" كان حلمي في ثانوي إني أكون رئيس جمهورية" سمعت هذه الجملة من أحد النشطاء السياسيين في حقبة السبعينيات. هذا الحلم الصعب الذي استغربته عند سماعه بالرغم من أن فارق العمر بيني وبين محدثي لم يكن كبيرا لهذه الدرجة لكي يصنع هذا الفارق الكبير في سقف الحلم ومادته الخام. كنت أتساءل كيف زُرع حلم بهذا النوع وبهذا الوضوح والكثافة في مخيلة محدثي؟ ربما وجود عبد الناصر كان أحد الأسباب، وربما كذلك تلك الموجات التحررية في العالم في الخمسينيات والستينيات وماصاحبها من زعامات إسطورية وخوارق إنسانية، والتي تجعله عالما حالما بامتياز. ربما كاريزمية شخصية عبد الناصر تعدت محبيه باتجاه لاوعي أعدائه. كانت أحلام جيلي مهنية أكثر من اللازم، طبيب، مهندس، حتي حلم الضابط خرج تماما من خيالنا. كان خيالنا مهنيا وله سقف روحي واطيء جدا. سنوات قليلة كانت تفرق بيننا سمحت بأن تدخل هذه النوعية من الأحلام المستحيلة، ومعها أشكال حادة من البطولة، إلي الثلاجة، حتي يعود هذا الحلم الرئاسي بعد 25 يناير بكل عنفوانه، كأنه يستيقظ من سبات خفيف. اعتذر الآن لصاحب هذا الحلم فقد مرت السنوات وأصبح المنصب أحد أحلام جيل جديد، بعد أن كان منصبا كالثقب الأسود في جسد أحلام المجتمع. ماذا حدث؟هل المنصب الآن له نفس بريق الحلم القديم لمحدثي، أم تحول إلي وظيفة هامة ضمن وظائف مؤسسة الأحلام السياسية؟هل نزعت منه قداسة الستينيات والسبعينيات؟ ربما كانت أهمية المنصب عند محدثي تكمن في استحالته ! ربما وصلت الخديعة مداها لأن يُدجن هذا المنصب أيضا وسط قطيع الأحلام المخادعة التي تحوطنا. دائما ماكنت أسأل نفسي، هل الأحلام حوارية؟ هل الأحلام ديمقراطية؟ أنها تثبت وتؤكد علي هذا الباعث الغامض الذي يلازم حياتك ولاتعرف من أي أرض جاء ولاأي هواء حمله لك. لاضمان أن الحلم ديمقراطي. ربما الطريق إلي الحلم له صيغة ديمقراطية. داخل الطريق، لامحالة، ستحدث مقارنة حادة وحوار بين إنسان حالي حالم، وبين إنسان مفترض نقله الحلم لمكان متمني. ربما الحلم الذي لايتحقق، والذي لايخلق إنسانا آخر بداخله، يصوغ صاحبه بأحادية ما، بتعصب ما. سيظل هذا الحلم المستحيل والمخفق يسيطر علي ساحة الخيال لهذا الحالم. ربما الحلم وحده لايكفي لأن تكون نزيها أمام نفسك، وأمام عينك الداخلية. كنت أحب مقولة لموديلياني نقلتها تحت زجاج مكتبي، الذي كان يحوي كل تلك العبارات والجمل التي تقوي النفس وتصبرها وتشجعها وتقذف بها للمستقبل كسفينة فضاء تتعدي مدار الأرض. يقول موديلياني" مهمتك الحقيقية في الحياة هي أن تنقذ أحلامك". الآن اشتم رائحة أنانية وراء هذا الإنقاذ. ربما عندما كتب موديلياني هذه الجملة كان يعلم أن حلمه عن نفسه، وعن نجاحه، لن يتحقق إلا بعد موته، لذا زرع في جملته نزعته لامتلاك هذا الحلم البعيد، والذي لن يعيشه. وهو ماحدث بالفعل. لم تُعرف قيمة موديلياني بشكل واسع إلا بعد موته. ربما الزمن الصغير لحياتنا هو الذي يجعلنا نضغط علي أنفسنا لتحقيق أحلامنا، أو نهبها استحالة كاعتراض ضمني علي الموت، وعلي أن الله لم يخلقنا مثله. أحيانا الحلم يتخطي عمر الإنسان كما الأفكار. الأحلام معمرة!! هذا الزمن الضيق الذي نعيشه يجعل أحلامنا مبتورة ومتعصبة أحيانا. لاأعرف ماهي مادة الحلم لسيدنا نوح الذي عاش زمنا أرضيا رحبا جعله يحلم أحلاما كونية. صوتية ومادة كلمة "حلم " تتعارض بقوة مع فكرة وجود ذات متعصبة أو ديكتاتورية تحتويه. ولكنه أيضا، الحلم، سببا في اكتفاء وعصامية هذه الذات التي لاتجد نصيرا لحلمها. ربما الأحلام هي التي تربينا، سواء حققناها أو استبدلناها بأحلام أخري. قوة الحلم تُستمد من رحلته وليس من وجوده فقط. الحلم هو الذي يؤدبنا، وأحيانا في لحظات الشقاء الإنساني والوحدة ينوب مكان الآخر الذي نتوق إليه، ونتمناه لأن يكون جزءا من ذواتنا الحالمة. تماما كما حدث مع موديلياني، لولا حلمه ما أنتج هذا الإنتاج الغزير والمهم في أوقات بالغة القسوة والشقاء.