نجلس علي مقهي "زهرة السلام" في مدينة السلام ومع ذلك يعرفه سُكَان المنطقة بمقهي الزلزال. يشير "السادات" إلي بركة مجاري تغطي الشارع كله أمام المقهي ويقول ساخراً: -زي ما أنت شايف عندنا هنا مناظر طبيعية جميلة أوي. نضحك. يتدخل علاء فيفتي موضحاً: "الشارع كله كان مرصوف حتي نهايته، وكان منظم ومرتب. فجأة الحكومة من حوالي بتاع خمس عشر سنين بدأوا يحفروا هنا، ضربوا ماسورة المجاري وسابوها كدا". اسأله: بيدخلوا غاز ولا إيه بالضبط؟ يجيب "السادات": بيدخلوا وخلاص المهم يحفروا طوال الوقت. هنا مدينة السلام آخر محطات الخط الساخن لإنتاج موسيقي المهرجانات في مصر والذي يمتد ليشمل (عين شمس، المطرية، مدينة السلام). موسيقي المهرجانات لن نجدها علي القنوات الفضائية، ولا في المحطات الإذاعية، كما لن تجدها علي شرائط كاسيت أو اسطوانات ولا يبدي فنانوها أدني اهتمام بالدخول في عالم سوق الإنتاج الموسيقي والغنائي.مع ذلك في كل فرح تقريباً في مصر أصبحت موسيقي المهرجانات عنصراً أساسياً، وأصبحت في فترة قصيرة مُرادفاً لبهجة المصريين. هي خليط من الموسيقي الشعبية القاهرية والموسيقي الإلكترونية الغربية مع إيقاعات موسيقي "الراب" العربية. موضوع هذا الملف الأساسي ثلاثة من فرسان البهجة في عالم موسيقي المهرجانات (السادات، علاء فيفتي، عمرو حاحا) لكننا نحاول من خلاله الاقتراب من الإيقاع الجديد لمدينة بحجم وفوضي القاهرة. خارج مدينة السلام. كانت الصحافة في القاهرة مشغولة بفتح باب الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية للمرة الأولي. والجدل الفني يتزايد حول هل يجوز اعتبار شعبان عبد الرحيم "فناناً" أم إفرازاً من إفرازات الانحطاط الاجتماعي. كان هناك المدونات وجيل غامض ينظر الكثيرون له باستهانة. في مدينة السلام بعيداً عن كل هذا كان "علاء فيفتي" ينظر إلي مياه المجاري التي تتكَاثر كأنها كائنات حية تتناسل وتنتشر في شوارع مدينة السلام. الرطوبة تأكل المباني التي أعدتها علي عجل القوات المسلحة بعد زلزال 92. يتحرك "فيفتي" وسط كل هذا وهو يستمع إلي أغاني أحمد عدوية وفناني الراب العالميين في ذلك الوقت كان "ايمنيم - Eminem" الأبيض الذي يغني موسيقي الأفارقة الأمريكان ويحقق نجاحاً أكثر منهم كلهم ظاهرة فريدة في كل أنحاء العالم. "فيفتي" لم يكن مشغولاً بالموسيقي فقط بل بالسينما والتمثيل. هو حالة فنية ضائعة في متاهات شوارع مدينة السلام. حاول التمثيل ولو بأدوار صغيرة في بعض الأفلام السينمائية لكنه لم يتحمل المناخ المتسلط الذي يمارسه المخرج علي مؤدي الأدوار الصغيرة. ترك موقع التصوير وفي ذهنه يدور خليط الموسيقي المفضلة عنده. أحمد عدوية مع إيقاعات الراب الذي بدأ في ذلك الوقت ينتشر عربياً وظهر له نجوم علي الانترنت والهوامش الثقافية لا التلفزيون أو السوق الرسمي. لكن الراب العربي الذي بدأ ينتشر في ذلك الوقت كان يعتمد علي توظيف إيقاعات غربية يتم أحياناً تحميلها من علي الإنترنت ثم إعادة توزيعها مع تركيب صوت المغني عليها لتخرج في النهاية عملاً متكاملاً بكلمات عربية لكن تظل الإيقاعات غربية. ما كان يحلم به "فيفتي" أمر مختلف تماماً كان يريد تفتيت الموسيقي الشعبية تجريدها من كل الحُلي والزخارف والآلات الشرقية مع الحفاظ علي الروح ثم صب هذه الروح في إيقاع قوي وعنيف. التجربة الأولي ذهب "فيفتي" إلي أحد أصدقائه الذين لديهم خبره في مجال الكمبيوتر وبرامج الهندسة الصوتية. علي جهاز كمبيوتر منزلي تمت صناعة أول أغنية تندرج تحت ما سيعرف بعد ذلك بموسيقي المهرجانات. الأغنية كانت بعنوان "مهرجان السلام". مديح طويل لسكان مدينة السلام، رجالتها وشبابها، جدرانها وشوارعها التي لم تتوقف الحكومة حتي اليوم عن الحفر أسفل منها وكسر مواسير المجاري ومياه الشرب مخلفة مستنقعات تتكاثر في معظم الشوارع. عمي فتحي في المرة الأولي التي قابلت فيها السادات في مدينة السلام أخذني إلي "عم فتحي". بدا أنه لن يكون مُستريحاً في الحديث علي مقهي زهرة السلام. وحينما وصلنا أدركت لماذا سيبدو مستريحاً أكثر لدي عم فتحي. لا يتجاوز سن السادات الخامسة والعشرين. في أي مكان علي أرض جمهورية مصر العربية هناك عم فتحي بالنسبة له ولجيله. يتكون مكان عم فتحي من طاولة "بينج بونج" تعلوها تعريشة خشبية. غرفة صغيرة تحتل الجزء الأكبر من مساحتها طاولة بلياردو. ثم جهازا تلفزيون يتصل كل واحد منهما بجهاز ألعاب "بلاي ستيشن". بسبب التطور التكنولوجي في العقود الأخيرة تغيرت أماكن الترفيه التي يقبل عليها الأطفال والمراهقين. لم يعد اللعب في الشارع كافياً. وظهرت ما يعرف بصالات "الفيديو جيم" البسيطة. في كل منطقة سكنية في مصر لا بد أن يوجد مكان مثل عم فتحي، وإن كان مستوي شاشات التلفزيون والألعاب الموجودة يتغير علي حسب المستوي الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة. بينما السادات يسحب الكراسي ويسألني إذا ما كنت أرغب في بعض الشاي ويتحرك في المكان كأنه في منزله. يأتي بعض الأطفال يحادثون عم فتحي: "عم فتحي عايزين نلعب ربع ساعة بينج". يأخذ عم فتحي منهم المال. ثم يسحب سيجارة من علبة السادات "مارلبور أحمر". في البداية يبدو مندهشاً لوجود صحفي ومصور في مكانه يجرون حديثاً صحفياً مع واحد من الشباب الذين يعرفهم منذ كانوا صغاراً. يأتي أحد الزبائن، ألمحه يشير نحونا وهو يقول: -شفت الواد السادات هيظهر في التلفزيون. حينما يطمأن لنا وتمتد الجلسة قليلاً، يأتي عم فتحي ليجلس جوارنا يقول لي: -"السادات دا مجنون، وهو صغير كنا بنسميه المجنون. مكنش بيعمل حاجة غير المزيكا والرقص. كان أحسن واحد بيرقص في مدينة السلام". الرقص يوضح السادات عالم الرقص في الأفراح والموسيقي الشعبية قائلاً: "الرقص عندنا نوعين جماعي، وفيه يكون الشباب أحياناً جماعات مدربة ويعملون في فرقة محددة مع أحد الفنانين الكبار. أما النوع الثاني فيكون فردي. وأنا كنت أحسن واحد في مدينة السلام يرقص فردي، لكن زمان بقي.. دلوقتي الواحد كبر". خطوات وحركات الرقص الفردي في موسيقي المهرجانات هي خليط مركب وجديد بين "البريك دانس" والرقص الشعبي واستعراضات اللعب بالأسلحة البيضاء. في بعض الأفراح والحفلات يحكي السادات عما يمكن وصفه بالمبارزة بين راقصين. يرقص الاثنان في مواجهة بعضهما وقدرة الراقص تنبع من تمكنه من "تثبيت" من يرقص أمامه، بالإشارات الجسدية والحركة والسرعة يتم هزيمة الخصم والتنكيل به في إطار رمزي وودي بين الطرفيين في الغالب. الرقص في عالم المهرجانات ليس أداة تعبير فقط بل جزء من الاستعراض. الراقص يتحمل بشكل كبير مسئولية تحريك الجمهور وبث الحماسة فيه ودفعه للرقص. فيفتي يقاطع شرح السادات ويقول: "يا سلام لو الفرح فيه شباب من الألتراس". جزء كبير من جمهور وروابط الألتراس خصوصاً ألتراس الأهلي والزمالك يتمركز في مناطق الخط الساخن (مطرية- عين شمس- السلام). وبحكم الروابط الأخوية بين أعضاء هذه الروابط فهم يحضرون أفراح بعضهم البعض جماعات. وتكون الأفراح فرصة لعرض الاستعراضات والتشكيلات الجماعية التي يقدمون مثلها العشرات في الملاعب. العالمي من الخارج يبدو عالم المهرجانات فوضوياً والعمل فيه غير احترافي. أدوات التسجيل والإنتاج شبه بدائية، وحقوق الملكية الفكرية تقريباً ليست موجودة حتي أن معرفة المؤلف أو المغني الأول لأغنية ما أمر يصعب التوصل إليه أحياناً. الأغنية ما أن تضرب في السوق حتي تصبح مشاعاً. يأخذها أي فنان آخر ويغنيها، بل أحياناً يتم تفكيك الأغنية أو لقط الجملة الموسيقية أو اللفظية الأقوي فيها وتركيبها علي أغنية ثانية. ينمو عالم موسيقي المهرجانات دون وجود شركات أو كيانات اقتصادية عملاقة تتحكم فيه. بالتالي فخطوات قانونية وروتينية كالمعروفة في عالم الموسيقي التجارية من تسجيل الكلمات والأغاني في الشهر العقاري أو عضوية هيئات كنقابة الموسيقيين أو الملحنين كلها أشياء ومصطلحات بعيدة عن عالم المهرجانات ولا أحد يهتم به. لكي يحمي بعضهم نفسه من سرقة أغانيه يقوم بذكر اسمه في الأغنية، في معظم أغاني عمرو حاحا مثلا سوف نسمع البصمة الصوتية بصوت "الروبوت" في بداية كل أغنية "دي.جي. عمرو حاحا". لكن حتي هذا لا يمنع من إعادة تدوير عمل أي فنان منهم من قبل فنان آخر. لينتج عمل آخر مختلف. ربما تكون هذه الحالة من المشاع الإبداعي امتداد لتقليد عريق في عالم الأغنية الشعبية حيث كل أغاني الأفراح الفلكلورية التي أعتاد المصريون غناءها في الأفراح والمناسبات الاجتماعية لا نعرف من مؤلفها. لكن هذا لا ينفي وجوده. السادات أو العالمي كما يعرف فنيا ليس مغنياً فقط بل هو مؤلف الكلمات أيضاً. بعدما اشتهر كراقص في عالم الأفراح والمهرجانات، اعتاد السادات النزول مع علاء فيفتي في بعض الأفراح، خطوة ثم الثانية كان يسمح له بمسك المايك ليبدأ صعود السلم من أوله ويمارس مهنة (النبطشي) مهمة الرد علي المغني الأساسي. وقتها كان يمارس السادات مهمتين كورال للمغني الأساسي، أو موزع للتحيات والسلامات. النبطشي.. هو صدي المهرجان، رجل الظل. بعدها يكتب السادات أول أغانيه (صحوبية جت بندامه). ستتحول الأغنية إلي حمي وستصبح في فترة بمثابة نشيد أساسي في كل سيارات الميكروباص، التوك توك، الأفراح، والمهرجانات..سيقول السادات: "لفيت كل البحور راجع ضعيف مكسور خلاص يا دنيا انسي حناني خلاص أنا هبقي واحد تاني مش هأمن تاني لحد واشهدوا يا ناس علي كلامي قلبي الحنين أنا شلته بقلب ميت بدلته أنا كنت عايش غرقان ومدي للناس أمان وبحب كل الناس وطلعت أنا الغلطان والدنيا ياما بتعلم وجه وقتي وهتكلم.. وهسمعكوا الكلام.." سيستمر نجاح السادات بعد ذلك ليصبح نجماً من نجوم الأفراح والمهرجانات الذين يكثر طلبهم، سيخرج من عالم المهرجانات ليؤدي أول حفلة له علي مسرح الجنينة تحت رعاية مؤسسة المورد الثقافي، سيسافر أيضاً إلي لندن ليقدم أول حفلاته في أوروبا ليحمل بعد ذلك لقب العالمي. لكن مع ذلك ستظل جلسة عم فتحي مع الأصحاب وعلي رأسهم فيفتي وحاحا هي مكانه المفضل. سيستمر السادات أيضاً في رفض لقب مغني حينما ينادي به، يقاطعني طوال حديثنا موضحاً: "أنا مش مغني. أنا مؤدي. قدرتي الحقيقية هي "رص" الكلام. لدي رسالة وأرغب في إيصالها للجمهور. حنجرتي ليست قوية ولم أدرس أو أتعلم الغناء" فرحة الصحاب للشيخ أحمد برين والعجوز عمل مشترك أشبه بأوبريت كامل بعنوان "فرش وغطا". الاثنان من أساطير المديح والغناء الجنوبي. عالم آخر منفصل عن عالم المهرجانات له قواعده وآدابه وقيمه. لكن الموضوع الأساسي "لفرش وغطا" هو الصداقة والسفر والرفيق قبل الطريق. نفس الموضوع يتكرر في أغاني المهرجانات. في أغاني المهرجانات تتكرر عبارات "فرحة الصحاب" أو "هنرقص الصحاب". يتوجه مغني المهرجان في كل أغانيه لجمهور محدد يرمز له بالصحاب. يوجه التحيات في منتصف الأغنية إلي الصحاب والجدعان. هل هناك رابط بين الاثنين؟ أم أن المنبع الثقافي البعيد للاثنين واحد؟ "الصحوبية" والصداقة في عالم المهرجانات ليست فقط موضوعاً للغناء بل هي الرابط الأساسي بين كل العاملين في المجال. قيم الصداقة في عالم المهرجانات تعمل بمثابة دستور أخلاقي غير مكتوب لكن متعارف عليه وهي التي تجمع صناع أغنية المهرجان (موزع- كاتب كلمات- مغن- نبطشي- مهندس صوت) ببعضهم البعض. الصحوبية أيضاً تربط المجموعة بالأماكن الجغرافية التي ينتمون إليها وتعزز من الأحاسيس الجماعية بينهم وبين المنطقة حيث يحتل الغناء عن المناطق المرتبة الأولي ضمن كل المواضيع التي نسمعها في موسيقي المهرجانات. لهذا تتكرر في عالم المهرجانات الأسماء الثنائية والثلاثية من النادر أن نجد أغنية واحده تحمل اسم مغني واحد بل في الغالب سنجد التوقيع "أوكا وأورتيجا"، "السادات وفيفتي"، "فيجو وحاحا". الأخير هو الاسم الأشهر في عالم المهرجانات وقصة الاثنين تجسد نموذجاً لتأثير الصداقة والصحوبية وتقلباتها علي عالم أغنية المهرجان. الدكتور من عين شمس أتي عمرو حاحا من عالم بعيد عن الموسيقي والأفراح والمهرجانات. فحاحا بالأساس كان يعمل كمهندس صيانة لأجهزة الكمبيوتر. في زمن الألفين وستة انتشرت محلات الدقيقة ب 75 قرشاً مقابل الحديث في المحمول، أو تحميل أحدث الرنات مقابل جنيه علي تليفونك المحمول. يتحدث حاحا عن أول توزيع قام به: "بدأت في تعلم استخدام برامج معالجة الموسيقي والصوتيات، وكنت أقوم بتوزيع بعض المقطوعات كنغمات لرنات الموابيل. وزعت مَقطُوعة ذات إيقاع شرقي لكن باستخدام الموسيقي المميزة لبرنامج وندوز ووجدت انتشاراً كبيراً، بعدها بدأ بعض المغنين يأتون إليّ بالكلمات ويطلبون توزيعها وتلحينها". تحول اسم عمرو حاحا في سنوات قليلة إلي علامة تجارية في عالم موسيقي المهرجانات، لا يبارز اسمه سوي موزع مدينة السلام الأشهر "فيجو". ساهمت في شهرة الاثنين الحرب الموسيقي التي جرت وقائعها بينهما، ذات مرة تورط حاحا في توزيع قطعة موسيقيه تحتوي علي جمل هجائية لمدينة السلام، فما كان من فيجو ابن السلام إلا أن قدم أغنية أخري تهاجم حاحا وعين شمس. أثارت هذه الحروب الغنائية النعرات المحلية عند سكان المنطقتين السلام وعين شمس مما لفت الأنظار إلي حاحا وفيجو. انتهت الحرب بصلح بين الاثنين. نتج عنه ألبوم موسيقي من سبع أغنيات شارك في إعداده حاحا وفيجو والسادات وفيفتي ووزه بل وظهرت المجموعة كاملة علي مسرح الجنينة وفي عدد من الأفراح الشعبية بعد ذلك. بينما يعرف السادات نفسه كمؤد للراب الشعبي. يقدم "الدكتور" نفسه كموزع شرقي ويصر علي وصف الموسيقي التي يقدمها بأنها شرقية. يقول حاحا: "معظم شغلي يتم علي "أرتام" وإيقاعات شرقية. بالتالي فأنا لم أخرج عن تصنيف الموسيقي الشرقية" حكاية ثورة علي مقهي زهرة السلام أجلس بصحبة السادات وعلاء فيفتي في انتظار "الدكتور عمرو حاحا" القادم من عين شمس. يأتي حاحا نشرب الشاي ثم نقف لنتجه نحو منزل السادات لاستغلال الوقت الذي تغيب فيه عائلته عن المنزل لتسجيل أغنية جديدة. في الطريق بين شوارع مدينة السلام نعبر بركاً متناثرة من المياه والمجاري. في أحد الشوارع الجانبية تنتصب آلة ضخمة وعملاقة تحاول سحب المياه الجوفية التي تهدد جميع المنازل بالانهيار. بنيت معظم تلك المنازل بعد زلزال 92 علي عجل كلها بنايات متشابهه وكلها تعاني من الانخفاض وارتفاع منسوب الأرض، النتيجة أنه للدخول أو الخروج من البوابة الرئيسية لابد من الانحناء. في بيت السادات بمساكن مدينة السلام، يجلس عمرو حاحا أمام اللابتوب الذي يخرج منه سلك لسماعة كبيرة وسلك آخر لميكروفون يمسكه السادات وآخر يمسكه علاء فيفتي. هنا الاستديو -إذا صح هذا التعبير- الذي يتم فيه صناعة معظم التسجيلات حاحا والسادات، ومعظم الأماكن التي يتم فيها صناعة موسيقي المهرجانات لا تفرق كثيراً عن هذا المكان. بالنسبة لشباب المهرجانات الموسيقي لا تحتاج إلا "الدماغ- الكلمات- الكمبيوتر- والموزع الموسيقي". بعد ذلك يتم رفع الأغنية علي الإنترنت ومنه إلي الشبكات الاجتماعية. أقل أغنية من أغاني المهرجانات معدلات تحميلها علي انترنت تبدأ من 50 ألف مرة، وبعضها يكسر حاجز المليون. حينما سافر السادات للغناء في لندن شعر بالضيق لتقديمه بصفته ممثلا لموسيقي مصر ما بعد الثورة، يقول موضحاً: "قلت لهم هناك، المزيكا التي نصنعها ليس لها أي علاقة بالثورة ولم نكن ننتظر تنحي مبارك لنقدم ما نفعله. نحن موجودون من أيام مبارك وسنظل موجودين بعده". بعد الثورة ظهرت الكثير من أغاني المهرجانات التي تحمل تلميحات سياسية أشهرها "يا حسني سيبني حرام عليك" و "A7A الشبشب ضاع". لم تحمل تلك الأغاني توقيع أي من الأسماء المعروفة في عالم المهرجانات لكنها لسبب ما التصقت بالسادات، الذي فضل علي مدار عام كامل الابتعاد عن كل ما له علاقة بالثورة. إلا مؤخراً حينما قدم مع فيفتي وحاحا أغنية "حكاية ثورة": "نفسه يعيش عيشه هنيه ظلموه قدام العالم وقالوا عليهم بلطجية دايما بيجو ع الغلبان لو يسرق حق الرغيف واللي بيسرق بالملايين بيقولوا عليه في زمنا شريف النار في قلوبنا بتزيد.. بعد ما ضاع حق الشهيد واللي يصرخ ويقول حقي.. يضربوه زي العبيد كلام كتير عمال يتقال.. والنظام السابق شغال" الحفلة والفرح ليست أدوات إنتاج الموسيقي هي المختلفة في عالم موسيقي المهرجانات فقط بل الطريقة التي يعمل بها الشباب. في البداية يقوم "الدكتور حاحا" بتوليف الإيقاع الأساسي أو "البيت" ثم يبدأ السادات مع فيفتي في رص الكلام. يأتي الكلام كما يقول السادات من مصادر متعددة، قد يكون موقف، فكرة تحوم حول رأسه، أفيه سمعه يوماً ما وأعجبه. بعض الأغاني تتم كتابتها كاملة أولاً، أحياناً تأتي الكلمات ارتجالية حينما يشعر السادات بأنه في الحالة الفنية. دعاني "السادات" إلي حضور أحد الأفراح في السيدة زينب أثناء الغناء فجأة ارتجل سلسلة من التحيات لأهل الأدب ولأخبار الأدب. بعد تسجيل الكلمات يقوم حاحا بإضافة الحلي الموسيقية والمحسنات السمعية علي العمل. في الحفلات والأفراح يقوم السادات وفيفتي بالغناء علي الإيقاع الأساسي، بينما "وزة" علي "مكنة الدي.جي" يقوم بتوليف إيقاعات موسيقية أخري علي حسب حالة الفرح والجمهور. أما حاحا فحضوره في الأفراح والحفلات يكون للإشراف علي العملية كلها. حاحا بتعبير السادات هو "رمانة الميزان" ودكتور المهرجان. في بعض الحفلات النادرة يقف حاحا بنفسه علي "مكنة الدي.جي" ويقوم بلعب التوليفات الموسيقية من علي جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به الذي يمكن اعتباره بشكل مجازي آلته الموسيقية الخاصة. رغم أن الأفراح الشعبية هي ما صنعت موسيقي المهرجانات وعالم السادات وحاحا وفيجو. إلا أن السادات يفضل الحفلات أكثر. يقول: "في الفرح أنا محدود علي حسب المنطقة التي أغني فيها، والأولوية ليست للكلام أو ما أغنيه بل لتوجيه التحيات للحاج فلان والمعلم علان. بعض الأفراح أيضاً تكون هادئة، الجمهور يكون جالساً ويرفض الرقص أو الحركة، في هذه الحالة يجب أن أغير مما أغنيه وأقدم أغاني فيها حكاية. فالجمهور الجالس ينجذب أكثر للأغنية التي تحكي حكاية أو موعظة ويشعر بها لأن كل واحد فيهم يتخيل أن ما أحكيه هو حكايته." مؤخراً تم دعوة حاحا والسادات والمجموعة لإحياء إحدي الأفراح في قاعة بفندق فخم. رفضت إدارة الفندق في البداية دخولهم أو تشغيل موسيقي المهرجانات. المسئول عن القاعة قال لهم: "لا يمكنني أن أسمح لك بالغناء هنا، أنتوا كدا بتنزلوا لي القاعة وبيغني هنا نجوم، لكن أنتم موسيقي بيئة." في منتصف الشجار مع المسئول أمسك السادات بالمايك، شغل الموسيقي، وانطلق مغنياً ليشعل الفرح: "تاني تاني.. فيفتي وفيجو من تاني تاني تاني.. فيجو وحاحا من تاني اسمحي لي يا زماني.. هغني تاني تاني.. علشان دلوقتي جه أواني" غني السادات في الفرح. ولم يستطع مدير القاعة أن يفعل شيئاً أمام حماس الجمهور في القاعة. اسأله: -لكن في الحفلات بعض المسارح والأماكن تضع شروطاً علي نوعية الكلمات التي يسمحون بها؟ يجيب السادات ببساطة: "صح أحياناً يحدث ذلك معانا لكن حينما نصعد علي المسرح نقول كل ما نريده، ولا يهمنا." بثقة يضيف "نحن لا نغني أو نقول كلاماً من عالم آخر. ما نقوله هو حياتنا وما يدور في الشارع. ولا أحد يستطيع أن يمنعنا من أن نقول ما نريده. ولهذا السبب حتي الآن نرفض التوقيع مع أي شركة من شركات الإنتاج الكبيرة. لأني إذا وقعت سيكون للمنتج الصلاحية أن يتدخل أو يعدل فيما نريد تقديمه بينما علي الانترنت والمسرح نحن أحرار". قيم جزء من أجواء بعض المهرجانات والأفراح الشعبية هو أنها المتنفس الترفيهي الوحيد لمئات الشباب بعيدين عن عوالم كافيهات تقدم القهوة "الاسبريسو" مع كعك الشيكولاتا، أو أندية ليالية تكلفة دخولها تتجاوز المائة جنيه. في الأفراح تحضر الموسيقي والرقص وأحيانا البيرة وأحيانا أخري الحشيش كجزء من فعاليات الحدث. ألفاظ وقاموس الشقاوة جزء من كلمات أغاني المهرجان. بعض الألفاظ التي ترد في كلمات أغاني المهرجان تصنف كألفاظ خارجة لدي طبقات وشرائح اجتماعية أخري. بالرغم من أنها تغني ويسمعها الجمهور بأريحية ويندمج معها في شوارع السيد زينب وأفراح القري في الفيوموالشرقية. بمرور السنوات يصبح لدي السادات وفيفتي حساسية لدي بعض الكلمات يقول فيفتي: "في الأول كنا صغيرين وكنا أحياناً بنقول كلام فيه تسخين، لكن مع الوقت بقينا نركز في الكلام لأنه مش "رص" وخلاص. مقدرش أعمل زي ناس تانية وأغني كلام لا أرضي أن تسمعه أختي أو أمي." يضيف السادات: "الكلام لازم يبقي له معني. وفي حاجات لا يصح أن أقولها. لا يصح مثلا بعد حادثة مثل بورسعيد أعمل أغنية أهاجم فيها بورسعيد علشان أكسب جمهور ألتراس الأهلي مثلاً". أثناء سيرنا في شوارع مدينة السلام يحادثني السادات: "المنطقة هنا بعد الثورة بقت لبش، كل واحد معاه 300 أو 400 جنيه تلاقي ماشي "بفرد/مسدس" وعامل بلطجي. لكن احنا شباب محترمين والله.. اسأل علينا أي حد". يدلل علي كلامه قائلاً: "يعني احنا مثلاً مش ممكن تلاقينا واقفين نشرب سيجارة في الشارع أو قصاد بيت حد، رغم أن أصحاب البيت ممكن يكونوا مش ممانعين بل أحياناً ممكن يكون مبسوطين". أضواء الشهرة يسحب فيفيتي نفساً من السيجارة وبشكل سينمائي يقول: "أسمع الخلاصة، احنا المستقبل. الجيل الجديد دا كله مضروب بحاجتين؛ يا المخدرات يا مزيكا المهرجانات. أنا أعرف شباب جديد يلم أصحابه ويحبسوا نفسهم في الأودة بالثلاثة أيام علشان يطلع أغنية يقول فيها اللي جواه". ذات مرة أتي شاب ودق علي باب منزل السادات فتح له فوجد الشاب الذي لا يعرفه يهديه بوستر كبيراً قام بتصميمه وطباعته للسادات وانصرف. في الأفراح الشعبية في السيدة زينب أو المطرية أو الزقازيق. خلف منصة الفرح يقف عشرات الشباب أعمارهم تبدأ من عشر سنوات وحتي السادسة عشر. في عيونهم تري الانبهار. بعضهم يمتلك الجرأة ويقترب من "وزة" علي المكنة يحاول أن يفهم كيف تخرج كل طاقة البهجة تلك من "المكسر" ومكنة "الدي.جي". حاحا، فيجو، أوكا، السادات ومؤخراً شياطين الدخيلة بالإسكندرية. أسماء تشكل الموجة الأولي لموسيقي وإيقاع روح جديدة يزداد جمهورها يوماً بعد يوم.. البهجة وموسيقي المهرجان.. مستمرة. هذا هو أحدث وجه من وجوه الأغنية الشعبية، إنها "المهرجانات " والمهرجان هو الاسم الذي يطلق إجمالا علي الأغنية في هذا النوع الموسيقي مثل مهرجان الوساده الخاليه (هاتي بوسه يابت) ومهرجان سمكه علي بلطيه وكذلك الصحوبيه واسعه الانتشار هذه الأيام. إذا أردت أن تعتمد التسلسل الزمني سبيلا، يمكنك أن تعتبر أن مغنيي المهرجانات هؤلاء هم الجيل الرابع من المغنيين الشعبين علي خلفيه أن المؤسس عدوية هو الجيل الأول وإذا كان لك أن تعتمد طريق التطور، فلك أن تتأكد أن هذا النوع من الأغنية الشعبية ما هو إلا اللحظة الراهنة في رحلة طويلة من محاولات التحرر من الآلات الموسيقية و من شركات الإنتاج و من الكلمات المؤلفة و من الأصوات المميزة و من كل شيء إلا الحالة. نظرة عامة الأغنية الشعبية، كما هو متحقق لدي عدويه والأجيال التي تلته، هي لون غنائي حديث ومستقل وهي فن يتمتع بالحيوية والحرية الكافية ليظل عصيا علي التأطير والتدجين ليظل مناوئا ونقيضا لما يسمي بالتيار الرئيسي، وبصرف النظر عن أطراف إنتاجها المعروفين جيلا بعد جيل، وعن أماكن وخطوط إنتاجها، وعن أدواتها وخصوصيتها الجمالية، وعن تسميتها الاصطلاحية، وعن قدرتها الفائقة في الاستفادة من كل التطورات التكنولوجية، فإنها قد نجحت في تجاوز كل الحدود لتصبح فنا عاما صالحا للناس أجمعين. يقال عن حق إن التطور التكنولوجي (الكاسيت) قد خلق أحمد عدويه، فالاسطوانة غير المدمجة التي كانت تدار من خلال الجرامافون أو البيك-أب فيما بعد، كانت محدودة الانتشار، وترك الشعب دهرا تحت وطأة الإذاعة والتليفزيون الرسمي، ومن خلالهما أخذ النظام الناصري يحاول تنميط وتوحيد الذائقة وفرض وتسييد نمط محدد من الغناء والموسيقي والفلكلور رآها وكلاء النظام في الإعلام الذوق الرفيع ذاته، طبعا كان هناك غناء شعبي خارج عن الرقابة في مواقع العمل وفي الموالد والأفراح والمناسبات الاجتماعية المختلفة، ولكنه كان يفتقد لوسيلة للتبادل والانتشار ونقل الخبرات، أقل من الجرامافون، كانت السينما تتمتع باستقلال نسبي ومع أنها كانت أكثر تأثيرا منه، إلا أنها لم تكن كافية لفرض ذائقة مختلفة، حتي ظهور الكاسيت مع بداية السبعينيات بما له من خاصية رخص الثمن علاوة علي إمكانية إعادة نسخه لمرات عديدة بدون أن يفقد أيا من قيمته، ومن ثم الانتشار، فشكل منفذا حاسما للذوق المحاصر باستمرار، الذوق الشعبي. مع بداية الثمانيات كان نظام الحكم قد تخلي عن بقايا هويته القومية، وبدأ يختار لنفسه هوية جديدة تقوم علي أساس خصخصة القطاع العام والاندماج في السوق العالمية ولذلك اضطر للسماح بدرجه ما من الممارسات الديمقراطية وترك هامش أوسع للحريات، ومع دخول التسعينيات كان الفضاء قد فتح تماما وفقد النظام الرغبة بل والقدرة علي فرض أية خطاب أيديولوجي أو أية أنماط جمالية أو ثقافية وفي إطار تلك التطورات التي بدلت وجه الحياة في مصر تماما، ازداد الاحتياج لهذا النوع من الغناء ازديادا كبيرا، هنا ظهر الجيل الثاني من المغنيين الشعبيين من أمثال شفيقة وعبد الباسط حمودة وحسن الأسمر وشعبان عبد الرحيم و غيرهم. الآن يمكننا القول إن الإبداع الفني لهذا الجيل من المغنيين الشعبين، مع إنه قد نجح في إنعاش هذا اللون الغنائي، إلا أنه لم تكن له إضافات جمالية كبيرة. تدور عجلة الحياة دائما تجسيدا لمخطط وحيد، إنه التطور، علي مستوي التكنولوجيا وعلي مستوي المجتمعات علي حد سواء، أصبحت الشبكة العكنبوتية واقعا معاشا ودخل الكمبيوتر معظم البيوت وغزت مقاهي الانترنت كل شوارع المناطق الشعبية وتطورت البرامج الخاصة بالتسجيل والمعالجة الرقمية للصوت تطورا عظيما ومن ثم ظهر جهاز مشغل ملفات الصوت الأم بي ثري، الذي انتشرسريعا بسبب ثمنه القليل وكفاءته العالية وحجمه الذي لا يتجاوز إصبعا واحدا من أصابع اليد وقدرته علي حمل الآلاف من ملفات الصوت من وإلي الكمبيوتر، وفي نفس الوقت كانت تغيرات اجتماعية عديدة قد بانت نتائجها كازدياد التباين بين الأفراد وازدياد الاختلاف بين طبقات وفئات المجتمع وأصبحت الحياة أكثر خصوصية وبنفس الدرجة أكثر صخبا و ثراء، أصبح واضحا أنه إذا كانت سبل التطوير قد تقطعت بالاسطوانة المدمجة بظهور الام بي ثري، فإن الجيل الثاني من المغنيين الشعبيين قد تمت مزاحمته أيضا بظهور محمود الحسيني ومحمود الليثي وعماد بعرور وسعد الصغير ومنار محمود سعد وأمينة وغيرهم، إنه الجيل الثالث، طبعا هي ليست موازاة تكنولوجية اجتماعية بحتة فالجيل الثالث لكي يمتطي موجة تلك التطورات، لكي يتسني له الظهور أصلا كجيل متمايز، لكي يقدر له أن يكون الجيل الذي انتقل معه الغناء الشعبي من مرحلة البدايات إلي مرحلة الانتشار والتمكن، كان عليه أن يتجاوز ما لم يفلح الجيل الثاني في تجاوزه، أقصد الإطار الإبداعي للأب المؤسس، أقصد سردية عدوية. سرديات مختلفة يتمحور عالم عدوية الغنائي حول عده محاور، بكائية الذات، بكائية الزمن، الاعتزاز بالأماكن، غزليات في المحبوبة، والتحريض علي اللذة. طبعا الكلام هنا محفوف بالمخاطر، ولا يمكن التعاطي مع أغنية ما باعتبارها كلمات فقط، ولكنه إجراء لا يخلو من فائدة، وأعتقد أن هناك تباينات فيما بين الأجيال المختلفة علي هذا الصعيد، فبكائية الذات المميزة لعدويه والجيل الثاني مثلا ستختفي لاحقا، سنجد عند عدويه "البخت مال مع الأيام وأنا ساكت"، "كل اللي حبوا اتنين اتنين وأنا لوحدي مالياش حد"، "اللي راح راح"، وعند عبد الباسط حمودة "أنا توهت مني"، أما التحريض علي اللذة وإن تواجد بشكل ما عند عدويه، "والله ولعب الهوي"... تعالي نشوف الحب دا عملي سكر ولا شطة"، أصبح هذا المحور شديد الانتشار في الجيل الثالث، مثلا محمود الحسيني، "شارب تلاتة ستلا" و"شربت سيجاره تانيه". الاعتزاز بالأماكن من ناحية أخري، محور مميز للأغنية الشعبية بشكل عام ولكنه أخذ أشكالا متباينة، عند عدوية جرجا وسوهاج وقنا، كوبري عباس، سيدي إبراهيم والمرسي أبو العباس، أما عند الأجيال الأحدث فنجد الوراق وإمبابة والمطرية وعين شمس والدخيلة وأبو قير وكلها أماكن شعبية قح، الملمح الذي أراه خاصا بالجيل الرابع، مغنو المهرجانات، ولم يكن له وجود يذكر فيما سبقه من أجيال هو ملمح اعتزاز الفنان بذاته ومنطقته. مغنو المهرجانات يتقاسم العمل هنا نوعان من المبدعين، المسئولين عن الموسيقي ويسمون دي جيهات والمغنون أو المؤدين، وعاده ما يشترك في العمل الواحد أكثر من دي جي وأكثر من مغني، ولعل هذا هو السبب في تسمية الأغاني هنا بالمهرجانات، من المغنيين الأشهر في هذا اللون الغنائي السادات وعلاء فيفتي وميشو العويل ومن الدي جيهات الأكثر شهرة هنا دي جي عمرو حاحا ودي جي فيجو ودي جي فيلو، يعود أول ظهور لعمرو حاحا علي منتدي أصحاب كول إلي أكتوبر 2009 في مهرجان بالوراق مع محمود رشاد وتبعه الآخرون في الظهور بعد ذلك، طبعا لم يحتفظ هؤلاء المبدعون بلقب دي جي اعتباطا وهذا ما سوف يعيدنا لقصه التكنولوجيا وبالذات فكره اللووب الموسيقي التي تم من خلالها الإطاحة بكل الآلات الموسيقية تماما من فوق المسرح. في إطار الاقتصاد في تكاليف الحفل، تم التخلي عن فكرة الفرقة الموسيقية وتم الاعتماد علي الوسائط الصوتية الأخري التي كانت قد تطورت كثيرا، من هنا ظهر الدي جي، مبدل الاسطوانات، كمتخصص ملم بمعظم الأعمال الموسيقية، وملم أيضا بأجهزة تشغيل الصوت مثل مشغل الاسطوانات والاسطونات المدمجة أو تشغيل الصوت من خلال الكمبيوتر وكذلك أجهزة تلقي الصوت من أكثر من مصدر(المكسر) لدمجه وتوزيعه علي السماعات، في مرحلة تالية تطورت برامج معالجة الصوت وبرامج إنتاج الأصوات الكترونيا (التكنوميوزيك) وهنا ظهرت فكره اللووب. واللووب أو الحلقة في لغة الموسيقي هو تراك أو مسار صوتي مدته تتراوح ما بين واحد وأربعة بارات تقريبا و البار أو المقياس عبارة عن زمن عدد قليل من الضربات، الملمح الأهم في تعريف اللووب هو نجاحه في العمل بدون نشاز إذا ما تم إعادته بدون توقف ليكون تراك صوتي طويل له إيقاع محدد، بإنتاج عدد كافي من تلك التراكات أو المسارات الصوتية لآلات مختلفة أمكن التخلي عن كل الفرقة الموسيقية، طبعا يتم تجهيز تلك اللووبات مسبقا قبل الظهور علي المسرح، وباستمرار يقوم الفريق بتأليف وعزف لووبات جديدة تناسب كل حالة علي حده، وعند الظهور علي المسرح، يتم تشغيل أو إيقاف التراكات الصوتية وحتي التحكم في إيقاعها مع إيقاع المغني يقول فيجو في أحد مهرجاناته: "المهرجانات بقت موضة والكل بيسجل في الاوضة"، بالتأكيد الرسالة واضحة، فالأمر ليس سهلا، والأمر ليس مجرد دي جي، المسألة هي، من خلال مجموعة من الشطرات الموسيقية، كيف تعيد ضم تلك الفسيفساء لتدب فيها الروح؟ كيف تجمع ذلك الكولاج لتنتج إيقاعا هادرا. قال السادات عندما أشرت إلي سيجارة كان يدخنها، قال السادات إنه مؤد وليس مغنيا، المقصود هنا طبعا أن حساسية صوت المغني تجاه الإيقاع هي الأهم، كلمات الأغاني، هي الأخري، شهدت ثورة لا تقل عن مثيلاتها في الموسيقي، فلم يعد هناك موضوع للأغنية في أغلب الأحيان حتي أن المهرجانات أصبحت تسمي بأسماء الأماكن أو المناسبات التي ظهرت فيها الكلمات في أحيان كثيرة هي عبارة عن شطرتين أو أربعة بينهم قافية ليتم تغير الموضوع لشطرات جديدة وموضوع آخر، هذه امثله من مهرجانات مختلفه "الدنيا ملهاش عازه والصحاب في إجازة"، "يا عم يلا عيش وأنا شارب حشيش"، "هات ياد المايك وأنا عملت شعري إسبايك"، "واللي يعجبه يدفع من جيبه"، "الدنيا ماهيش عافيه والناس بقت فاضيه"، "حاجتين مالهومش أمان الصحاب و الزمان"، "يا تعيش راجل يا بلاش عيش"، "الدنيا ياما بتعلم وجه وقتي وهاتكلم" واحيانا يتم الإستعانة بشطرات من أغاني دارجة، طبعا تشكل تلك الشذرات في النهاية نسقا ما بمستويات متفاوتة من التوفيق، ويبدو لي أن هناك درجة ما من الحرية للمغني في اختيار ما يريده، علي حسب مزاجه، وعلي حسب إحساسه بالإيقاع، أما الدي جي من ناحيته، فهو يتدخل ليس فقط من خلال تحكمه في الإيقاع، بل أيضا بصوته من خلال تكرار آخر كلمات المغني بسرعات مختلفة، المحصلة النهائية هي إنتاج حالة فريدة في كل مرة، حيث يستحيل اعاده إنتاج نفس الحالة بنفس الروح مره اخري بسبب كثره العوامل والأحاسيس المتغيرة دوما. المناطقية يبدو لي أن مزيدا من الخبرة ربما سيؤدي لاهتمام اكبر بكلمات الأغاني، هذا من ناحية، ومن ناحية اخري، ألاحظ عدم وجود المرأة حتي الآن داخل هذه الموجه من المغنين، وأخيرا أعتقد أن ملمح اعتزاز الفنان بذاته هنا، علي جدته، إلا أنه يعكس وعيا بسيطا، "لا طب ولا جراحه دا الدكتور عمرو حاحا"، "يا رايحين قلوا للجايين دا حاحا أحلي الموزعين"، وهناك العديد من النماذج بالنسبة لكل واحد من الفريق، وعلي اختلاف المجموعات، كذلك فكره الاعتزاز بالمكان الشخصي، "السلام بلد الكلام" ،و"عندنا كهرباء باللمس علشان إحنا ملوك عين شمس"، "بإسم الزاويجيه بلدنا العالميه"، "الدخلاويه ملوك إسكندرية"، وكذلك الاعتزاز المفرط بالمجموعة وكان ثمة تناحر تلمع نذره في الافق، "العصابة هاتفلبها خرابة". للعلم العصابة هي مجموعة دي جي فيجو والسويسي كما تسمي نفسها في إحدي المهرجانات، أما دي جي فيلو والدخلاوية فهم يطلقون علي أنفسهم المافيا والكلام هنا قد ذهب بعيدا، "واقفين علي قمة حارة والمافيا هي الإدارة"، "أول كلامنا يكون بالأدب بعدين نسحبوا سكاكين". المتشبهون بالشعبي بدخول هذه الموجة الأخيرة من المغنين الشعبيين إلي الساحة، يصبح لدينا ثلاثة أنماط من الإنتاج تتواجد معا، لتصبح الساحة أكثر زخما وتنوعا، جيل عبد الباسط حمودة، الأقرب لأحمد عدوية وجيل محمود الحسيني والليثي وهو الجيل المتصدر الآن، أما الجيل الأخير، جيل عمرو حاحا فهو جيل النقلة التكنولوجية الأكبر، جيل التخفف من الكثير من النواحي (الشكلية) إذا صح التعبير. يغيب عن هذا التصنيف مغنون من أمثال محمد رشدي وحكيم وريكو، حيث أعتقد أن إبداعهم يقع في خانة المتشبه بالشعبي أو الشعبوي، وأظن أن هناك فارقا كبيرا بين أن تكون شعبيا، وان تقرر أن تكون شعبيا، إذ لابد أن هناك شيئا خاصا داخل تلك المناطق والحواري والحتت، داخل تلك البيوت الضيقة المتداخلة المتراصة في تكراريه مضنيه وتلك الشوارع المتشابكة التي لا تنتهي، في كل الأحوال لا تخضع تلك المناطق إلا لآليات الضبط الذاتي، حيث لا يوجد هنا لا سيف المعز ولا ذهبه، هنا الرقابة خفيفة والحياة تكاد أن تكون عارية، طبعا يخرج من تلك الأماكن من ينتمون تمام لذائقة التيار الرئيسي وكذلك يخرج من هنا من يدركون الحقيقة كاملة.