الشعر المنثور هو الذي يتحرر من الأوزان الموضوعة، ولكن لا ليجنح إلي الفوضي وإنما ليسير وفق أوزان مختلفة يضعها الشاعر عفو الساعة من نسج وحدة أوزان تتلاحق في خاطره ولكنها لا تطرد، غير أنها برغم تباين وحداتها تتساوق في مجموعها. وتؤلف من نفسها في النهاية هارمونيا واحدة، تلك التي تكون مسيطرة عليه أثناء الكتابة. تلك هارمونيا ليست من صنع البشر، ولكنها سماوية هي الأخري تهبط علي الموهوبين مع الإلهام الشعري ذاته كجزء لا يتجزأ منه. فالشعر المنثور إذن جامع كل خصائص الشعر ماخلا القرع الرتيب، ذلك القرع الذي يلتزمه الشعر المنظوم لأنه ينشد فيه موسيقاه والذي لا يري الشعر المنثور نفسه بحاجة إليه لأنه يستمد موسيقاه من ذات نفسه ذلكم هو الشعر المنثور، أنغام حرة طليقة كالعصافير ولكن ثمة هارمونيا تتلاقي عندها كما تتلاقي الطيور عند دوحة. وإنك إذن لواجد فيه جمالين، جمال التجمع وجمال التسلسل، ذلك أنه يتيح لك أن تشهد في وضوح ولذة، ومضات الميلوديا المختلفة القصيرة اللبث وسط طنين الهارمونيا الدائمة. ولهذا، فإن الشعر المنثور لما فيه من انسجام، يتنزه عن عيب الوتيرة الواحدة، ويشع أضواء شتي متباينة غير مستقرة، متجددة متلاحقة أبدا، فما تلبث أن تلهب عواطفك وتضاعف فيك الحياة. وهو بهذا التنوع وهذه الطلاقة أقرب أنواع الكلام إلي الطبيعة بلا مراء. فالطبيعة قلما تعرف التماثل بين وحداتها وإنما تنشد التآلف في مجموعها. خذ شجرة مثلا، فإنك غير واجد بين أجزائها تماثلا، فهذا غصن شارد وذاك آخر منكمش، وهذا فرع منثن وذلك فرع مستو، إلا أنها في مجموعها تبدو متلافة متعانقة تنتهي إلي معني من التساوق يرتاح إليه الذوق السليم ويقر له حتما بالجمال. وما قيل عن أفرع الشجرة الواحدة يقال عن أشجار الغابة الواحدة، وما قيل عن هذه يقال عن مناظر الطبيعة المختلفة، فليس ثمة شبه بين صحراء وغابة وبحر وجبل ومع ذلك فهنالك بينها انسجام، والجمال فيها علي أتمه هو ما تمخضت عنه مجتمعة، وهكذا لا تعرف الطبيعة التكرار المحض ولا النهاية المحدودة. ومن هنا كان جمالها غير محدود وسحرها غير منته. وبعد فإن الشعر المنثور بتوافقه مع الطبيعة فيه ما فيها من رحابة وتحرر، فهو كالطبيعة يفتح أمامك مغاليق أفق رحيب لا تحد منه القافية أو الوزن المطرد. ولذلك فهو يمهد لنفسك سبيل الانطلاق في الكون إلي مسافات أبعد شوطا ً وفي اتجاهات أكثر عددا من أي نوع من أنواع الكلام. ومن أجل هذا اختارت الأديان الشعر المنثور لغة لها، لأن الطلاقة واللانهائية من أخص صفات الألوهية التي تلهم الدين. وإننا مع تنزيهنا للقرآن الكريم عن درجه ضمن الأساليب البشرية، نري إنه من حيث الوضع اللغوي البحت أقرب ما يكون إلي الشعر المنثور وإن تجاوزه في خصائصه وطاقته. فهو لا يخضع لقافية أو وزن موضوع ومع ذلك فموسيقي الوزن تلوح في تضاعيفه وترتفع عندما لا تمنع المناسبة حتي لتحمل العين أحيانا علي أن تذرف الدموع. وهاك مثل من قوله تعالي في سورة النور اقرأه معي وانظر كيف تتدفق الموسيقي ساحرة علوية دون حاجة إلي وزن يجريها أو قافية تطرد: " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور علي نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم" وما قيل عن القرآن الكريم يقال عن سائر الكتب السماوية، فمزامير داود ونشيد الإنشاد لسليمان هما من الشعر المنثور ولقد اعتبرتهما دائرة المعارف البريطانية أقدم شعر غنائي في الوجود. وإليك مقطوعة من نشيد الإنشاد: " في الليل علي فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته. إني أقوم وأطوف في المدينة في الأسواق وفي الشوارع أطلب من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته. وجدني الحرس الطائف في المدينة فقلت أرأيتم من تحبه نفسي؟ فما جوزتهم إلا قليلا حتي وجدت من تحبه نفسي. فأمسكته ولم أرخه حتي أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي. أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتي يشاء." ورب معترض يقول إن الأوزان الاصطلاحية لازمة للشعر. والجواب علي ذلك أن الشعر أسبق من الأوزان لأن الأوزان من صنع البشر في حين أن الشعر ولد مع الحياة ومادام الشعر قد استطاع فيما مضي أن يعيش حينا بغير أوزان فهو بعد إذ وجدت يستطيع أن يعيش بدونها. ولكن هل معني ذلك أن الشعر المنثور بتحرره من الوزن الموضوع والقافية يصبح سهل الصياغة كما يتبادر إلي الذهن لأول وهلة. كلا بالطبع مادام لم يزل علي الشاعر الناثر أن يجري كلامه وفق أوزان يبتكرها أثناء الكتابة. بل إن تحرر الشعر المنثور من القافية والوزن، يجعل مهمة الشاعر شاقة عسيرة إذا لاحظنا أن الاطراد الذي يلابس الوزن والقافية يساعد علي إحداث النغم ويقصر الآذان علي متابعته والرضوخ لتأثيره. ولهذا فإن الشاعر الناثر يضطر إلي الاستعاضة عن موسيقي التكرار بموسيقي أخري يستمدها من القوة الشاعرة ذاتها. وهي موسيقي أبعد مثالا من سابقتها وكثيرا ما يضل الشاعر أوتارها إذا هو لم يندمج في فكرته أو لم يكن بطبيعته عبقريا ً.