عنه، وتوضيح تأثيره عليه. وتخرج فيصل في مايو1972 كأول الدفعة الأولي لقسم علم النفس في حقبة استقلاله الجديدة، والتحق بالقسم كأول معيد بالقسم. ولذلك فقد كان له قصب السبق والقدم، فقد استقر في القسم قبل أن يستقر فيه أساتذة آخرون أكبر منه سناً وأعلي درجة، تم تعيينهم بعده كمدرسين مساعدين أومدرسين. وقد جعله ذلك يعيش بينهم كزميل لا كتلميذ، رغم صغر سنه عنهم. وقد دعم من ذلك بطبيعة الحال تفوقه وانجازه العلمي المتميز ومسيرته الحياتية المليئة بالأحداث والمفارقات، والتي يمكن أن نطل عليها عبر وقفات أربع. في الوقفة الأولي سوف أعود بالذاكرة إلي السنين الأول من سبعينيات القرن الماضي وتحديداً منذ عام 1973. لقد بدأ تفتح هذا الجيل علي عالم العمل، وبداية الانطلاق كل يصنع طريقه بإراداته. كنت أقطن معه في نفس الشقة في بيت المعيدين بشارع جامعة الدول العربية بالمهندسين. وكانت فترة امتدت حتي عام 1977 عشت فيها مع فيصل تحت سقف واحد وأكاد أجزم أنها كانت أجمل فترة في حياتي (وحياته أيضاً) رغم ما كان فيها من قلة المال وشظف العيش. لقد كان المعيدون من حولنا ينعمون بنعم كثيرة، فمعظمهم ينخرط في إعطاء دروس خصوصية تدر عليه الكثير من المال. وكانت الفرصة متاحة لنا للسير علي نفس المنوال، فقد كانت الأقسام مملوءة بالطلاب العرب الذين يرغبون في الحصول علي هذه الخدمة. ولكننا قررنا ألا نسير في هذا الفلك وكان شغلنا الشاغل أن نقرأ، وأن نترجم نصوصاً تتعلق برسائلنا وأن نسعي للحصول علي مراجع جديدة. وتعلقنا بالكلية وبرموزها من المفكرين. ننظر إلي الكبار منهم من أمثال مصطفي سويف، وزكي نجيب محمود، وعبدالعزيز الأهواني وعبداللطيف إبراهيم، ويحيي هويدي، وصبحي عبدالحكيم، وانجيل بطرس نظرة إكبار وإجلال، ونسعي إلي مصادقة الشبان منهم من أمثال حسن حنفي، ومحمد الجوهري، وجابر عصفور، وأحمد مرسي، وعبدالمنعم تليمة، وعبدالمحسن طه بدر، ومحمد عناني، وعبدالعزيز حمودة. نسعد بالتعلم من الكبار والشبان، ونبتهج بالأيادي الحانية للشباب الأكبر سناً التي كانت تربت علي أكتافنا وتأخذ بعقولنا إلي آفاق جديدة من الفكر والحياة. وأكاد أتذكر الآن الكثير من المواقف في الجامعة وخارجها التي اختلط فيها التعلم بالود والبهجة الحقيقية. لقد كانت النفوس صافية آمنة، وكانت الرغبة في المعرفة (عندنا وعند الشباب الأكبر الذين شكلوا بالنسبة لنا قوة دفع منتورية حقيقية) رغبة جارفة، وكانت الآمال عريضة. ورغم أن الحياة قد أخذت كل إلي طريق، ورغم أن بعض من شارك فيها قد تركنا إلي العالم الآخر إلا أن الروح الخلاقة التي حكمت هذه العلاقات قد ظلت قائمة لا تبرح النفوس مهما امتد الزمن. ولا أنسي أبداً تلك الذكريات التي كان فيصل يتذكرها معي في جلساته الصافية، والتي كانت لا تخلو من نستولوجيا لا إلي الماضي ولكن إلي الشباب الذي ولي، وإلي الأيام التي اختلطت فيها متعة الحياة بمتعة التعلم. أما الوقفة الثانية فهي وقفة مع مرحلة مختلفة في الحياة، تلك هي مرحلة السفر إلي الخارج. ولقد كانت صدفة جميلة (وغريبة في نفس الوقت) أن نسافر إلي انجلترا في شهر واحد، لقد كان سعينا حثيثاً إلي أن ننهل من ثقافة مختلفة، وأن نأتي بالعلم مظانه. فسعي فيصل جاهداً لكي يحول منحة للحصول علي الدكتوراه إلي كلية الآداب. وأن يرشح عليها، وفي نفس الوقت نجحت أنا في مسابقة للحصول علي منحة »ناصر» من المجلس البريطاني لجمع المادة العلمية للدكتوراه، والتحق فيصل بجامعة ليدز والتحقت أنا بجامعة ايست أنجليا. ولقد كانت أعواما مليئة بالدراسة والانجاز واكتساب الخبرة. ولا يفارقني أبداً أول لقاء بفيصل في مدينة لندن، وعلي رصيف محطة ليفربول، بعد أن قضي كل منا شهورا قليلة في بعثته. لم نكن نطيق أن يستمر البعد أكثر من هذا فقررنا أن نذهب إلي لندن ونلتقي هناك بحجة الذهاب إلي المكتب الثقافي. ولقد كان لقاء رصيف المحطة لقاءً حاراً، حيث تعانقنا وكل منا يقول للآخر »سوف يظن الإنجليز الآن أننا شواذ... فليذهب من يقول ذلك إلي الجحيم». وقضيت أنا سنتين كاملتين عدت بعدهما لأكمل الدكتوراه في مصر، وقضي هو أربع سنوات عاد بعدها حاملاً للدكتوراه، ومنجباً لسارة ومروة. وكانت الدكتوراه التي جاء بها فيصل هي أول دكتوراه في مصر في علم النفس البيولوجي، الذي بذل جهداً لإدخاله بقوة إلي قسم علم النفس، لا كتخصص فقط، ولكن كموضوع تسجل فيه الرسائل العلمية، ويخصص له معمل مستقل. ولم تكن الإقامة في انجلترا بالنسبة لفيصل إقامة لمجرد الحصول علي الدكتوراه، بل كانت لها أبعاد ثقافية واجتماعية مهمة، لقد اتفقنا في بداية البعثة علي ألا نتصرف كسائر المبعوثين، فنعيش بعيداً عن الثقافة في عزلة شبه كاملة، لقد انغمسنا انغماساً كبيراً في الثقافة، فشاهدنا المسرح والأوبرا، وذهبنا إلي معظم المتاحف وصالات العرض الفني، وقرأنا أدباً باللغة الانجليزية، ظل يلازمنا حتي بعد عودتنا، وأتذكر بهذه المناسبة أننا كنا نتبادل الكتب والروايات، وأنه كان يتذكر دائماً أنني لم أرجع إليه بالكتاب الفلاني أوالرواية الفلانية وما يزال في مكتبي كتاب ورواية ظل يذكرني بهما حتي قرب وفاته، وبطريقة لا تعني ضرورة أن أردهما، بقدر ما كانت تحمل مداعبة بأن أتذكر دائماً أنه هوالذي يعيرني الكتب. قد لا أتذكر اسم الكتاب الآن، الذي أظن أنه كتاب »بنية الثورات العلمية» في طبعته الإنجليزية، ولكني أتذكر الرواية جيداً لأنني أراها حتي الآن كلما مررت من أمام الرف الذي تحملها، تلك هي رواية »في عين الشمس» لأهداف سويف في نسختها الإنجليزية أيضاً. ونذهب إلي وقفه ثالثة تتعلق بإسهاماته في كلية الآداب والجامعة. لقد عاد فيصل من البعث محملاً بأفكار خصبة وكان له دور كبير في تطوير الدراسة في قسم علم النفس في جامعات القاهرة والكويت والإمارات. ولكن الإسهام الأكبر جاء حينما تولي مسئوليات إدارية بكليته الأم. لقد كان هوالذي قاد فريق الجودة لإنتاج أول دراسة ذاتية عن كلية الآداب، ولقد انخرط فيصل انخراطاً كبيراً في ثقافة الجودة، فقدم الكثير من ورش العمل بالكلية وخارجها معرفاً بالجودة الشاملة وشروط تحقيقها وأهميتها. وقد تولي وكالة الكلية لشئون البيئة لفترة قصيرة، ما لبث أن انتقل فيها إلي الدراسات العليا التي بذل فيها قصاري جهده لتحسين إصدار المجلة العلمية للكلية ولإنشاء برامج جديدة كان أهمها دبلوم للدراسات الثقافية يلتحق به المهتمون بشئون الثقافة والصناعات الثقافية. وفضلاً عن ذلك فقد بذل معي أثناء فترة عمادة الكلية جهداً كبيراً في قيادة مشروعين من المشاريع العلمية والأكاديمية بالكلية أحدهما مشروع عملاق لدعم البحث العلمي في العلوم الاجتماعية في الكلية (عبر منح مادية تقدم لشباب الباحثين)، ومشروع آخر لتقديم برامج تدريبية لطلاب الدراسات العليا. ولقد أكمل هذين المشروعين بمشروع ثالث لترجمة أمهات كتب المنهج والرسائل العلمية حول المجتمع المصري، وهو المشروع الذي نفذه عندما تولي إدارة المركز القومي للترجمة بوزارة الثقافة. وقد أسهم هذا المشروع في توفير عدد كبير من الكتب المترجمة في نظريات ومناهج العلوم الاجتماعية ينهل فيها طلاب الدراسات العليا. وقد تبدو هذه الانجازات الضخمة عادية بالنسبة لشخص عادي يمارس حياة طبيعية، ولكنها بالنسبة لفيصل تضع علي قبره وردة باتساع الدنيا، لأن كل هذه الانجازات والطموحات تحقق وهو يعاني من أشد الأمراض وأقساها. ولذلك فإنني سوف أنهي هذا المقال بوقفة عند هذه النقطة. فعلاقة فيصل بالمرض، وإدارته لأزمته الصحية، وتفاعلاته الاجتماعية عبر فترة طويلة من الإرهاق الصحي، يستحق النظر والقراءة، وهي تلهمنا دروساً للطريقة التي يجب أن نعيش بها. لقد هاجمه المرض في فترة مبكرة من حياته، ولكنه لم يستسلم له، وبذل جهداً خارقاً لكي ينهي إجراءات سفره إلي لندن لإجراء عملية نقل كبد. ورغم أن هذا النوع من العمليات لم يكن تطور بالطريقة الموجودة بها الآن (نحن نتحدث عن بداية تسعينيات القرن الماضي) إلا أن التصميم والعزم، والإصرار علي استمرار الحياة، قد جعله يمر بهذه العملية المعقدة بنجاح رغم أن صحته قد كانت تدهورت كثيراً، ولم يصدق الكثير من مستقبليه في المطار أن هذا الشخص الذي يحمل في يده حقيبة، وينزل من سلم الطائرة سيراً علي الأقدام، هو نفسه الذي صعد إليها مرهقاً متعباً بجسده النحيل الواهن. ولقد ظل فيصل يدير صحته بذكاء شديد، ولا يجعلها تتدخل في شئون حياته الأكاديمية أو الإدارية بعد ذلك، بل كان دائماً مبتسماً، لا يقدم نفسه قط علي أنه مريض، ولا يجعل المرض يمنعه من مشاركة الأصدقاء أفراحهم وأتراحهم، بل إنه كان يبادر بدعوة أصدقائه للخروج وخلق البهجة، ولقد كنت أنا شخصياً اعتبر الخروج الأسبوعي أوالشهري معه ومع أسرته أومع الأصدقاء، هو الفسحة الوحيدة التي أجد فيها متعة في الحياة، وأكاد أجزم بالقول بأنني لم أخرج إلي أمسية من هذه الأمسيات منذ أن فارقنا فيصل، قد استثني من ذلك تلك العادة الرمضانية التي نحرص عليها سائرين علي دربه بالتجمع للإفطار في أحد أيام رمضان. لقد ظل فيصل هكذا سعيداً، مبتسماً للحياة، مقبلاً عليها، رغم أن المرض قد اشتد عليه في سنواته الأخيرة، واضطر إلي إجراء عملية »زرع كلية»، وكان علي وشك أن يجري عملية »زرع كبد جديد». ورغم التدهور الشديد في الصحة، إلا أنه كان يأمل في أن تتم العملية، وظل علي هذا الأمل حتي آخر يوم في حياته، وكان يوماً لا ينسي إذ غابت عنا كل هذه الطموحات، وكل هذا الإنجاز، وكل هذه البهجة والابتسامة رغم قوة الحياة ومشقة المرض، لقد غاب فيصل، ولم يغب بريقه ولا نوره الذي طل علي الدنيا منجزاً ومعطياً وباعثاً علي الحياة المتجددة الأصيلة.