بالبالونات، انطلاق لقاء الجمعة للأطفال في مسجد الشهداء بالدقهلية (صور)    انطلاق قافلة الواعظات للسيدات بمساجد مدينة طلخا في الدقهلية    برواتب تصل ل10 آلاف جنيه.. «العمل» تعلن عن 90 وظيفة متاحة للمؤهلات العليا والمتوسطة    وزير الاستثمار يبحث مع مجموعة أبوظبي للطيران مجالات التعاون بالسوق المصري    أسعار الحديد والأسمنت اليوم فى مصر 23-5-2025    استمرار تدفق الأقماح المحلية لشون وصوامع الشرقية    المشاط: الاستقرار الاقتصادى ضرورة لدفع النمو لكنه لا يكفى بدون إصلاحات هيكلية    خبير عن زلزال جزيرة كريت: مصر بعيدة عن خطر حدوث تسونامي    طفل يطعن زميله فى مدرسة بألمانيا ويفر هاربا    استئناف محدود للمساعدات إلى غزة.. دخول 107 شاحنة منذ أمس    تعرف على طرف ودية الأهلي اليوم في التتش    تكثيف برامج المراجعات النهائية بالمساجد لطلاب الشهادتين الثانوية والإعدادية بالوادي الجديد    ضبط 6 شركات سياحة «بدون ترخيص» بتهمة النصب على راغبي «الحج والعمرة»    وفد الصحة العالمية يزور معهد تيودور بلهارس لتعزيز التعاون    تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء.. تحرير 137 مخالفة لمحلات لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    « وزارة الصحة » : تعلن عن خطة التأمين الطبي للساحل الشمالي والعلمين بفصل الصيف    ما حكم بيع واستعمال سجاد الصلاة المكتوب عليه لفظ الجلالة؟.. الإفتاء توضح    رئيس "التنظيم والإدارة" يبحث مع "القومي للطفولة" تعزيز التعاون    البريد يحذر المواطنين من حملات احتيال إلكترونية جديدة| تفاصيل    "بئر غرس" بالمدينة المنورة.. ماء أحبه الرسول الكريم وأوصى أن يُغسَّل منه    محافظ الجيزة: الانتهاء من إعداد مخططات 11 مدينة و160 قرية    انطلاق مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائى اليوم ومصر تشارك ببروفايل    الدوري الإيطالي.. كونتي يقترب من تحقيق إنجاز تاريخي مع نابولي    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن جوريون بصاروخ باليستي    صلاح يتوج بجائزة أفضل لاعب في البريميرليج من «بي بي سي»    شاب ينهي حياته بأقراص سامة بسبب خلافات أسرية    الأرصاد تحذر من حالة الطقس: موجة حارة تضرب البلاد.. وذروتها في هذا الموعد (فيديو)    غلق كلي لطريق الواحات بسبب أعمال كوبري زويل.. وتحويلات مرورية لمدة يومين    محافظ أسيوط يشهد تسليم 840 آلة جراحية معاد تأهيلها    بروتوكول تعاون بين "الإسكان" و"الثقافة" لتحويل المدن الجديدة إلى متاحف مفتوحة    بسمة وهبة ل مها الصغير: أفتكري أيامك الحلوة مع السقا عشان ولادك    رمضان يدفع الملايين.. تسوية قضائية بين الفنان وMBC    الخارجية: الاتحاد الأفريقى يعتمد ترشيح خالد العنانى لمنصب مدير عام يونسكو    المشروع x ل كريم عبد العزيز يتجاوز ال8 ملايين جنيه فى يومى عرض    الأمين العام للأمم المُتحدة يعلن تعيين ياسمين فؤاد أمينة تنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر    عمر مرموش يهدد رقم فودين فى قائمة هدافى مانشستر سيتى    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    رئيس الأركان الإسرائيلي يستدعي رئيس «الشاباك» الجديد    أسعار الفاكهة اليوم الجمعة 23 مايو في سوق العبور للجملة    محافظ سوهاج يفتتح ميدان سيتي بعد تطويره ويتفقد مشروعات التجميل بالمدينة    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    الهلال يفاوض أوسيمين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 23-5-2025 في محافظة قنا    زلزال بقوة 6.3 درجة يهز جزيرة سومطرة الإندونيسية    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    انتقادات لاذعة لنتنياهو واحتجاجات بعد إعلانه تعيين رئيس جديد للشاباك    قائمة أسعار تذاكر القطارات في عيد الأضحى 2025.. من القاهرة إلى الصعيد    يرغب في الرحيل.. الزمالك يبحث تدعيم دفاعه بسبب نجم الفريق (خاص)    موعد نهائي كأس أفريقيا لليد بين الأهلي والزمالك    مدفوعة الأجر.. موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    نموذج امتحان مادة الmath للصف الثالث الإعدادي الترم الثاني بالقاهرة    نجم الزمالك السابق: ما يحدث لا يليق بالكرة المصرية    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    4 أبراج «بيسيبوا بصمة».. مُلهمون لا يمكن نسيانهم وإذا ظهروا في حياتك تصبح أفضل    جانتس: نتنياهو تجاوز خطًا أحمر بتجاهله توجيهات المستشارة القضائية في تعيين رئيس الشاباك    بمشاركة منتخب مصر.. اللجنة المنظمة: جوائز كأس العرب ستتجاوز 36.5 مليون دولار    «تعليم القاهرة» يختتم مراجعات البث المباشر لطلاب الشهادة الإعدادية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سر السكر : عالَمُ بِنتِ الحاوي
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 07 - 2018

»أنظرُ بدِقَّةٍ لحلقة النار. أراقِبُ تَلَوِّيَ ألسنتِها بعُنفٍ كأثَر مضاجعةٍ جنونية، بينما تستقرُّ في ثباتٍ الكراتُ السوداءُ التي يتمركزُ فيها الجاز. أرفعُ رأسي لأعلي تجاهَ شرفة منزلِنا وألمحُني أقفُ أترقَّبُني بحَذَر»‬.
بهذا الانقسام في الذّاتِ السّارِدة تبدأ (مريم حسين) قصّة (الحاوي) التي تُصَدِّرُ بها مجموعتها الصادرة عن (دار ميريت) منذ أسابيع قليلة. واقعُ الأمر أنَّ هذا الانقسام لا يتكرر علي هذا النحو من الوضوح في أيٍّ من قصص المجموعة التِّسعَ عشرة. فتدريجيّاً نكتشفُ أننا بإزاء ذاتٍ تسعي لتوكيد حُضورِها المتقوقِعِ داخلَ صدفَةٍ من مُدرَكاتِها وهلاوسِها، فتُحاولُ باستمرارٍ خَلقَ عالَمٍ مُوازٍ لعالَمِنا الواقعِيِّ، يصبحُ نسختَها الخاصَّةَ جِدًّا، وهي لا تَقبَلُ أبدًا المساومةَ علي الاعترافِ بمُفردات الواقعِ كما هي، وإن انصاعَت لضغط هذا الواقعِ بأشخاصِه الذين يَظهَرون ويختفون سريعًا ك (فَرقَع لَوز)، فهي لا تلبَثُ أن تعودَ وتهدِمَ ما بَنَته علي طريقتِهم، وتُلاحِقُهم بسِبابِها العنيف، لتعودَ سيرتَها الأولي: رافضةً ما يُملِيه الواقعُ، متمسكةً بنسختِها من العالَمِ التي تبنيها في دأَبٍ قاتل!
الحاوي مركزُ الثقل
(الحاوي) من القصص القليلة في المجموعة التي يمكننا اعتبارُها محتويةً علي (مركز ثقلٍ) واضح. أعني أنَّ هناك ما يشبهُ المَذهَب أو المُرَجَّع في القصيدةِ أو الأغنية، هو حضورُ الحاوي وابنتِه الفقيرةِ في الحارة، وموقفُها منهما في مواجهة موقف أهل الحارة. ونتبيّنُ من طبيعة السَّردِ هنا ورطةً وجوديّةً يعانيها جميعُ الشخصياتِ في القصّة. فالذاتُ السّاردةُ منقسمةٌ إلي نصفٍ ينخرِطُ في لَعِبِ الحاوي وابنتِه »‬اقتربتُ أنا والحاوي من الحلقةِ المُوقَدَةِ استعدادًا للقفز، وعندما شعرتُ بهَبو النارِ يُلامِسُ وجهي خفتُ وتراجَعتُ، تركتُه يقفِزُ وحيدًا وصعدتُ أنا جريًا إلي شُرفَتي»، ونصفٍ يراقبُ ما يجري من الشُّرفة، ونكادُ نجزمُ طيلةَ القصّة أنّ النصفَ المتفاعلَ مع الحاوي نصفٌ طيفيٌّ حُلُمِيٌّ لا يشعُرُ به أحد »‬تحاشَيتُ ساقَ الحاوي أكثرَ من مرَّةٍ بينما اندمج هو متحمسًا للضحك والحوار وداسَ علي قدمي اليُسرَي ممّا جعلني أصرخُ متألِّمةً: تصدق أنا غلطانة؟!. وانسحبتُ من الزحامِ أعرُجُ متألمةً إلي شُرفتي». هو حضورٌ يشبهُ حضور شخصية (مالكولم كرُو) التي جسَّدها (بروس ويليس) في فيلم (الحاسّة السادسة The 6th Sense)، رُوحَ ميّتٍ يمشي بين الأحياء. ومن ظواهرِ هذا السِّياقِ يمكنُنا أن نكتشف معنيين متشابكَين لكلمة (أعرُج) في هذه الجُملة، فقد تأتي من (العرَج) أي الإعاقة وهو المعني الظاهر، وقد تأتي من (العُروج) بمعني صعود هذه الرُّوح لتلتحمَ بالجسَد الواقفِ هناك في الشّرفة يراقبُ في حِياد!
لا يجعلُنا ندركُ أنَّ هذا النصفَ المُتَفاعِلَ ربما يكونُ حقيقيًّا إلاّ رَدُّ ابنةِ الحاوي في آخِر جملةٍ في القصّة علي (مريم) إثر توسُّلاتِها لها ولأبيها بالبقاء: »‬يا شيخة رُوحي كِده، ينعل أبوكو!»
كذلك الحاوي وابنتُه غارقان في هذه الورطة الوجوديّة، فهما يحاولان إثباتَ حضورِهما للجمهور دون جدوي، ولا أحد يُبدي إعجابَه بألعابِهما إلاّ حين يُضطَرّان إلي الإسفافِ فيأمر الحاوي ابنتَه: »‬قولي انا بنت حلال يابا» فتُجيب: »‬أنا بنت حمار يابا». شكلٌ بُدائيٌّ من تنازُل الفنّان عن معاييرِه الخاصّةِ لإرضاء ذوقِ العامّة!
أمّا الشخصيات الثانويةُ في القصّة – وما أكثرها وما أكثر حبكاتِها الفرعيةَ القصيرةَ جِدًّا هنا وفي معظم القصص، بشكلٍ يبدو غيرَ متناسِبٍ مع الإحكامِ المفترَضِ وجودُه في عمَلٍ سرديٍّ قصيرٍ كهذا – فهي بدَورِها مؤرجَحَةٌ بين الوُجودِ والعدَم: المرأتان اللّتان تشاجرَتا منذ أسبوعين – حسبَ زمنِ القصّة – في نفس البقعة من الحارةِ التي يشغلُها عرضُ الحاوي بسبب خلافٍ يخصُّ سيد الكهربائي وخمسين جنيهًا، هاني وزوجتُه اللذان باتا ليلتَهما في علاقةٍ حميمةٍ مصحوبةٍ بآهاتٍ سَمِعَها كلُّ مَن في الحارةِ فأصبحا يُراقِبان عرض الحاوي مِن وراء سِتار شُرفتِهما خجَلاً، الأستاذ (نجمي) المحامي القدير الذي يعودُ إلي منزله كلَّ يومٍ في تاكسي ولا يظهرُ في المشهد إلاّ ليَصرِفَ الحاوي وابنتَه ليعود لنومِه، وهكذا!
يحضُرُ الجسَدُ هنا حضورًا مُؤلِمًا دائمًا، فهو ألَمُ الغربة الاجتماعيّة التي يعانيها (هاني) وزوجتُه بعد ممارسة الجنس، وألَمُ (عين السمكة) في القدم اليُسري لنصف (مريم) المتفاعِل مع عرض الحاوي، والذي يتفاقم بعد أن يدوسَها الحاوي غيرَ عابئٍ بوجودِها، وألَمُ الإنهاكِ في محاولةِ اجتذابِ الجمهور عند الحاوي وابنتِه، والذي نستنتجُ وجودَه رغم عدم التصريح به، وألَمُ ما بعد شِجارِ المرأتين الموشِكَتَين علي تدمير جسدَيهما.
ربّما يتحوّلُ الحاوي هنا إلي مُعادِلٍ موضوعِيٍّ يَكتنزُ هذه الورطةَ الوجوديّةَ بتمامِها ولذا اختارته مريم لتُعَنوِنَ به قصَّتَها الافتتاحيّة؟ سنعودُ إلي الحاوي في نهايةِ المقال!
التشويقُ بين اليوميّات والفانتازيا الشِّعريّة
ابتداءً من القصة الثانية (الخُطّة) تترُكُ القاصّةُ قلمَها لإغراءِ ما يُشبِهُ اليوميّات، فالأحداثُ منطلِقةٌ في اتّجاهٍ واحدٍ لا عودةَ فيه للوراء، ويَصعُبُ أن نجدَ في أية قصّةٍ أخري في المجموعةِ (مركزَ ثقلٍ) كما في الحاوي. تُبَرهِنُ (مريم) علي مقدرتِها علي التشويق Suspense في أكثرَ من قصّةٍ، ففي (الخُطّة) تُخفي عنّا تمامًا ما تعتزِمُه البطلةُ الرّاويةُ مُدَرِّسَةُ الموسيقي إلي الصفحة قبل الأخيرة لنكتشفَ أنها من البداية كانت تُخَطِّطُ لتدخين سيجارةٍ في حَمّام المَدرَسة. كذلك في (سِرّ السُّكّر) تجعلُنا نتساءِلُ مع السطورِ الأولي عن »‬فُتاتِ سُكَّر مرشوش علَيَّ، ألتقطُه في كَفِّي وأتلفَّتُ حولي لأتاكَّدَ مِن عدم وجود نمل».
وهي حين تُفلِتُ من قبضةِ اليوميّات المسترسِلَةِ في وصف الأحداث الواقعيّة بإخلاصٍ شديد، تقعُ في براثن الفانتازيا الشِّعريّة، كما في الخُطَّة حين تصفُ حصانًا في مزرعة الخيول القريبة من المدرسة: »‬كان يرمَحُ بقوّةٍ. أبيض تمامًا. رأيتُ شَعرَ ذيلِه ورأسِه يزدادُ طولُهما كلّما جري أسرع، ومع ازديادِ سُرعتِه عبر شَعرُه التُّرعةَ ودخلَ مِن شُبّاكِ المَطبَخ، وسرَح علي الطاولة الطويلة وسقطَ طرفُه في كُوبِ القهوة، غضِبتُ بشِدَّةٍ ونَهرتُه بعُنفٍ فانكمشَ الشَّعرُ وانسحَبَ مَخذُولاً إلي
مَزرعتِه». بِناءُ هذا الحدَث الفانتازِيّ يُذكِّرُنا ببناءِ قصيدةٍ مثل (بُوهيمِيَّتي Ma Boheme) لآرثر رامبو مثَلا.
الكتابةُ عن الكتابة، والسيرةُ الذاتية

يُطِلُّ (الميتا-سَرد) في مواضع مختلفةٍ من المجموعة، أعني انشغالَ الكاتبة بالحديثِ عن الكتابة داخل قصصِها، وبالتالي كسرِ إيهامِنا بأنَّ ما نقرؤُه حقيقة. ففي (أهمية الساعة حداشر) تَروي: »‬أُكمِلُ قِصَّةً قصيرةً بعنوان (انعكاسات)، عن فتاةٍ تُحملِقُ في انعكاس وجوه الرُّكّاب علي زجاج نوافذ سيارة أجرة تجري علي كورنيش المعادي في الحادية عشرة ليلاً، وتفاجأ في الزجاج أيضًا بعَيني حبيبِها تراقِبُ مراقبتَها»، فهُنا الحبيبُ نفسُه يمارسُ الكتابةَ من طرفٍ خفيٍّ وهو ما سنعودُ إليه لاحِقًا. وفي (عن العلاقة بالتوابل) تروي: »‬مِن أسبوعٍ فشِلتُ في نَشر إحدي قصصي، وبالتالي زادَت كمّيّةُ الشطة والفلفل الأخضر الحارّ في أكلَتي المحبوبة: الكبد والقوانص». وفي القصة الأخيرة (اللعبة): »‬لكم اجتهدتُ في التأليفِ علي السلالِم – سواءٌ في منزلِنا في بشتيل أو في منازل العائلة في الفيّوم – وإشراكِ كُلِّ الأطفالِ معي في التمثيلِ فقط، فأنا هنا المؤلِّف، وكوَضعٍ تلقائيٍّ فأنا إلي الآن المؤلِّف. أنا القاصّةُ وكاتبةُ السيناريو. أنا خالِقُ الحِكايات». فضلاً عن هذا، فإنّ الأحداثَ العابِرةَ للقِصَص كمرض الأب ووفاةِ الجَدّةِ ولقاء الراويةِ بحبيبِها تلفتُنا إلي أنّ ما نقرؤُه هو كتابةٌ تخييليّةٌ Fiction، ومن ناحيةٍ أخري تقرِّبُنا من أدب السيرة الذاتيةِ في مُراوَحةٍ لافتة.
نلاحظُ في اقتباسات الفِقرة السابقة وفي غيرِها اهتمامَ الكاتبةِ بذِكر أماكِنَ حقيقيّةٍ متعيّنةٍ للأحداثِ، ممّا يُقَرِّبُ قِصصَها كذلك من أدَب السيرةِ الذاتيّةِ أو اليوميّات المتأدِّبة.
حضورٌ قويٌّ للحواسّ، ونشاطُ التسميةِ البديلة
خلالَ هذا الإبحار الذي لا يَلوي علي شيءٍ في أحداثِ القِصَص، تحضُرُ بكثافة ٍحواسُّ البطلَة الرّاوية (التي لا تغيبُ عن أيٍّ من قصص المجموعة، فلا يوجدُ راوٍ عليمٌ مثلاً في أيٍّ منها). ففي (الخميس ألوانٌ متداخلة) تقول: »‬الاتنين أحمر. التلات برتقاني. وجدتُ فَرشةَ بائعِ لمبات الجاز، لكَم دأبتُ علي إهدائه لمباتٍ متعددةَ الألوان. إلخ». وفي (أضواء): »‬حوض الريحان العملاق ترصَّدَ بي صابًّا كل رائحتِه الغالية التي ادّخرَها لي طوالَ اليوم» و »‬عيني فيها مغناطيس يجذبُ الضوء، الضوء هو الذي يخشي النظرَ إليَّ أصلاً». وتصِلُ بلاغةُ الحواسّ إلي مَداها في قصّة (عن العلاقة بالتوابل): »‬ميّزتُ صوتَ الفُلفل الأسود الأجَشّ، وصوتَ الكسبَرة المسرسع». إلاّ أنّ حاسّةَ الشَّمِّ تحديدًا تتضخّمُ في هذه المجموعةِ لتصطادَ روائحَ الناسِ بما تحملُه مِن آثارِ وجودِهم وتُصبِح مُحَدِّدًا قويّا لعلاقةِ البطلةِ بِهم. يتضحُ هذا في (الخطّة): »‬لمحتُ شبشب دادة أمُّ حنان البنفسجي مستقِرًّا أسفلَ الحوض وطرحتَها منسِيّةً خلفَ الباب. سببتُها في سِرّي، فطَرحَتُها تلك جعلت الحمّامَ كلَّهُ كرائحتِها التي كانت كرائحةِ رُقاقٍ تمَّ تخزينُه لفترةٍ طويلة». وفي (القَرار) يتحوّل وعيُها بسُوء رائحة ضِرسِها المتسوِّس إلي مُحَدِّدٍ لعلاقتِها بذاتِها وخوفِها من عدوي هذه العلاقةِ إلي طبيب الأسنان، فتقول: »‬قرشتُ قرنفُلةً حتي لا يَضيقَ الدكتور برائحةِ فمي وينفعلَ في خلع الضرس».
ويتسرّب هذا الحُضورُ القويُّ لحواسِّها – لاسِيَّما حاسّةَ الشّمّ – إلي نشاطٍ بارزٍ تقومُ به خلالَ مسارِ أحداث القِصَص، وهو نشاطُ إطلاق الأسماء البديلة! في (الخطة) مثلاً تقولُ: “كنتُ أُسَمِّيهِ (عُود النعناع)، فظهورُه كان يسبب لي حالة انتعاشٍ غريبةً”. والواضحُ أنّها تحتفي بمجموعةٍ قليلةٍ من الأشخاص الذين تمنحُهم حقَّ إطلاقِ الأسماءِ البديلةِ بدَورِهم، بينهم جدَّتُها في (سعاد إسماعيل يوسف) حيثُ تقولُ الجَدّة: »‬جبت لِك ِبدَة يا سِوِخ (تدليل مهذَّب لكلمة وسِخ)»، وتحكي عنها القاصّة: »‬وتناولَت هي سندوتش المُخّ بمشاركة قرن فلفل صغير جدًّا نَعَتَته بالنصراني لشِدَّة حَرَقانِه». وبينهم ذلك الحبيب الذي يشاركُها بطولة القصّة الوحيدة الخالية من الظهورات (الفرقع لَوزِيّة) السريعة لشخصياتٍ ثانويةٍ، وهي القصّة التي تحملُ عنوانَ المجموعة (سِرّ السُّكَّر)، حيث يقولُ لها: »‬إنتي ريحانة رايقة» وتقترح عليه أن يُطلِقا معًا اسمًا بديلاً لسُور مَجري العُيون هو (أوَّل الدنيا) تأثُّرًا بأبيها الذي كان يُسَمّي هو وحبيبتُه قاهرةَ المُعِزّ نفس الاسم.
في هذا النشاط تتجلّي رغبةُ القاصّةِ في خَلقِ نسختِها الخاصّة من العالَم، التي تحدَّثنا عنها في بداية المَقال. فهي تسمّي ذلك الحبيب (ضَوئي الأثير) وتسمحُ له بأن يري قميصَها أخضر بينما تراهُ هي تركواز، ويتحوّل هذا الخِلافُ إلي تُكئةٍ لاستعادةِ وجودِ الحبيب في قصّة (نَشيدي). أمّا في القصّتين اللتين تتمحوران حول فُقدان الجَدّة (الأربعين) و(سعاد إسماعيل يوسف)، فالقاصّةُ نفسُها تتوقف عن هذا النشاطِ تمامًا ويظهَرُ بدلاً منه نشاطُ السرقات الصغيرة، حيث تقول: »‬لمحتُ ملعقةَ جَدِّي الذي لم أرَهُ وبُسرعةٍ أدخلتُها بين طيّاتِ ملابسي وعُدتُ لتكملةِ جُزءِ القرآن»، و »‬قلّبتُ محتوياتِ الدولابِ بحثًا عن مجموعةِ صُوَر”. هُنا لا تحاولُ خلقَ عالِمٍ بديلٍ وإنما تتشبَّثُ بمُفردات عالَم الأعزاء الراحلين كما هي، فتلجأُ إلي السَّرِقةِ لإبقائهم حولَها».
لا تتناصّ (مريم) مع النُّصوص المقدَّسَةِ إلاّ في هاتين القصّتين (سِرّ السُّكَّر) و(نشيدي)، وتحديدًا مع (نشيد الإنشاد) من العهد القديم. هكذا يتّضِحُ تقديسُها لتلكَ العلاقةِ مع حبيبٍ يتمتّعُ مثلَها بالقدرة علي إطلاق الأسماء البديلةِ وبالتالي خلق نسختِه الخاصّة من العالَم.
مثَلٌ أخيرٌ لتَجَلِّي هذا الإصرار علي العالَم المُوازي نجدُهُ في (عن العلاقةِ بالتوابل)، حيثُ تنصاعُ لنصيحة إحداهُنَّ بلَصقِ بطاقةٍ تعريفيةٍ علي كلِّ برطمانٍ لإنقاذِها من الخلط بين التوابل، لكنّها في النهاية تضيقُ ذرعًا بأكوامِ الأوراق المقصوصة والشريط اللاصِق اللازمَين للبطاقات المُرادة، وتكوِّمُها في چركن المُهمَلات، وتعودُ لخلط التوابل والرسمِ عليها والتجريبِ بها علي طريقتِها الخاصّة.
الضِّيقُ بالقواعد ملمحٌ أساسيّ.
ويجرُّنا هذا الضِّيقُ بالقواعدِ الذي تعبّرُ عنه في (علاقتها بالتوابل) إلي ضيقٍ عامٍّ بكُلِّ القواعِد، يتبدَّي في بعض أحداث قَصَصِها كما في (الوَحش): »‬شرَعَت فتاةٌ في ترديدِ دُعاءِ الرُّكوب. ردَّدتُ معها في سِرِّي، وكعادتي بمُجَرَّدِ قولِها (اللهُ أكبَر) وتركيزِها علي التشكيل الصحيح مع كسر الكاف وتسكين الرّاء، قَلَّدتُها وأنا أُجاهِدُ بشِدَّةٍ لِكَتمِ ضِحكَتي». ويتبدّي في طريقةِ السَّردِ التي تجنَحُ كثيرًا إلي التّداعي الحُرّ للأفكار Free Associationعلي طريقةِ (فرويد) في التحليلِ النفسيِّ كما لو كانت تمارِسُ الكتابةَ للاستشفاء، كما تجنَحُ أحيانًا إلي تيّار الوعي Stream of »‬onsciousness علي طريقةِ (چيمس چويس) و(ويليام فوكنر) وغيرِهما من الحداثيّين، بالعُكوفِ علي استبطانِ ما تفكِّرُ فيه البطلةُ الراويةُ والتعبيرِ عنه لحظةً بلحظة.
وأخيرًا يتبدّي هذا الضِّيقُ بالقواعِد في لُغةِ المجموعةِ نفسِها. لا أعني المُراوَحة بين الفُصحَي ودرجاتٍ مختلفةٍ من العالمّيّة، وإنّما أعني تلك الأخطاءَ النحويةَ والاشتقاقيّة والبِنائِية المنتشِرةَ بطول المجموعة، والّتي تتدعّم وتلفِتُ انتباهَنا بالحرص علي التشكيلِ الخاطئِ كما في (أعلم أنه لا يوجد مدرسين غيري اليوم) بدلاً من (مُدَرِّسُون)، و(تصالح مع أخاهم الثالث) بدلاً من (أخيهِم)، وغير ذلك. في الحقيقةِ يدفعُنا المستويان الأوّلان من الضِّيق بالقواعد (في الأحداث وفي طريقة السَّرد) إلي التفكيرِ في أنَّ هذه الأخطاءَ الكثيرةَ ربّما تكونُ مقصودةً من الكاتبة رغبةً منها في خَلقِ نَحوٍ مُوازٍ ونسخةٍ خاصّةٍ من اللُّغةِ كذلك، فنتوقّفُ قبلَ أن نُقدِمَ علي لوم المُصَحِّح اللُّغَوِيِّ لِدار النشر!
بنتُ الحاوي: العلاقةُ بالأب
ختامًا، تبدو العلاقةُ بالأبِ ومتعلقاتِه ملمحًا هامًّا في المجموعة. فهو يحضُرُ حضورًا ملموسًا في معظم القصص. والملاحظةُ التي تُعيدُنا إلي (الحاوي) كما وَعَدنا في بداية المقال هي أنَّ السِّبابَ العنيفَ الذي تكيلُه الشخصية الراوية لكل مفردات الواقع التي تضغطُ علي أعصابِها (مُدرّس الموسيقي الزميل في »‬الخُطّة» – التليفون في »‬أهمية الساعة حداشر» – ممرّضة طبيب الأسنان في »‬القرار» – السَّبّ غير المُحَدَّد لمُقترِحَةِ فِكرة بطاقات التعريف في »‬العلاقة بالتوابل» – المَمَرّ الطويل لوحدة شريف مختار لأمراض القلب في »‬الحرّيف» – القِطّ الذي أوقعَ كُوبَ الشاي علي قدَمِها في »‬رثاء الرقاق» – إلخ)، هذا السِّبابَ لا يتحوَّلُ إلي سِبابِ شخصٍ لآخَرَ لها إلاّ مع الجُملة الختاميّة في (الحاوي) حين تسبُّها بنتُ الحاوي وهي تجري وراءَهما. هذه الملاحظةُ لواحدةٍ من أبرز ظواهر هذا النصّ السرديّ تؤدِّي بنا إلي استنتاجٍ مفادُهُ أنَّ الحاوي وابنتَه في مقدمة المجموعةِ يمثّلان معادلاً موضوعيّا لعلاقةِ القاصّةِ بأبيها. فهي تسمحُ لنفسِها في شخصِ ابنةِ الحاوي بشتمِ نفسِها في الحقيقة، وإحباطُ الحاوي وابنتِه وهما يٌيمان عرضَهما الذي لا يُعجِبُ الجمهور هو ذلك الإحباطُ الموفورُ الذي يعانيه أصحابُ الموهبة المتمتِّعُون بأصالةِ إبداعِهم في مواجهةِ انحطاطِ الذوقِ العامّ، واضطرارُ الحاوي وابنتِه للإسفافِ هو أكبرُ مخاوفِ الذاتِ الرّاوِية أمامَ ضغطِ هذا الانحطاط، ونشاطُ (الحِوايَةِ) نفسُهُ بما يفترضُه من مهارةٍ وقدرةٍ علي الخَلق المُبهِر هو مرادِفٌ لنشاط الكتابةِ عند الراويةِ، ول(حَرفَنَة) الأبِ التي عنونَت بها إحدي القِصص.
لو سمَحَت لي القاصّةُ بممارسةِ نشاطِها الأثيرِ في إطلاقِ الأسماءِ البديلةِ، لما تردَّدتُ في تسميةِ هذه المجموعةِ بالاسمِ الّذي أدَّتني إليه هذه القراءةُ الپانوراميةُ السريعةُ لظواهرِها اللغويةِ والسردية: (بِنتُ الحاوي)!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.