سعر الذهب في مصر اليوم الثلاثاء 20-5-2025 مع بداية التعاملات    الدولار ب49.99 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء 20-5-2025    ترامب يتساءل عن سبب عدم اكتشاف إصابة بايدن بالسرطان في وقت مبكر    نتنياهو يهاجم بيان بريطانيا وفرنسا وكندا: نقبل برؤية ترامب... ومطالبكم جائزة ضخمة لحماس    بعد ترشيح ميدو.. الزمالك يصرف النظر عن ضم نجم الأهلي السابق    «أكبر خطيئة وتستلزم الاستغفار».. سعد الهلالي عن وصف القرآن ب الدستور    شديدة العدوى.. البرازيل تُحقق في 6 بؤر تفش محتملة لإنفلونزا الطيور    فوائد البردقوش لصحة الطفل وتقوية المناعة والجهاز الهضمي    وزارة العمل تعلن توافر 5242 فُرص عمل في 8 محافظات    وزير الرياضة ومحافظ بورسعيد يجتمعان مع مجلس المصرى بعد استقالة كامل أبو على    رابط جدول امتحانات الشهادة الإعدادية 2025 ب المحافظات الحدودية    أثبت أني حي لكن لم يعاملوني مثل عبد الرحمن أبو زهرة، وقف معاش الكاتب الصحفي محمد العزبي    جيش الاحتلال الإسرائيلي يقصف مدرسة تؤوي نازحين في حي الدرج بمدينة غزة    ماذا تفعل المرأة في حال حدوث عذر شرعي أثناء أداء مناسك الحج؟    منذ فجر الاثنين.. 126 شهيدا حصيلة القصف الإسرائيلي على غزة    بينهم أم وأبنائها الستة.. استشهاد 12 فلسطيني في قصف إسرائيلي على غزة    حريق مزرعة دواجن بالفيوم.. ونفوق 5000 كتكوت    "تيك توكر" شهيرة تتهم صانع محتوى بالاعتداء عليها فى الطالبية    سفير مصر لدى الاتحاد الأوروبى يستعرض العلاقات المصرية- الأوروبية    5 أيام متواصلة.. موعد إجازة عيد الأضحى 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    إصابة طفلين واعتقال ثالث خلال اقتحام الاحتلال بيت لحم بالضفة الغربية    مدرب وادي دجلة السابق: الأهلي الأفضل في إفريقيا وشرف لي تدريب الزمالك    المحكمة العليا الأمريكية تؤيد قرار ترامب بشأن ترحيل 350 ألف مهاجر فنزويلي    محافظ كفرالشيخ: توريد 178 ألف طن من القمح وصرف مستحقات المزارعين بانتظام    مهرجان كان يعدل جدول أعماله بسبب دينزل واشنطن ويفاجئه بجائزة "السعفة الذهبية الفخرية" (فيديو)    التعليم تكشف عن سن التقديم لمرحلة رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي    4 قرارات عاجلة من النيابة بشأن بلاغ سرقة فيلا نوال الدجوي    الأرصاد تُحذر: شبورة ورياح مثيرة للرمال والأتربة على هذه المناطق اليوم    حبس شاب متهم بالشروع في قتل آخر بالعياط    أحمد دياب: إيقاف النشاط أمر غير وارد    عاجل| عرض خليجي خرافي لضم إمام عاشور.. وهكذا رد الأهلي    مشروعات عملاقة تنفذ على أرض أشمون.. تعرف عليها    تكريم طالبين بجامعة عين شمس لحصولهما على جائزة بمسابقة عمرانية    الإفتاء: لا يجوز ترك الصلاة تحت اي ظرف    فضل حج بيت الله الحرام وما هو الحج المبرور؟.. الأزهر للفتوى يوضح    أحدها لم يحدث منذ 2004.. أرقام من خسارة ليفربول أمام برايتون    صيام صلاح مرة أخرى.. ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي الممتاز بعد خسارة ليفربول    محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل ويشدد على سرعة الإنجاز (صور)    سيلان الأنف المزمن.. 5 أسباب علمية وراء المشكلة المزعجة وحلول فعالة للتخفيف    رئيس شعبة مواد البناء: لولا تدخل الحكومة لارتفع سعر طن الأسمنت إلى 5000 جنيه    «ليست النسخة النهائية».. أول تعليق من «الأعلى للإعلام» على إعلان الأهلي (فيديو)    إغلاق 7 منشآت طبية مخالفة و7 محال تجارية فى حملة بقنا    منافس الزمالك في ربع نهائي كأس الكؤوس الأفريقية لليد    حدث بالفن | حقيقة إصابة عبدالرحمن أبو زهرة ب "الزهايمر" وموعد حفل زفاف مسلم    موعد نقل القناع الذهبي لتوت عنخ آمون إلى المتحف المصري الكبير    أستاذ علاقات دولية: الاتفاق بين الهند وباكستان محفوف بالمخاطر    ما مصير إعلان اتصالات بعد شكوى الزمالك؟.. رئيس المجلس الأعلى للإعلام يوضح    جامعة حلوان تنظم ندوة التداخل البيني لمواجهة تحديات الحياة الأسرية    وزير الاستثمار يتوجه للعاصمة الألمانية برلين لتعزيز العلاقات الاقتصادية المشتركة بين البلدين    هل يوجد في مصر فقاعة عقارية؟.. أحمد صبور يُجيب    شعبة المواد الغذائية تكشف 4 أسباب لعدم انخفاض أسعار اللحوم مقارنة بالسلع التموينية (خاص)    وفد قبطي من الكنيسة الأرثوذكسية يلتقي بابا الڤاتيكان الجديد    سامي شاهين أمينا للحماية الاجتماعية بالجبهة الوطنية - (تفاصيل)    عليك إعادة تقييم أسلوبك.. برج الجدي اليوم 20 مايو    تامر أمين ينتقد وزير الثقافة لإغلاق 120 وحدة ثقافية: «ده إحنا في عرض مكتبة متر وكتاب»    سرعة الانتهاء من الأعمال.. محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل    وزير العمل: قريباً توقيع اتفاقية توظيف للعمالة المصرية في صربيا    خالد الجندي: الحجاب لم يُفرض إلا لحماية المرأة وتكريمها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر الصعيد
تتدلع تملي القلل
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 05 - 2012

وقفت دائماً عطشي في معرفة مصر أم الدنيا، أشعرتني أن خفاياها تتجدد وتتعدد ولا سبيل إلي تفسيرها وفهمها بالكامل وما عليّ إلا أن أقنع بما تكشفه المفاجأة أو يتيحه البحث، أما المعرفة الكاملة أو القريبة من الكمال فإنها ستظل عسيرة، الآن اكتشفت أن معرفتي تزداد ضيقاً لأني ومثل معظم العرب حصرت مصر في القاهرة، وربما نظرت بعيني سائح أيضاً إلي الاسكندرية، ولن تفلح كل الأعمال الفنية أو الروائية أو الملصقات السياحية في أن تخرجني من تصوري القاهري لمصر المتسعة الأرجاء، لكني حظيت بفرصة لتلمس شيء من عظمة مصر الحقيقية: الذاهبة جنوباً تاركة شمال مصر يتسيد، عاكفة علي جمالها الخاص وعمقها التاريخي المذهل.
أمضيت ساعات قليلة في القاهرة أتجنب الميادين التي تكتظ بالتظاهرات التي استعادت أهميتها في موسم انتخابات الرئاسة المشتعلة بالتناقضات والخلافات، والتي ينظر المصري إلي خارطتها فلا يجد من بين المرشحين من يتماهي مع ألق الثورة الشعبية، تركت كل هذا ورائي وجئت قطار الصعيد.
تأخرت في المحطة المكتظة بالمسافرين الصعايدة الخارجين من قصائد الابنودي ورواية «الطوق والاسورة» ليحيي الطاهر عبد الله. كان التأخير مرتبطا باضرابات فئة عمال السكة الحديد «الدريسة»، فهم ككل الفئات لهم مطالبهم، وقد طالتهم جزاءات رفضوها فوضعوا الحواجز علي القضبان وقد استجابوا حين رفعت الجزاءات عنهم لحاجة الشارع ولتسيير مصالح الناس ففكوا اضرابهم وتحرك قطاري متأخراً لساعات، انتصف الليل وزحف الضوء عن يساري علي زجاج النافذة وانجلي الصعيد.
عيناي اللتان تدربتا علي الجمال العابر بسرعة من قطارات اسبانيا والمانيا وسويسرا، لم تتوقعا الكثير في بر مصر، لكنهما خجلتا من الجمال المباغت الذي أحاط بهما علي امتداد تسع ساعات يراودني فيها التعب فأغمض جفنيّ لدقائق ثم أقاوم حتي لا يفوتني جلال مصر الصعيدية.
تمشي مصر «تتدلع تملي القلل» علي شط النيل بين القاهرة والاقصر حيث تمتد الخضرة اليانعة قمحاً وبرسيماً ونخلاً وقصباً، خير الأرض التي منحها النيل المعطاء، ولهول الجمال والخصب كنت أسال برعب لماذا تعد مصر من البلدان الفقيرة وفيها كل هذا الثراء؟ بشر وأرض وماء، في أي الجيوب اختزلت ثروة مصر ومن سرقها عبر العصور؟
في الطريق الغافية بيوتها وقراها علي حدود الماء، حيث الفلاحات ينقلن المياه من النهر إلي بيوت الطين، والفلاحون يقطعون نباتات قصب السكر المتغاوية، والترع تمتد مثل بحيرات غنية تتفاوت في صفائها وصلاحيتها بين بقعة وأخري وتذكرني بآفة البلهارسيا التي ظلت مصر تكافحها عقوداً، ستمر الجيزة ونجع حمادي وقنا، في محطة قنا سأجرب أقماع الجلاب الحلوة المصنعة بصورة بسيطة من فوران دبس القصب، حين يغلي السكر وتصير رغوته أقماعاً حلوة تحلي الرحلة.
كانت القاهرة منشغلة بمعركة الرئاسة حيث تسود صفحات الجرائد مقالات حول سليمان والشاطر وأم ابو اسماعيل، كما كان الشارع خائفاً من تغيير ملامح مصر الحلوة المنفتحة المتحضرة الخاشعة بأخري متجهمة مغلقة، أو بملامح عسكرية صارمة، كانوا يتداولون خوفهم علي ثورتهم بينما نذهب في وفد ثقافي إلي الصعيد في الأقصر نناقش تأثيرات الثورة علي الشارع العربي.
في أعماقي أتردد في قياس أهمية هذه المؤتمرات، فالحياة حولي تقول كما أبو تمام: «السيف أصدق أنباءً من الكتب». ونحن المبدعين أو المنخرطين في العمل الثقافي نقتات بالنظريات ونعيد تصدير الفعل إلي كلام يقرأه الناس، لكني في نفس الوقت كنت ككل الكتاب والأدباء العرب والمصريين ابحث عن دور تحت الشمس للكلمات الصادقة، فكيف إذا كانت شمس طيبة الخالدة، الأقصر مدينة التاريخ العريق والسياحة الجميلة الهادئة والإنسان الأصيل؟
وصلنا إلي الفندق وتوزعنا علي الحجرات يرافقنا رئيس المؤتمر الشاعر حسين القباحي وأمين عام المؤتمر الشاعر النوبي عبد الراضي، وفي إيقاع مغاير عما عرفته في القاهرة مثلاً من امتيازات المنظمين للمؤتمرات الذين يجلسون في أبراج عاجية كان كتاب الأقصر ومنظمو اللقاء يتحركون مثل المضيف البدوي البارع الحريص علي راحة ضيفه.
علي مدي ثلاثة أيام عشت عمراً فائضاً بين أناس ظاهرهم البساطة وباطنهم الثقافة العميقة، صعايدة في معاشهم، فراعنة في معارفهم، عرب في ضمائرهم، انسانيون في انفتاحهم، تلمسوا واقع الحال الذي أحاط بثورة مصر خاصة والثورات العربية عامة، وقفزوا عن المخاوف في بحثهم عن تصور مستقبلي يحدوهم أمل عريض علمهم إياه طول النيل وصبر الشمس علي زرع الإنسان.
عقدت جلسات المؤتمر في مواقع عدة، المركز الثقافي، والمقاهي الشعبية والساحات العامة، مما جعل أمر لقاء رجل الشارع ممكناً يضيف إلي المثقفين تجربة لقاء المواطنين، والتي تبدو في معظمها أكثر اقتراباً من الواقع، بهذه الممارسات الثقافية الجديدة شعرت بأن المثقف اكتشف عزلته وأزال السياج الذي أحاط به زمناً لينزل إلي الشارع ويلتقي بالمواطن، ورغم أن تلك الجلسات كانت علي درجة من الجدية والحوار الذي يحتد أحياناً علي الطريقة الصعيدية الحارة، فإن الأمسيات الشعرية التي صاحبت حراكنا كشفت لي عن جمع من الفنانين يختلفون ويمتلكون حساسية خاصة لعلها تأتت لهم من انفتاح السماء علي زرقة ناصعة وسموق النخل وتدفق النيل في فيضانه، ومن تلك الخلفية المذهلة التي تعطي لمدينة مكانتها ممثلة بمعبد الاقصر الملاصق لرصيف البر في ساحة يوسف أبو الحجاج، وهذا غير يوسف الحجاج الثقفي المعروف في العراق، إنه صوفي أقام له مسجداً فوق خاصرة الآثار الفرعونية في معبد الأقصر فصار جزءاً منها، يحتفل به أهالي البلدة في الرابع عشر من شعبان.
الأقصر تنتمي إلي طيبة القديمة، سماها هوميروس الاغريقي «مدينة المائة باب، أو مدينة النور لاشراقها أو مدينة الصولجان لهيبتها ومكانتها السياسية وأراد العرب اسمها مصوراً لما حفلت به من قصور شامخة فكانت الأقصر، منها حكم العالم القديم وإليها ارتحل الفرعون منتوحتب ليؤسس لعبادة الاله أمون، وليجد لنفسه موقعاً بين الحكام الفراعنة بنسبه إلي أمون فتركت تلك الحقبة في المدينة ما يقارب ثلث أثار العالم المعروفة، سنري منها معبد الاقصر الذي يعانق النهر ويحتفي بالتماثيل المبهرة لرمسيس ومنتوحتب، في مدخله مسلة عملاقة واحدة بينما تفيد الرسومات السابقة عن وجود مسلتين اثنتين، أن أعرف أن المسلة الأولي موجودة وسبق لي مشاهدتها لمرات في عاصمة النور الاوروبية باريس أمر مفجع، فالمسلة المصرية تتوسط ساحة الكونكورد في باريس كإرث إنساني حضاري منهوب.ومسلة الأقصر وحيدة بلا أختها.
طريق الكباش يخترق البلدة باحاطة أمنية تعبر الجسر بالسيارة فتري امتداد الطريق الأثرية علي جانبيك، درب اصطفت علي جانبيه تماثيل متتابعة تحرس ممره بأجساد أسود ورؤوس كباش في مسافة طويلة تربط بين معبد الاقصر ومعبد الكرنك الذي بني في تراكم مستمر علي مدي قرون من الزمان يؤرح لكل الذين مروا بالوادي ويمثل لثقافتهم وفنونهم في سلسلة من المعابد ظلت تقدس أمون وتراكم معرفة الفراعنة علماً وفناً ومعماراً، يمكنك فهم التيارات الفنية والفكرية في اختلاف المعمار والنقوش، ورغم ايماني بالانجاز البشري وتقدمه لا بد أن يداهمني سؤال الدهشة في المعبد. ماذا أضفنا كبشر معاصرين إلي ما تركه الآخرون، بدت لي المدارس الفنية كلها حاضرة في الفن الفرعوني، كما تجلت نظرة الانسان الفلسفية إلي الكون في كل ما تركوه وكأنهم لم يتركوا لنا إلا الفتات نجترحه.
في الكرنك أقدم بحيرة اصطناعية ترتبط بالنيل وتوافق فيضانه وانحساره فهي بذلك مقياس له، كان الكهنة يغتسلون فيها قبل أداء عباداتهم، يجاورها رمز الجعران مرفوعاً علي عمود يدور حوله السواح الأجانب تماماً لذات الغرض الذي كان الفراعنة يدورون حوله طلباً لتحقيق الأماني وحل المعضلات في الحياة الخاصة. والجعران أكثر التمائم المفضلة عند الفراعنة، إنه يختزن طاقة الانسان ويمنحها ويطورها، وهو بمثابة القوة الذاتية والقلب، البعض يكتب خلفه دعاء يطالب فيه قلبه ألا يكون شاهد زور عليه، وقد التفت علماء اللغويات إلي اسمه عندهم وهو « خبر» ذلك إنه يبزغ في الوجود دون مقدمات، وقد يعتقد قدماء المصريين بأنه كائن لا إناث له، وهو في كل الأحوال نوع من الحشرات من فئة الخنفساء، ولم أجد أي من السواح العرب يدور حول تمثاله الكبير ولكن الأوربيين العقلانيين العلمانيين كانوا يفعلون!
كل ما ذكرت كان مجرد الجزء الشرقي من الآثار التي تقع شرق النهر حيث الشمس تشرق فتسمي المدينة بمدينة الأحياء، ولأن شيئاً لم يكن مصادفاً فإن غرب النهر يسمي بمدينة الأموات يحوي كنزاً أخر لا مثيل له، إنه نهاية رحلة الحياة حيث تودع المومياءات المحنطة، حيث دفن تحتمس الملك وتوت عنخ أمون وامنحوتنب وسيتي الأول ورمسيس وحور محب، إنه وادي الملوك في رحلتهم الأبدية، تجمع آثار يدر علي مصر اليوم دخلاً من السياحة ويعطي للانسان فكرة عملية تقول كانوا يوماً ومضوا. فهل نتعظ؟
إلي جانب وادي الملوك هناك وادي الملكات ، ومقابر نفرتاري وحتشبسوت، حيث التاريخ مكتوب علي الحجر، كما في معبد الرمسيوم وهابو صورت الحكايات والمعارك وأزمنة الرفاهية والاسترخاء والآمان، المعارك والألعاب الرياضية ورحلة الموت الأخيرة، التجول في مدينة الأموات يأخذ من الوقت أضعاف ما يحتاج اكتشاف مدينة الأحياء، ويكشف عن الحياة كيف كانت بأكثر ما يكشف عنها أثر الأحياء أنفسهم.
في عدد لا يستهان به من التماثيل التي تصور هذا التاريخ العظيم يمكن رؤية ما خلفه لصوص الآثار والمغامرون وراءهم من خراب، تماثيل بلا رؤوس ولوحات أزيلت بعض أجزائها ووجوه تهشمت لملوك ظلت أجسادهم منتصبة، وأياد نزعت من موقعها، فرغم كل ما أحاط به الفراعنة تاريخهم من أسطورة اللعنة التي تلاحق من يدنس حرمة مواقعهم إلا أن لعاب العالم ظل يسيل علي تلك الآثار الثمينة التي شهدت أرفع ما عرفته البشرية من حضارات.
في الأقصر يمكن زيارة متحفيين هما متحف الأقصر ومتحف التحنيط، وعلي صغرهما فقد كان أكثر تنظيماً من متحف القاهرة كما رأيت في أهمية كنوزهما ما يجب الوقوف عنده، أمام تمثال امنحوتب المنمنم المنتسب إلي فترة الرفاهية والآمان كان الوجه يبتسم صراحة وعيون الحجر تضحك، ورأيت في سحر التمثال الغامض ما يفوق عبقرية دافنشي وهو يرسم ابتسامة الموناليزا الشهيرة، ورأيت في دقة تفاصيل ما انكشف من أجساد المومياءات المعروضة رهبة الموت ، وفي تماثيل أخري كنت أضحك ممن ظنوا أنهم اخترعوا السريالية أو قدموا فناً حداثياً، وإذا كانت التماثيل العملاقة شديدة التأثير بالنفس تبعث علي الرهبة، فإن أعظم المنمنمات ترقد في متحف التحنيط، تمثال الأسير الذي يحكي حكاية القهر منذ فجر التاريخ بصورة حداثية غير مسبوقة مبرزاً الألم المصاحب للأسر منطقاً الحجر، وتمثال آخر أظنه مثل عبقرية الفنان الفرعوني وأفصح عن الفكر الذكوري منذ تلك الحقبة حتي يومنا هذا، التمثال يمثل رجلاً قوياً مسلحاً بحربة في يمناه وجهه غاضب قوي، ويساره تقبض بقوة علي شعر امرأة انحني جسدها في زاوية كاملة وبان علي وجهها الألم والخوف والرجل يجرها محكماً قبضته، بينما بين قدميها المنفرجتين تمثال لأسد في حالة تحفز، الكاتب الفرعوني كتب تحت قاعدة التمثال فلسفته وترجمت إلي عبارة خطيرة تقول «احذر المرأة فإن تحتها أسدا»، هل تغير الكثير منذ كان الرجل يخاف قوة المرأة ويحرص علي السيطرة عليها؟
رافقتنا في جولاتنا السياحية المرهقة الممتعة « مريم» وهي حفيدة الشاعر حسين القباحي، طفلة ملائكية الوجة لم تبلغ عامها الثالث بعد، لكنها نبهتني إلي مفارقة مهمة، في الوقت الذي كنت فيه أتعب من الجولة وأقي رأسي بقبعة من سياط الشمس كانت الصغيرة تمشي حاسرة الرأس، تصدر مع كل خطوة نغماً موسيقياً إذ كان حذاؤها مزوداً بصافرة، ونضحك قائلين: بإنها تسير بموسيقاها التصويرية. تلك الصغيرة حضرت كل الأمسيات الشعرية والجلسات البحثية ولم أشعر للحظة إنها تعبت، مثلت لي بقوة احتمالها الإنسان الصعيدي في الأقصر حيث هو متأقلم مع طقس منطقته وشدة الحياة فيها، كانت الطفلة مريم كثير من صبر المصريين واحتمالهم وجمال امرأة الصعيد وتفردها، في الساحات والأسواق والشوارع لم تقع عيني علي امرأة واحدة بدينة بينما تلاحظ تلك الظاهرة بكثافة في العاصمة، هل هي حياتهم التي تقتضي العمل الشاق للمرأة والرجل، أم علاقتهم المباشرة مع الأرض يأكلون خيرها الذي لم يتلوث بإضافات المدنية، هي ملاحظة عابرة يمكن أن تقود إلي استنتاجات شتي.
في تلك الأجواء الخرافية عقد مثقفي الأقصر مؤتمرهم يحتفلون بافتتاح قصر الكاتب العربي الكبير بهاء طاهر، وهو بيت ثقافي أقيم علي قطعة أرض تبرع بها الأديب لمثقفي الأقصر، فأقاموا بيتاً ثقافياً نموذجيا يحمل اسمه، كان يفترض إقامة حلقات الدراسة فيه إلا أن إجراءات تأخر تأتيثه حالت دون ذلك، تفرجنا علي البيت وقد أنجز تماماً وتمنينا لو أن المثقفين العرب يقومون بمثل تلك الخطوات التي تبني للثقافة صروحاً تمنح المهمشين مساحة يتحركون فيها، وأقول المهمشين لأني ورغم متابعاتي للحركة الثقافية في مصر لم احظ بمعرفة ما يجري في الصعيد، كان الصعيد مصدراً لنا في نصوص بهاء طاهر وعبد الرحمن الابنودي ويحيي الطاهرعبد الله واحمد فؤاد نجم، وشموخ أمل دنقل، الصعايدة الذين تمكنوا لظروف دراستهم وعملهم من هجر الصعيد والاقامة في القاهرة، في تقديري صبغت نصوصهم بصهد المدنية، وفارقت طمي مكانها بمقدار.
في الأمسيات الشعرية المقامة علي هامش المؤتمر حظيت بسماع مجموعة من شباب الصعيد جاءوا من الأقصر واسوان وقنا ونجع حمادي، كانت قصائدهم مضمخة بحلاوة مزارع قصب السكر التي رضعوا سكرها، منفتحة علي الأفق الواسع الأزرق وعلي النيل حيث هو في موقعه ناصعاً لم تلوثه المدينة، في الوثيقة التي يحملها كل ميت فرعوني إلي آخرته قسم يقول: إنني فعلت خيراً ولم ألوث مياه النيل. من هذه القدسية للمكان خرجت قصائد الصعايدة حارة صادقة، قاموسهم اللغوي مغاير ومختلف، والمشهدية الجميلة في نصوصهم تمسرح الحياة وتقترب من الروح، كيف لا وهم يرون ماء النيل يترقرق ونخل أرضهم يطرح وفقرهم يعلمهم الصبر. ثم يكون بعدهم عن مركز الضوء الإعلامي القاهرة، بعد يجعلهم هامشاً رغم أن كل تجربة إبداعية فيهم قابلة لتكون في عظمة بهاء طاهر والابنودي لو تسني الاهتمام بها.
انفض مؤتمرنا سريعاً مطلقاً توصيات عروبية تماماً، كان علي رأسها رفض كل أشكال التطبيع، ثم الالتفات بقوة إلي مشكلات المثقف الجنوبي الماثلة، وبعد أن ناقش آثار الثورات العربية علي الشارع العربي خرج بنتيجة حتمية أن الثورة ما زالت مستمرة، مثلما هو جمال الصعيد مثلما كان الارتباط العميق بين الماضي والحاضر يتمدد علي شط النيل الرقراق، ما زال الإنسان في الاقصر يجري ويفيض ويزيد ، يحلم ويبني، تحية لعبقرية الأرض وبساطة الإنسان واتساع الحلم، تحية لأيام الأقصر المختلفة المتوهجة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.