أيقنت أن هذه السنة لا تشبه غيرها ، و أن هذه الليلة ليست كمثيلاتها .. فحين توهج قمر الليل بآخر ضوء ازداد الظمأ الكامن في شفتيك .. وتألق في عينيك أنين الجوع . كنت تتأهبين وكنت مستغرباً مدهوشاً إذ أفلتت أمانيك القديمة صوب سواعد فجر الممكن ، وجأرت الدماء في الشرايين الفتية . ولما اصطبغ الأفق بلون الدم ولعق الضوء الذهبي قمم الدور .. رأيتك في مخاض الشمس ندية .. ترفلين في ضباب الطهر . ساءلتك لما انعتق لساني : أحقاً ياعروس الأحلام وجدت بلورة الآمال الضائعة .. وأن شعاع الدفء تلألأ في جنبات صدرك المقرور .. وهل حان لك الآن أن تنتظري المد الذي غاب عن جزرك سنيناً . سال الدمع بليلاً فضياً .. أومأت برأسك أن السنوات عجاف .. نعم . وأن ضوء الشمس شحيح .. حقاً . أن الرؤية من ثقب باب مدينتنا باتت تفضح لهواً غافل .. زيفاً ساد. أن الصدأ علانا ودعانا اليأس نصاحب خطواته المتخاذلة زماناً طال .. صحيح . لكن جروح الأرض العطشي تلتئم إذا مافاض النهر .. إلا أن مياه النهر لم تفلح في غسل الدم الذي طش من الأجساد والأدمغة الوضيئة و أريق علي أسفلت الشوارع والميادين .. كما أن الشمس التي - تولي الآن أخفقت في أن تعيد الألق إلي العيون التي انطفأ فيها النور ! (ثانياً ) قال طبيب وعلامات التأثر بادية عليه : - لاتدعونا نفقد الرجاء ..! ثبت آخر نظارته الطبية فوق أنفه .. ونظر إلي أقدامنا الحافية .. همست في أذنه بحرج أن أحذيتنا سرقت ونحن نصاحب اليأس .. سألني رافعاً حاجبيه من تحت منظاره عن كيفية سيرنا بهذا الوضع في الطريق ، واحتمالنا لسخونة الأرض في الصيف أو لسعة برودتها في الشتاء .. ابتسمت أطمئنه أن الأرض كانت تحنو علي اقدامنا ، وأننا في البداية كنا نسير بلا حذر .. وكنا نستظل بالأشجار العتيقة الراسية علي طول الطريق .. لكنها لسبب مازلنا لاندريه تواطأت ضدنا .. إذ تلوت وتشابكت ظلالها وخبأت عنا ضوء النهار .. ثم طارت أوراقها وتعرت أغصانها وبدت صفراء جافة تنثر علي الأرض أشواكاً تخز اقدامنا العارية وتعيقنا عن المسير . هنا لم نجد بداً من الوقوف في مكاننا وقد داهمتنا مشاعر من الريبة والتوجس .. لكزتني زوجتي في جانبي أن أسأله عن موضوعنا .. اتسعت ابسامتي راجياً : - « هل ثمة أمل ياسيدي ؟ ..» خلع نظارته .. دعك عينيه بظهر يده .. - « لاأخفي عليك أن الحالة شديدة التعقيد .. الحمل حقيقي والجنين أنثي فائرة .. ولكني لاأري لها سيقان .. ! « صمت قليلاً .. تلفت حواليه ثم همس متردداً : - « الأخطر أن وضع المشيمة غير طبيعي وتكاد لا تمد الجنين بالأوكسجين و الغذاء ..! « وضعت زوجتي يدها فوق بطنها المنتفخ بلا شعور .. تلاشت ابتسامتي .. تبعثرت حروف السؤال فوق لساني دونما وعي .. « و و و لكن هل هل هل هناك ثمة أمل أمل أمل يا يا يا سيدي ؟ .. » قرب العدسات من فمه .. زفر فيهما بخاراً حاراً .. - » لا أدري حقيقة !!.. « ثم أخذ يمسح الزجاج المضبب بين طيات المنديل !