«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهيق طويل قبل أن ينتهي كل شيء
دوائر الضّياع
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 05 - 2018

يقدم "هشام البستاني" في مجموعته الجديدة: "شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلُّ شيء"، الصادرة عن دار "الكتب خان" عام 2018، تجربة قصصيّة تغادر نسبياً تجربته في مجموعته السابقة "مقدّماتٌ لا بدَّ منها لفناءٍ مؤجل" (دار العين، 2014). تجربته الجديدة هذه، أوليّاً، ووفقاً للعنوانات التي تعدّ أول عتبات النصوص، تعتبر مرحلة متقدّمة في مدارج الفناء: النّهاية التي تأجلت مؤقّتاً في المجموعة الماضية.
في الإصدار الجديد، نمرّ مع القاصّ بمرحلة أخري، هي الأنفاس الختاميّة ما قبل الفناء التام، الشّهيق الأخير الذي يلتحم بواقع المأساة التي يعيشها كثير من مواطني البلاد العربية، وما يلاقونه من امتهان وموت وقتل، وغيرها من أنواع الإذلال والتشريد. فبجوار استمرار تأمّلاته بحياة الإنسان، وشعوره بمأساة الوجود وانفضاض جدواه، كما بمجموعاته الثلاث السابقة، يخوض الكاتب هذه المرّة في أحداث ووقائع مشتقّة من حياة النّاس اليوميّة، سواءً في سورية، أو غيرها من بلدان العرب؛ وقائع تبدو أحداثها سريالية أكثر مما قد تتمكّن مخيّلة أي فنان من أن تُخلّق.
قصّة ضياع.. قصّة إنسان
في هذه مجموعته الجديدة، لا يُصوّر البستاني وقائع ما يحدث من فجائع، ولا يُحاكيها فالجميع يعرفها، لكنّه يرصد لانعكاسات هذه الوقائع علي الإنسان الذي يحيا هذه الفوضي، وذاك الاقتتال والضياع. لا يلجأ القاصّ إلي الانعكاس المباشر، بل يستخدم ذاك الانعكاس ليخلّق مشاهد، ويصوغ أساليب، ويستخدم تقنيّات تتوازي مع الأحداث المفجعة وما تصنعها بالإنسان؛ عوالم فنيّة تُدّلل تقنيّاتها وبناؤها علي عمق الرؤية الإنسانيّة التي ينطلق منها الكاتب، وطرقه الإبداعيّة المبتكرة لتعرية الواقع وتشخيصه، بتجريده من قشوره السّطحية، حيث تنغمس بنية القصّة (بطريقة تكوين أساليبها، ومفردات مشاهدها) بالمأساة التي تعالجها، فتصبح التقنيّة هي الدلالة ذاتها، والفكرة هي التكنيك الكتابيّ المقصود.
تشير هذه التقنيّة لتوجّه الكاتب الفنيّ الخاص، والمنظور الذي تخيّره لطريقة تعاطيه مع السّرد، حيث السّعي غير المباشر لتلمّس البصمات التي تتركها الأحداث بابتداع قصص متوازية مع الواقع وتعلو عليه في آن، لتراه وهي محمّلة بالرؤية الأكثر عمقاً وقدرة علي التّجسيد، ولتبرز مأساة لعنة المكان والظرف التاريخيّ والثّقافة علي الناس، حيث تكنّي الأساليب وتكنيك الصّياغات عن متاهة ما يلاقيه المواطن العربيّ من ويلات وضياع، وتفصح عن غضب هائل يدفع للكتابة علي هذا النّحو.
يُبحر القاصّ ذو الحسّ الشعريّ، بقارب مطاطيّ جديد (هو الشكل الفنيّ الذي يعتمده في الكتابة)، يتحري الاتّساع بتقنيّات القصّة القصيرة دون أن تفقد ميّزاتها وخصوصيّتها كنوع أدبي يتضمّن شعريّة خاصة، فالبستاني مبدع إن لم تتعرّف علي طرائق إبحاره المتنوّعة، والمراوغة، فعليك مغادرة قاربه الفنيّ بأمواجه المتلاطمه، إذ لا يُتاح المعني وفنيّاته إلا لمن يصبر علي الجمال العصيّ، ويتحرّي تفاصيله.
تتألف المجموعة القصصيّة من أربعة فصول، أو "كتب": الغرق، الرّعب، البلادة، اليأس. وتحت تلك العنوانات الجامعة لكل مجموعة من القصص، ثمّة عنوانات أخري، بديلة، شارحة، تصف ما تخلُص إليه قصص كل كتاب، فالعنوان الفرعيّ ل"كتاب الغرق" هو" عن حياةٍ طعمُها كالملح"، أمّا العنوان الفرعيّ ل"كتاب الرعب" فهو: "عن حياةٍ طعمُها كالجحيم"، ونقرأ تحت "كتاب البلادة" عنوان: "عن حياةٍ بلا طعم"، وأخيرًا، يرد تحت "كتاب اليأس" العنوان الفرعيّ: "ملاحظاتٌ أخيرةٌ لن تُفيد أحداً".
أحسب أن طرح بدائل للعنوانات قد يرجع إلي ثراء المعني، وفيض توصيفاته لدي الكاتب، أو تعدّدٍ في شكل تلقّي لاوعيه العميق للواقع، حين يكثّف أولًا ثم يعود يشرح، ويصف ما أجمله في العنوان. وربّما يبدو التعدّد الفنيّ للعنوانات تعويضاً عما نُحرم منه في الحياة السياسيّة من تعدّد وتداول واختيار، أو نوعاً من السّخرية والشّعور بالعبث في منطقةٍ محتقنةٍ من العالم، ورصداً للحظات السّيولة تلك التي بلا معني، التي لا يصلح لها أن تُجمّل فقط وتقطّر، بل أن توصف لسيولتها وفجيعتها، أو التي تكتظّ بالمعني حدّ الانفجار، حدّ الشّهيق الأخير.
تحت هذه العنوانات الأربعة ينتظم اثنان وثلاثون نصّاً، جميعها تتشكّل وفق تقنيّات القصّة القصيرة، وشعريّة قصيدة النّثر، مضافاً إليهما آليات كتابة الرواية وتقنيّاتها لكن بتصرّف محكم، وهو ما أشرت إليه في دراسة سابقة حول أعمال القاصّ. علينا أن نقف هنا لنتأمّل طريقة القاصّ في تشكيل فنيّات تقنيّاته ودمجها في منظومة مركبة، كأنّه يلعب علي عصب ثلاثيّ من آليّات القصّة والرّواية والشّعر، ليؤسس بها طريقته الخاصة في توظيف تقنيّات السرد الروائيّ والشّعر داخل القصة القصيرة، مثل:
طريقة رسمه لشخوص النّصوص، والتعامل الممتدّ والدائريّ مع الزّمن، وغرابة الأماكن وسيولتها وضياعها من الخرائط التي توهم الإنسان باستقراره.
طريقة صياغته لتكويناته الإسلوبيّة حيث النفس السرديّ الممتدّ في بعض النّصوص، فتبدو القصّة وكأنّها دفقة واحدة تنطلق بلا توقّف، أو اللّقطة المكثّفة المتوتّرة التي تحمل الحس الكاريكاتوريّ السّاخر في نصوص أخري.
كيفيّة طيّ الأحداث الكثيرة سريعاً بأقلّ عدد من الكلمات إذ يُشعرك السّرد أنه يقفز بالمتلقّي خطوة لما بعد توقّعه، أي أنّ القاص يدفع المتلقّي للّهاث ورائه ليعرف عن الحدث السّابق بدلالة الحدث اللّاحق، دون أن يقدّم له يقيناً أو يصوّر حدثاً مجرّداً.
القصّ الدائريّ الذي يعود إلي ذاته، فتمسك نهاياته بتلابيب بداياته حين يصور موجودات المشهد المتسع حال علاقاته المتداخلة والمترابطة العميقة التي لا تراها سوي عدسة القصّ الفنيّ المميّز، فتلحق النّهاية السّائلة السّوداء بمقدّمات النصّ الملتبسة وتعود إليها ثانية.
شخصيّات القصص الإشكاليّة..
وظهور "روح" الكاتب في بعضها
تتحرك شخصيّات القصص بشكل بعيد نسبيًّا عن "النموذجيّة"، أو القولبة، وهي ليست قابلة لأن تُساق أو أن تُسلّم نفسها للآخرين، مثل المقطع الذي يجري فيه استجواب جواد (المذكور سابقًا) من قبل ضابط الهجرة الأوروبيّ: " لمَ غادرتَ؟ سألني بحضور المُترجم، فقلتُ لهُ إن البلاد حرب والموتُ في الهواء منثورٌ كالغبار، وأنا خائفٌ علي نفسي. لِمَ لَمْ تُقاتل؟ سألني بحضور المُترجم، فقلتُ لهُ إن أحدًا من المتقاتلين لم يُقنعني، وإن رأسي هذا الذي أنا خائفٌ عليه لا يركبُ بسهولةٍ علي أجساد الآخرين."
هنا تتبدّي ملامح بطل إشكاليّ يصارع نتائج تناحر فصائل الحالة الثوريّة التي تسبّبت فيها فوضي الثّورات العربيّة، والدّمار الذي انتجته الأنظمة وانتهازيّة قوي المعارضة المختلفة، ومن ثمّ تكوّن لديه رفض داخليّ لقابليّة الاستبداد التي تحدّث عنها عبد الرحمن الكواكبي، سواء أكان مصدره النّظام الحاكم، أو الجماعات الأصوليّة التي تقنّعت بالدّين لتمارس الاستبداد، أو التّنظيمات الانتهازيّة التي امتطت موجات الزّعامة، ليرمي البطل نفسَه في البحر، يضعها بين يدي الموت، أو أحد أشكال الاستعمار مرّة أخري، أو بالأحري قابليّة الاستعمار كما يصفها مالك بن نبي إذ يكتوي بالاستعلاء الذي يمارسه الغرب علي الشّرق.
مستوي آخر تقدّمه طريقة رسم الشخوص بالمجموعة، إذ تظهر روح وقناعات القاصّ ذاته، أو بعضها، داخل الشخصيّات المتحرّكة علي الورق، فتظهر أطياف الكاتب، وتجاربه الشخصيّة، أو معتقداته، أو نظراته في الحياة، في بعض القصص، مثل ما جاء في ردود جواد علي الضّابط الأوروبيّ، أو في قصة "التفّاحة المعلّقة علي الشّجرة"، حين تتحدّث الشخصيّة القصصيّة عن حمّي الرواية والجوائز والكتّاب اللّاهثين خلفها، أو في "إطلاق النّار علي مدينة مقيّدة اليدين" حيث نوستولجيا الحنين لمدينة لم تعد لها ملامح سوي في ذاكرة القاصّ وقت صباه، أو في "الكثير من الأسئلة، القليل من الإجابات"، و"سَكِينة"، وفيهما تتبدّي بعض أسئلة القاصّ الوجوديّة حول الحياة.
ويحضر القاصّ في النصوص أحيانًا عن طريق إعلان وجوده واضحاً من خلال السّرد بتقديم آرائه وجوانب من حياته الخاصّة، أو من خلال حضور ضمنيّ يتغيّا فيه كسر إيهام القصّ والحكاية، كما في تقنيّات المسرح، من خلال اقحام فاصل من كلمة أو جملة ليكسر التتابع السرديّ. وتستمر المنازلات الجدليّة داخل النصوص القصصيّة، فيستحضر الكاتب نفسه في المسافات البيضاء، كما المُظلّلة، في نصوصه، إذ نستشعر الرؤيا خلف القصّ، والمنظور الخاص في تناول الحياة.
الشخصيّات التي تُغادر نصوصها، وتظهر في نصوص أخري
تبدو بعض القصص في كل "كتاب" كأنّها متتالية، لكنها ليست متتالية تقليديّة، فالشخصيّات التي تُحرّك القصّ وتحمل أحداثه وأفكاره علي عاتقها تأخذ أبعاد الإنسان الفرد الذي يختلف في كل قصّة، الواحدُ الكثير المتشابه والمتكرّر الذي تناسل في الزمن العربي وتعدّدت أسماؤه، الواحد الكثيرون الذين لا يتطوّرون في الزّمن، ويقتربون من تمثّلات تشبه المرض النفسيّ، فيزدادون توحّداً وانعزالاً علي ذواتهم لكثرة ما يلاقون من هزائم، نموذج إنسانيّ عابرٌ للنّصوص، يتشابه بتنويعاته وملامحه وعجزه، ف"جواد" (في قصّة "طافيًا في الهواء، بثلث انثناءٍ في الرّكبتين"، القصّة الثانية في "كتاب الغرق") يبدو وكأنّه هو ذات الرّجل الهارب من مذبحة "تل الزعتر" عام 1976 في قصة "السفينة" (قصّة الكتاب الأولي)، الذي هو ذات الرّجل الهارب من مذبحة حلب عام 2016 في نفس القصّة وهو ذاته الذي ألقي بنفسه في البحر داخل قارب مطاطي (رغم أنّه آخر) في قصّة "تحضيرات ما قبل النّزول إلي البحر"، وهو أيضاً الكثيرون في أزمنة النّكسات والضّياع المستمرّ.
ويقدّم القاصّ انزياحاً عن طريقة رسم شخصيّات القصّة أو الرّواية المتعارف عليها، فتتبدّي شخوصه في منطقة برزخيّة بين الاثنين: تظهر محدوديّة وفردانيّة مساحة رسم الشخصيّة في كل قصّة بالاكتفاء بلقطات محدّدة، لكنّها تتحوّل إلي شخصيّة ملحميّة ممتدّة في الزّمان والأمكنة في قصص المجموعة كلّها حيث اتساع النّموذج الذي يتكرّر.
كما تبدو الشخصيات في قصص "الصّوت القادم من الغرفة الصّغيرة الملحقة بالمطبخ"، و"بالضّربة الفنيّة القاضية"، و"رائحةٌ غريبةٌ في الأرجاء" من "كتاب البلادة"، وكأنّها امرأة واحدة لكنّها متكررة، ذات ظلال متعدّدة تمتدّ في شخوص كثيرة متشابهة: نموذج من النساء (والرّجال أيضاً) في المجتمع المعاصر، ممّن يدفعون أثماناً باهظة من كرامتهم وحريّاتهم نظير الحياة المترفة، وسُعار التشيُّؤ، الذي يجعل الزوجة تحتجّ علي ساعات الرّاحة القليلة للخادمة "شاندرا" رغم أنّ شاندرا هي من يقوم بكلّ أعباء المنزل، أو تحوّل المرأة إلي كائن استهلاكي لايكترث بالعالم وما يحدث فيه، إلا في نطاق ضيّق مُتسلّع يكاد يُسبّب لها اختناقاً دائماً.
تلك التقنيّة في رسم شخوص القصص، تُحيل إلي طريقة رسم الشّخصيات المتعّددة المستويات في السّرد الروائيّ، حين تمتدّ وتتعدّد مستويات تلقّيها للحياة، ليجسدها الكاتب هنا في أكثر من قصّة. ويترتّب علي تلك التقنيّة عدم إمكانيّة فهم بعض الإشارات الواردة ببعض جمل السّرد إلا بطريقة الإحالة البَعديّة، مثل قضيّة تحوُّل الفرد إلي عبد للأشياء التي تُستكمل في قصص تالية، رغم أنّ فيها ما يدعم فردانيّة شخوص النّصوص بنفس قدر تكرارهم.
إن مغادرة الشخصيّات لأطر النصّ الواحد باتّجاه "النصّ الكامل" أو الكليّ، للمجموعة برمّتها، يدعونا لأن ننظر إلي الإنسان المعاصر باعتباره وحدة سلعيّة تتكرّر بذات المواصفات، ويُطبع منها أعدادا وفيرة في دورة تصنيع لمنتَج بلا حسّ إنساني، فلا تتحقّق الفردانيّة، والتميّز، التي تُنشد من الإنسان بمعناه الحقيقيّ.
علاقات السّرد الممتدّة: تقنيّات الروايّة
إذ تُوظّف داخل القصّة القصيرة
لقد كانت "الإحالة علي ما قبل" من مقوّمات وقواعد البلاغة التقليديّة المعياريّة، أمّا في الكتابة الجديدة، وعلم النصّ المعاصر، فقد أصبحت الظّواهر الأسلوبية أكثر تركيباً ومغايرة لما عهد من قبل، تتجاوز مفهوم القاعدة إلي اللّاقاعدة، بسبب ما اتسمت به الحياة المعاصرة من تعقيد، وعلاقات غرائبيّة، أوجدت أشكالاً جديدة من الجماليّات، وطرق سرد تكنيّ عن الخيبات الفادحة والمتكرّرة بالزمن العربي، وما تركته من بشر فارغ، خاوي الروح، غاضب لكنه فاقد القدرة علي الفعل.
بجانب طريقة رسم الشّخوص الممتدّة في النّصوص والمنقطعة في الوقت ذاته، تتشكّل القصص بأحداثها وتراتب وقائعها لتُكمل بعضها الآخر، فتبدو مجتمعة في النّهاية وكأنّها منظومة تراتبيّة للأحداث، تتم بروح سرد الرواية، أو كلقطات ومشاهد مُعدّة في مونتاج فيلم سينمائيّ يتضمن تفاصيل متعدّدة هي أقرب إلي سرد العالم الروائي متّسع الرقعة، الغارق في التفاصيل، كما في قصّتي "تحضيرات ما قبل النزول إلي البحر" و"إطلاق النّار علي مدينة مقيّدة اليدين".
ففي "كتاب الغرق"، تبدأ قصّة "السّفينة" لتحكي عن مرحلة من الضّياع تشمل التّاريخ العربي كما الجغرافيا، وتبرز فيها تماثلات واختلافات وضع الحاضر الفوضويّ بشتات الماضي حين يهرب لاجئ فلسطينيّ من لبنان إلي الاسكندريّة، ثم تأتي القصّة التّالية لها "طافياً في الهواء، بثلث انثناء في الرّكبتين" لتصوّر مأساة الحال التي تلت وصول الفارّين المعاصرين لبلاد الغرب، والأوضاع غير الإنسانيّة التي يتعرضّ لها اللاجئون، مع ملاحظة أن الهروب لم يعد حتي إلي الاسكندريّة "الميناء العربي" حيث لا أمان لدي الجميع، وتصبح الاسكندريّة (في القصّة الأولي)، أو بقعة ما إلي الغرب منها، نقطة لانطلاق اللاجئين إلي اليونان، بعد أن كانت نقطة استقبال للهاربين قبل أربعة عقود هي زمن القصّة المتسارع، وزمن التحوّل! أما في القصّة الثّالثة: "قنّينة فارغة علي الشاطئ"، فتتأكّد طبيعة الشخصيّة المقموعة المُضطهدة المُكرهة، المُضطرة لترك الوطن، الذات التي حاربت الموت حتي آخر نفس، لحظة لا تستطيع فيها أن تترك مجرّد رسالة لتُدلّل علي ذلك الصّراع الأخير مع البحر، لحظة يعود فيها الزمن إلي الوراء (فلاش باك) لحكي ما لاقته الشخصيّة في الوطن الذي أهانها وتركها، إذ تقول: "في المعتقل كنتُ في حالٍ مُشابهة: (حانَ وقتُ السّباحة)، يقولُ الضابط فيضعوننا في الدّواليب ويضربوننا إلي أن نتمنّي الموت ولا نناله (...) قبل أيّام، كان حولي حُطام المركب الذي اصطدم بشيءٍ ما لم أتبيّن تمامًا ما هو. لكأنّها صخورٌ نبتت فجأةً وسط البحر. هل تنبتُ الصخور فجأةً وسط البحر؟ علينا أن نقبل بهذه الرّواية فلا تفسير آخر للأحداث عندي. وكما قبلنا بالزعيم/الإله (ذاك الذي أودي بي إلي المعتقل ثمّ إلي البحر) دون منطقٍ أو سببٍ مُقنع، فلا بدّ أن ظهور الصّخور وسط البحر وارتطام المراكب بها أمرٌ أكثر إمكانيّة للتّصديق"، وكأن الإنسان العربيّ قد كتبت عليه لعنات الطّبيعة كما لعنات أطماع حُكّامه وساديّتهم.
ثم تُكمل قصّة "تحضيرات ما قبل النّزول إلي البحر" المأساة القديمة الجديدة، وفيها تعلن الشخصيّة التي هي أيضًا واحدٌ متعدّد، واحدٌ من آلاف البشر النازحين (أو نسخ متعدّدة من "جواد" في القصّة التي تليها)، أنّها لا تعرف العوم، وليس لها عهد بالمياه، لكنّه الاضطرار والفرار من موت حتمي. يقول الذّاهب للمجهول: "وشمتُ اسمي الرباعيّ، وتاريخ ميلادي، ورقم هاتف زوجتي، وبلدتي، والمحافظة. أما البلد فأسقطته، أقلّ ما يمكن أن أفعله بعد أن أسقَطَني" .
في القصّة الخامسة والأخيرة في كتاب الغرق، "الماء ساكنٌ دائماً في القاع"، يصف القاص البحر كساحة نزال الفرد مع الحياة أو الموت والغرق، الشهيق الأخير قبل الموت.
كأن كلّ قصّة من "كتاب الغرق" تشكل فصلاً من فصول رواية تُكتب علي نحو خاصّ، وتعتمد علي المشاهد المكتنزة بالتوتّر اللّاذع والسّاخر والمتراكب، أو مشاهد في فيلم، يفضي كل واحد منها إلي الآخر كما تُفضي الفنون المختلفة بتقنيّاتها إلي فنيّة وبنية القصّة القصيرة العابرة للنّوع في ما بعد الحداثة.
في قصة "ساكن الضفّة الأخري" من "كتاب اليأس"، يتبدي هذا النّفس السرديّ الممتدّ في الزمنّ، لكن من منطلق فلسفيّ ونفسيّ آخر، يقول الرّاوي وهو يتحدّث عن ذواته ومراحل حياته من الشباب إلي الكهولة والموت: "...لن يبقي من ذلك الشابّ سوي همهمة بعيدة أسمعها بين حين وآخرَ، أو صرخة فجائيّة تنطفئ بسرعة اندلاعها نفسها، فأتجاهلها تمامًا. سأعرف أنّه هناك، كان هناك، وسأتأسّي عليه، وسأرقب حياتي الجديدة التي دفعها الزّمن الجديد نحو الشيخوخة. وفي لحظةٍ ما، ستنفتح الهاوية، بسرعةٍ أو ببطء، وحين يسقط فيها الشخص الأخير، بسرعةٍ أو ببطء، فلسوف يسحبنا جميعًا معه. تلك هي اللّحظة الوحيدة التي سنتلاقي فيها ثانية، ونعود واحدًا". هذا هو ذات الحسّ السرديّ الممتدّ في الزمنّ، والذي أحسبه يشي أيضًا بوطأة حضور القاصّ في نصّه، حيث نظراته الوجوديّة التي تهب النصّ نكهته الفكريّة المميّزة. تقُصّ هذه الالتقاطة الفلسفيّة، بحس شعريّ رهيف وعميق، المصير الحتميّ للإنسان، فكما طبعت الانقسامات والفصامات حياة الإنسان العربيّ اليوميّة، طبعت حياتهم الشخصيّة، ومراحلهم العمريّة، بطابعها؛ فصار هذا المنقسم علي ضفاف الأعمار والحيوات، هذا المتشظيّ الزمنيّ.
حضور الموجودات والمشاعر والقيم أشدّ وطأة من حضور الشخصيّات البشريّة
ربما بدت الظاهرة المهيمنة علي هذه المجموعة أن هناك موجودات، ومشاعر، وقيم، لها وطأةُ وفاعليّةُ الحضور، أكثر من شخوص البشر، فمثلًا:
للبحر حضورٌ طاغٍ في النّصوص القصصيّة، فهو الموجود المهيمن والأبرز الذي يُلقي فيه إخفاق ما كان من ثورات العرب وواقعهم وتاريخهم، كما تُلقي فيه الوحشة، والخوف مما سيسفر عنه نزاع الإنسان العربي واقعه.
للخوف حضور الوحش الأسطوريّ ذي الأنياب الناهشة التي تدمي، الرّعب الذي يتلبّس الإنسان دائماً، يقول الكاتب في قصّة "سَكِينة": "أهلًا بك في منزلك الجديد: الخوف. الخوف. الخوف. الخوف. الخوف. تلك جهاتنا الأربع. تلك بوصلتنا. لا وطن لخائف، ولا مستقرّ. للخائف زوايا يلوذُ بها ويتكوّر فيها لعلّ الرّصاصة تُخطئه، أو يوفّره صقيع اللّيل لصباح يومٍ جديد". الحضور الأكثر وطأة في السّرد للدبّابة، والجرّافة، وبندقية القنّاص، لكل متلازمات الخوف والقوّة الغاشمة.
لفضلات الإنسان، والبراز، ورائحة العرق الكريهة، والقيء، وجود فادح يكنّي عن شيوع كل أنواع القبح وقذارة الواقع؛ لرائحة الأجساد المُنتفخة، ومنظرها المنفّر، سطوة تصنّف شكل الوجود وطبيعته، وتشي بظلمه واتّساخه، لا عدله ونقائه.
للحاكم الذي تتلبّسه سطوة الإله الواحد وصلاحيّاته المُطلقة وجودٌ دائمٌ ومتكرّر في فقرات السّرد في الكثير من النصوص. ففي قصّة "النهاية" نقرأ: "من موقعهم ذاك، يشاهد المجتمعون فوق التلّة البعيدة مدينة تأكلها النّيران، وعندما يغيّرون القناة، يظهر الموكب المصفّح للقائد يدهس أناسًا لم يكفّوا عن إلقاء أنفسهم أمامه. كُلُّنا فِداك. كُلُّنا فِداك. ويمتلئ النّهر النّاشف إلي يمين الشّارع بتيّار من الدمّ". لا تنحصر المشكلة هنا في تجبّر الحاكم فقط، بل في المنبطحين الذين تُراق دماؤهم، وطبيعة ثقافتهم التي تجعلهم عبيداً وجواري. يتكرر هنا أيضاً تباعد العلاقات داخل القصّة الواحدة بين كلّ جملة والتي تليها. التّنسيق بلا منطق متسلسل ظاهريّ، وتلك طريقة صياغة محوريّة في سرديّة المجموعة، وكأننا بصدد مونتاج سينمائي يعتمد علي ضمّ مشاهد متباعدة، تشكّل انتقالات سريعة بلا رابط منطقيّ مباشر، وعلي المتلقّي أن يجد صيغ ربطه الخاصة بين هذه المتباعدات. ما العلاقة بين المجتمعين فوق التلّة، حيث المشاهدة المباشرة لاحتراق المدينة، وتحوّل السّرد فجأة، عند تغيير القناة، ليظهر الموكب المصفّح، ثم النّهر النّاشف الذي يمتلئ بالدّماء؟ إن هي إلا مشاهد متفرّقة، لا تحمل ظاهرياً علاقات متسلسلة بقدر ما تحمل دلالة، وتكنّي عن حالة من العبث؛ صياغة تختصر وتطوي قصّة علاقة وثقافة بين الحاكم ومواطنيه، ونهايتهم الموجعة رغم انبطاحهم.
لليأس، والبلادة، وطغيان اللّهاث حول التشيُّؤ، وجودٌ مهيمن وثقيل الوطأة، وتنحصر فاعلياته الأكثر علي الوجود المسطّح للمرأة المُترفة في هذه المجموعة القصصيّة، حيث يجسدها القصّاص قد ارتضت العيش كأمةٍ للاستهلاك، تستنزفها حمّي تملّك الأشياء، وزيف المظاهر الاجتماعيّة؛ حياة مجوّفة تستهلكها النّميمة، وأحدث عمليّات التّجميل ومحاربة الشيخوخة والتّجاعيد. يرد في قصّة "بالضّربة الفنيّة القاضية" واصفا عمر تلك النّسوة الذي يمر مُخترَقاً بالضجر، وأيامهنّ التي تتكوّم بلا معني: "تمرُّ الأيّام وتتعثّرُ بجانبكِ في الممرّ وأنتِ في عالمٍ آخر. ها هي تتكوّم واحدًا فوق الآخر، تنظرُ إليكِ، تنتظر المُساعدة، وأنت تُجيبين علي مكالمة صالون التّجميل. تمّ تأكيد الموعد. مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، والخطوة تقودكِ إلي المصعد، وصولًا إلي السيّارة ال4*4 التي ستُصارع بعض قليلٍ تحدّي الإسفلت المسطّح". هكذا يجسّد القصّاص ضياع عمر المرفّهات بلا قيمة تضاف لوجودهنّ، وهنّ مغيّبات في المظاهر، لا يدركن المصائب الحقيقيّة في العالم من حولهن، وتتجسّد إحدي تلك الشّخصيات وهي تضيع، تتقشّر، طبقة تلو أخري إنسانياً، حين تنخرط في هذا التشيُّؤ الذي يأكل وجودها. تتبدّي المزاوجة في هذا المقتطع بين سرد اليوميّ المعتاد والمملّ المتكرّر في حكي ورصد الشّخصية، والتّصوير المجازيّ لضياع القيمة والمعني حين يصنع مشهداً للأيّام التي تتعثّر بالانخراط في اليوميّ الاستهلاكيّ وتتكوّم إلي الجانب، في الهامش؛ طريقةٌ في الصّياغة لبثّ المعني وهو في حالة من الاقتصاد الأدائيّ، بلا خطب جهوريّة، ودون ملل المباشرة والماينبغيات التي تقع فيها بعض النّصوص محدودة القيمة الفنيّة.
يتسق هذا الوجود الطّاغي للموجودات والمعاني والأشياء دون الإنسان، مع ماسميّته: "ظاهرة اللّابطل في السّرد العربيّ المعاصر"، في دراسة رصدتُ فيها الظّاهرة في النّصوص الرّوائية. أما في هذه المجموعة، فيتشكّل الإنسان موجوداً في حيّز مكان ما، وينشغل به حيّز زمني ما، لكنّه موجود بلا وجود حقيقي، بلا طائل، موجودٌ ذاكَ الوجود المعذَّب المُهين؛ وجود إنسان ينسحب من الحياة، فيفصل الكهرباء عن جرس باب بيته وينشد الوحدة والانعزال مخافة العواقب: "تتذكّر الشّكل اللولبيّ للصّدَفة التي ينسحب إلي داخلها الكائن اللّزج. تتذكّر العلب الصينيّة، والماتروشكا الروسيّة. لن تستطيعوا الوصول إليّ، هكذا تُحدّث في آنٍ معًا- نفسكَ وذاك الواقف خلف الباب مُنتظرًا أيّ صوت قادم من الدّاخل. وبينما تكتم نَفَسَكَ تقول بصمت: أنا لا أضمن العواقب" تترسخ هنا رغبات العزلة والانكفاء علي الذّات، حتي تصل حد التوّحد يأساً من كلّ العالم من حوله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.