أي كاتب-عاقل- يعي تماما أن التصدي لعمل "كتاب عن الثورة" والبدء فيه بمجرد انتهاء عمر سليمان من إلقاء بيان التخلي اللعين، يعد استهلاكا لملحمة المصريين في ال "18يوما" التي سبقت هذا التخلي.. ليس فقط لأن الكاتب وقتها سيفكر أن مئات الكتاب-وغير الكتاب-سيهرولون لعمل كتاب وربما اثنين وثلاثة عن الثورة، ما يعني أنه وسط مئات الكتب التي ستصدر سيضيع الكتاب الجيد وسط المتوسط والأقل، وربما الكتاب "اللي يبيع ويفرقع" هو أقلها من ناحية المستوي في المضمون.. ليس هذا فقط، لكن الأزمة الكبري التي سيدركها الكاتب أنه من الخطأ عمل كتاب عن الثورة وهي ما زالت دائرة وفي أوج فورانها.. إلا إذا كنت تختذل الثورة في الثمانية عشر يوما فقط، وأنها فقط ما يجب تخليده في مئات الكتب والأفلام والاستيكرات و"حظاظات" 25 يناير. ولأن الصحفي والكاتب مؤمن المحمدي كاتب عاقل- لا شك في ذلك- فقد كان حريصا منذ البداية علي "تصدير الغلاف" أن يُعرف القارئ بأن كتابه الجديد "سنة أولي ثورة" ليس كتابا عن الثورة ولا الثمانية عشر يوما بكل عظمتها و"إفيهاتها" ودمائها وسحرها، وقبل كل ذلك شهدائها، وكل ما يمكنك تذكره الآن عن أعظم أيام المصريين في العصر الحديث.. وبهذا التصدير يطمئنك الكاتب أن كتابه ليس عن ال"18يوما"، ولكنه عن أهم ما دار خلال عام كامل من بعد "تخلع"- اختصارا لتنحي وتخلي وخلع- مبارك. "سنة أولي ثورة" عنوان موفق لكتاب يدرك كاتبه منذ البداية أن الثورة بدأت بعد خلع مبارك، وأن السنة الأولي من عمر الثورة تؤكد أنها "مستمرة" ويجب أن تستمر، رغم كل الانكسارات التي تعرضت وتتعرض لها علي يد الجميع. في الجزء الأول من الكتاب، فكر المحمدي أن عليه علي الأقل إنعاش ذاكرة القارئ ببداية أحداث الثورة المصرية، ولكن مع تفكيره ب" العقل" وفق في حكي تجربته الشخصية وشهادته حول تلك الأيام، بداية من أول جملة جعلته يركز حواسه مع حديث سياسي،علي غير العادة بعد هجره لها، بإنه "في بطولات بتحصل دلوقتي في تونس" وتسارع الأحداث بعدها في تونس بهروب "بن علي"، وعندنا في مصر بمذبحة "كنيسة القديسين"، ثم البدء في الدعوات للنزول يوم 25 يناير.. أو "ثلاثاء اليقظة" كما أطلق عليه الكاتب، ليسرد "المحمدي" يومياته مع الثورة بالتواريخ، ويسمي أيامها مرة بأحداث تخصه مثل "أربعاء التوهة"-26 يناير- ومرات بأشهر أحداث اليوم نفسه، مثل "سبت البلطجية" يوم 29 يناير..أو "خطاب الندامة" يوم 1 فبراير، وحتي "الجمعة الكبيرة" يوم التنحي.. مؤمن يعرفك علي مجموعة الأصدقاء التي كان يدور في فلكها وتدور في فلكه- كلنا كنا كذلك فعلا- طوال فترة الاعتصام، من أصدقاء وزملاء ربما لم ير أحدهم منذ سنوات وجمعهم الميدان، أو حتي علي خلاف فكري معه، تم تنحيته لحين خلع مبارك.. حواراته في المواصلات مع الناس.. ومؤكد علي "الفيس بوك" وأخيرا شائعة سقوطه شهيدا كما أكد الكاتب" بلال فضل" علي الجزيرة! ما ستلاحظه في الجزء الأول من الكتاب أن الكاتب حاول الاعتماد علي الذاكرة فقط في سرد الأحداث، لأنه يعي تماما أنك لست بحاجة لأن يذكرك أحد أصلا بال " 18 يوما"، فاستخدم جملا قصيرة ومختزلة للمواقف والأحداث، تجعلها حكايات شيقة غير مكررة لأحداث حفظتها عن ظهر قلب، من قناة الجزيرة والصحافة والانترنت، وقبل كل ذلك "لايف" وأنت في الميدان، إن كنت من "القلة المندسة " التي شاركت الكاتب في كل تلك الأحداث منذ بدايتها. بصراحة.. الجزء الثاني من الكتاب هو الأهم- بالنسبة لي علي الأقل- وحسنا فعل بأن جعل الجزء الأول لم يزد علي 75 صفحة من كتابه الواقع في 450 صفحة من الحجم المتوسط. فإن كان المحمدي قد حرص في الجزء الأول علي عدم الإطالة، مما يجعلك تشعر أنه كتبه وهو يلهث جراء معركة منتهية حالا مع الأمن المركزي.. فإن ذلك اختفي تماما في الجزء الثاني من "سنة أولي ثورة".. وفي اعتقادي أن السبب في ذلك اعتماده في الجزء الأول علي الذاكرة فقط كما قلنا، وحرصه علي ألا يبدو شبه الآخرين في الكتابة عن ال" 18 يوما". في الجزء الثاني يتضح للقارئ أن موضوعاته قد كتبت في توقيتها ووقت حدوثها.. فظهرت مهارات المحمدي في تحليل الأحداث، وعرض رؤيته وآرائه الصريحة الصادمة للبعض كعادته، حتي وإن تسببت تلك الآراء- كالعادة أيضا- في مشاكل له.. ومؤكد تعمد المحمدي اختيار عنوان تقليدي لهذه المجموعة من المقالات التي كتبها بعد الثورة - نقاط علي الحروف- حتي نستطيع قراءة الجملة كما يقول، لتبرز الدقة في تحليلاته وتفنيد الأحداث حسب رؤية مختلفة ومحترمة جدا، ومع تتابعها وتذكرها الآن تتأكد أنه للأسف " كان بيتضحك علينا" في كل ما حدث بعد مغادرتنا الأولي للميدان صباح 12 فبراير.. حتي ولو أخطأ الكاتب في بعض تحليلاته في مقالاته الأولي في هذا الجزء وتحديدا مسألة اعتبار أن الثورة حققت الكثير من الأهداف، أو تعاطفه مع "عصام شرف" باعتباره قد يكون ثوريا ولكن ليس بيده شئ كما كان الكثير يؤمن بتلك المقولة.. ولكن مع تكملة قراءة باقي الجزء سيكشف لك الكاتب بنفسه أنه كان مخطئا في تحليل بعض المشاهد.. وذلك لا أعتبره عيبا بقدر ما يجب احترامه وتقديره.. فنادرا ما نجد كاتبا أو محللا يعترف بأن وجهة نظره كانت خاطئة.. إن كان أحد أصلا يفعل. في مقالات "نقاط علي الحروف" يحلل الكاتب مبكرا فهمنا المتأخر للعلاقة بين الجيش والشعب، وهل هي فعلا "ايد واحدة".. ومن هو "الجيش" أصلا وما نعرفه عنه وعن قادته الذين تصدروا المشهد السياسي في البلد.. وبالطبع تعرف ما آل إليه الوضع الآن.. بعدما تحول هذا الشعار "الجيش والشعب ايد واحدة" إلي ذكري من زمن التحرير الجميل. بعدها يتابع الكاتب سرد تحليلاته ورؤيته حول الكثير من الأحداث التي وقعت طوال العام الأول من الثورة، بداية من خطاب مبارك علي قناة العربية والمحاكمات و"الخمستاشرات" التي أعطاها النائب العام لنجوم طرة وفرحتنا "الهبلة" بها.. أو حتي عن شخصيات تصدرت المشهد السياسي والإعلامي.. وطبعا لم ينس ذكر "السلفيين" و "كامليتهم" وما فعلوه فينا و بنا ومعنا وعلينا طوال عام مضي وانقضي. أكثر ما سيمتعك أن "الأحداث دي خلاص خلصت"، وأصبح هناك تطورات جديدة علي المشهد العام في مصر بعد عام ونصف من انهاك الثورة وتفتيتها لصالح الثورة المضادة، وهو ما يفصله المحمدي في "الثورة المضادة الأصلية" وتذكيرنا بإن "الدودة في أصل الشجرة".. جملة ثاقبة في العلاقة بين الإعلام والثقافة بكل أشكالها وصورها وبين ما آل إليه حال الثورة والثوريين، لتكتشف أن القمع والقتل والسحل ليس هو من قضي أو كاد أن يقضي علي الثورة، بل هؤلاء الذين يقودون عقول الجماهير- الأغلبية منهم- نحو العبودية لأي فرعون يجلس ويمسك السياط بيد والاستقرار باليد الأخري. براعة المحمدي في رصد وعرض وتفنيد دور الثقافة والإعلام في القضاء علي الثورة في مجموعة مقالات دسمة وممتعة ليس غريبا، وهو "ابن الكار" شاعرا وكاتبا وصحفيا.. وفوق كل ذلك يعرف أنه يعرف "اللي فيها" ويقول ذلك بكل صراحة، سواء في شخصيات شهيرة لها قامتها مثل الدكتور علاء الأسواني الذي لا ينكر المحمدي وطنيته أوثوريته، لكنه يتسأل عن مكانته الفكرية- وليس الشهرة أو النجاح- مقارنة بأدباء آخرين، مثل محمد المخزنجي وإبراهيم عبد المجيد.. وكذلك فضح ممارسات رؤساء تحرير الصحف القومية، سواء الراحلون عن مناصبهم أو الجدد القادمون بعد الثورة، وفلوليتهم المعروفة"عيني عينك" وركوب موجة الثورة وهم يجهزون عدد جريدتهم الجديد فور تنحي مبارك ليصبحوا ثوارا ابطالا أحرارا.. خصوصا مؤسسة الأهرام وهو صاحب تجربة عمل مثيرة بجريدة "الأهرام المسائي" إحد إصداراتها. وكذلك رأي المحمدي في"هشام الجخ" كظاهرة-وليس كشخص- في الثقافة وترويجها كسلعة استهلاكية عبر دكاكين تبيع ثقافة- كما يقول الكاتب- مثل "ساقية الصاوي". وختامها مسك، مع قصة "الحاخام واليهودي والخنزير" التي يختم بها مؤمن كتابه، حيث ذلك الرجل اليهودي الذي يعيش تعيسا في شقة صغيرة مع زوجته وأولاده العشرة وحماته، وعندما يشتكي للحاخام ينصحه بشراء خنزير ووضعه معهم في الشقة، لتتحول حياة الرجل لجحيم، وعندما يخلصه الحاخام من الخنزير يطير اليهودي الفقير "الأهبل" من الفرحة والسعادة لعودته لحياته الطبيعية راضيا مرضيا.